لغة الأسى في «تفصيل ثانويّ»
رواية «تفصيل ثانويّ» بالإنجليزيّة
العنوان الأصلي: The language of grief in ‘Minor Detail’.
المصدر: Mondoweiss.
ترجمة: علاء سلامة – فُسْحَة.
كُتِب الكثير أصلًا عن «تفصيل ثانويّ»؛ الرواية الفلسطينيّة الّتي كتبتها الكاتبة الفلسطينيّة عدنيّة شبلي، ونُشِرت بالعربيّة في عام 2016، وسيُكْتَب عنها كثيرًا في السنوات القادمة. ترجمة إليزابيث جاكيت المميّزة، ونُشِرت في عام 2020 من قِبَل «نيو دايركشنز». حظيت باستقبال جيّد، ووصلت إلى القائمة الطويلة لـ «جائزة بوكر العالميّة» لعام 2021، ووصلت إلى المرحلة النهائيّة في «جائزة الكتاب الوطنيّ للترجمة».
تستند حبكة هذه الرواية، المسكونة بالأرواح بشكل فضفاض، على جريمة الحرب الّتي ارتكبها ضابط إسرائيليّ ورجاله في آب (أغسطس) عام 1949. في عام 2003، نشرت صحيفة «هآرتس» شهادة حول قيام وحدة في الجيش باغتصاب طفلة بدويّة وقتلها، دُفِنت جثّتها في صحراء النقب، وكانت هذه الجريمة واحدة من جرائم الحرب الإسرائيليّة الّتي يندر خضوع مرتكبيها للمحاكمة والعقاب. من هذه البذرة التاريخيّة المأساويّة، طوّرت شبلي لوحة من جزأين تتخيّل الأحداث الّتي قادت إلى هذه الجريمة، وكذلك تبعاتها وأصداؤها الّتي استمرّت عقودًا.
القصّة بين راوِيَيْن؛ المتكلّم والمحايد
الجزء الأوّل من «تفصيل ثانويّ» يتابع نشاطات ضابط إسرائيليّ بلا اسم، أُعْطِيت وحدته مهمّة تطهير منطقة في النقب عرقيًّا، خلال الأيّام الأولى من حياة الدولة الإسرائيليّة الوليدة. أوامره تقضي بإبادة العرب و’المتسلّلين‘ عبر خطّ الهدنة مع مصر.
تُقدّم شبلي هذا الجزء من الرواية عبر صوت راوٍ موضوعيّ، يتحدّث بصيغة الغائب، يسرد بدقّة أفعال الضابط بلغة أدبيّة مشدودة وخالية من العواطف والشخصيّة. يتكوّن هذا الجزء من سرد بعيد، لكن مؤثّر لنشاطات الضابط اليوميّة، الصارمة بشكل سوداويّ. عاداته في الاستحمام، جولاته الاستطلاعيّة في الصحراء، الخالية من أيّ أحداث، تفاعلاته الجافّة مع رجال مجموعته، تعامله غير المهتمّ مع قرصة في رجله تلقّاها من عنكبوت، بالرغم من تفاقم إلى حدّ التعفّن.
قرصة العنكبوت الملتهبة – الّتي يلوم الرائحة المنقرفة المنبعثة منها على الفتاة المختطفة في نهاية المطاف – تصبح واحدة من التفاصيل الثانويّة الّتي تتجمّع لتشكّل لوحة للسيكوباثيّة الضروريّة لتكوين مغتصب قادر على ذبح وإخضاع أناس آخرين مع حصانة.
الجزء الثاني من الرواية يأخذ خيطًا من الجزء الأوّل، بصوت وأسلوب مختلفين تمامًا عن الجزء الأوّل، وتحصل أحداثه في رام الله المحتلّة بعد عقود طويلة. الراوية المتحدّثة بضمير المتكلّم في هذا الجزء امرأة فلسطينيّة غريبة الأطوار، قلقة، تقرأ عن جريمة الحرب هذه الّتي حدثت في عام 1949 في الصحيفة. تلفت الحادثة انتباهها بسبب تفصيل ثانويّ صامت: حدثت جريمة الاغتصاب والقتل في تاريخ قبل ميلادها، قبل خمسة وعشرين عامًا من ميلادها بالضبط.
تقرّر السيّدة أن تخاطر مخاطرة كبيرة وغريبة؛ إذ تأخذ الهويّة الزرقاء من صديقة لها، وتتسلّل من رام الله إلى المنطقة الإسرائيليّة للبحث عن معلومات أكثر. ما يتبع ذلك رحلة غير معقولة عبر حواجز إسرائيليّة عدّة إلى متاحف، وأراشيف، ومستوطنات. تستعمل شبلي، وتغيّر، بسخرية، كليشيه المحقّقة المهووسة الّتي يجب أن تكتشف ما حدث بغضّ النظر عن أيّ ثمن.
خلال الجزء الثاني في الرواية، تشرّح شبلي نظام الأبرتهايد العبثيّ المرمّز بالألوان، ومتاهاته القاسية المكوّنة من أنظمة وقوانين تنطبق على الفلسطينيّين وحدهم. كلّ شيء تغريب واقتلاع، كلّ الخرائط غُيِّرت. وفي ما تسافر الراوية مثل بذرة غريبة في سيّارة مستأجرة في وطنها، يلوح خطر العنف وراء كلّ منعطف. لا شيء في لغة الرواية يشبه روايات التشويق أو أدب الجرائم، هي لغة الموت ذاته، متخفّية بقناع السخرية.
العنصر البشريّ عاريًا
غيّرت عقود من الاستعمار سطح مشاهد فلسطين التاريخيّة، لكن، أسفل زخارف التنمية الصهيونيّة، تقبع آثار ما كان. التفاصيل الثانويّة من الجزء الأوّل تجد طريقها إلى نسيج الجزء الثاني المقلق (نباح كلب، عنكبوت، جمال مهجورة)، وندرك نحن أنّ الراوية، دون أن تنتبه، مجرّبة على التعامل مع شبكة الرموز والعلامات الغامضة الّتي حكمت الجزء الأوّل من الرواية. وإذ تقترب أكثر من مكان وقوع الجريمة الأصليّة، ابتدأ التناظر في قصّتها وقصّة الفتاة البدويّة بالاندماج.
أحد أهمّ مقوّمات الرواية تحفّظها على مستوى الجمل، وبنيتها البسيطة الخادعة، ببطلَيها المتميّزين: الضابط الإسرائيليّ والمرأة الفلسطينيّة، لا يعرفان شيئًا عن ظروف بعضهما بعضًا، لكنّنا نعرف، من خلال قراءة السرديّات المتضادّة جنبًا إلى جنب؛ فإنّنا نُجْبَر على خلق المعاني من خلال الكيفيّات الّتي تعكس الأجزاء المختلفة بعضها بعضًا من خلالها وتنكسر. في الجزء الأوّل، الفتاة البدويّة صامتة، بلا صوت، منزوعة الإنسانيّة، ويُشار إليها كأنّها الغياب ذاته. لكن، في مرآة الجزء الثاني المشوّهة، فإنّ توأمها هي في الوقت ذاته نقيضها. هكذا، فإنّ الرواية ترسم خطّين: الاختلاف في الوعي بين حقبة النكبة والوقت المعاصر، والمسار الّذي يظلّ ثابتًا؛ العنف العنصريّ.
على عكس ما هو متوقَّع في القرن الحادي والعشرين؛ من ’شخصنة‘ شخصيّات الرواية، وإلباسهم ’تفاصيل مؤنسِنة‘، يبقى الضابط والباحثة في الرواية بلا اسمين، ويخلو نصّ الرواية تقريبًا من الحوار. الشخصيّات الشبه الصامتة، الشبه المجهولة، الّذين يؤدّون أفعالًا تُوصَف بوضوح، تؤدّي دورًا مهمًّا في إظهار الميّزات الأبويّة للاستعمار الاستيطانيّ، حيث يبقى المستعمر مسيطرًا على الحيّز الجغرافيّ، وكذلك على الحيّز النفسيّ. تُسْتأصَل ’الشخصيّة‘، وتبقى ميكانيكيّات الجهاز البشريّ عارية.
دقّة العدسة، وعوز العاطفة، وانعدام تدخّلات الكاتبة – كلّ هذه الصفات – تعطي الرواية ميّزاتها الأصليّة والاستعاريّة، وتشير إلى عواطف أرقّ من الغضب، تحديدًا محنة توقّف القلب، وأسًى شديد. بهذه الطريقة، تذكّر «تفصيل ثانويّ» بمقالة الفيلسوفة الفرنسيّة الماركسيّة الكاثوليكيّة سيمون ويل «الشخصيّة البشريّة»، الّتي تؤكّد فيها أنّ ما هو غير شخصيّ، وحده المقدّس. بالنسبة إليها، الشيء الوحيد الّذي يُحْتسَب في حسابها الأفلاطونيّ هو العنصر البشريّ، الّذي يبقى بعد تجريد الأنا، والشخصيّة، وكلّ ما هو عرضيّ.
إضافة إلى ويل، يأتي إلى البال فيلم بريسون «عشوائيّة بلتزار» (Au Hasard Balthazar)، وكذلك فنّان الكاريكاتير الفلسطينيّ ناجي العلي. بعد أن واجه أربعة عقود من الوحشيّة، لم يتبقّ لشخصيّته الأيقونيّة حنظلة ما يقوله. قوّته العظمى تتمثّل في أن يكون شاهدًا بلا وجه، عاقدًا يديه وراء ظهره.
تصحيح صامت للرواية السياسيّة
في تعليقها على الرواية، تسمّي الروائيّة الهنديّة مينا كانداسمي «تفصيل ثانويّ» بـ”الرواية السياسيّة الّتي انتظرناها جميعًا”. هي تمامًا هكذا. الرواية سياسيّة في الطريقة الّتي تكشف فيها انعدام التوازن في القوّة، الّذي زرعته القوى السياسيّة، لكنّها لا تضع نفسها ضمن أدب الاحتجاج. شبلي تتجنّب، بوعي، كلّ الرموز القوميّة، خالقةً جوًّا مميّزًا، يتغلغل فيه المحتوى السياسيّ في الشكل المكتوب.
تبدو شبلي غير مستثمرة في مهمّة ’تمثيل الفلسطينيّين‘ المحمومة، ولا في ’تحريك القرّاء‘ أو ’إطلاق صافرات الإنذار‘. على العكس من ذلك، تُقدّم فحصًا تأمّليًّا في عمل اللغة، والقوّة والعنف. «تفصيل ثانويّ» لم تَكْتُبْ عن الاحتلال، إنّها تقف مثل تصحيح صامت للرواية السياسيّة، المشبعة بتعابير الصدمة الّتي لا يمكن احتمالها.
أصالة شبلي كانت في أنّها سمحت لنفسها ألّا تمثّل الألم، بل أن تحوّله إلى لغة. الألم والأسى من خسارة مثل هذه يكشفان نفسيهما ببطء وثبات يتسرّبان عبر الصفحات. مثلما في اللغة، مثلما في الشعر، ومثلما في اللحم، فلسطين مرّة أخرى امرأة في هذا العمل الروائيّ الّذي لا يُنْسى، والّذي ينظّم الحواسّ كلّها نحو كلّ ما هو جرم في هذا العالم البشريّ.
روزَنَة: إطلالة على الثقافة الفلسطينيّة في المنابر العالميّة، من خلال ترجمة موادّ من لغات مختلفة إلى العربيّة وإتاحتها لقرّاء فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة. موادّ روزَنَة لا تعبّر بالضرورة عن مبادئ وتوجّهات فُسْحَة، الّتي ترصدها وتنقلها للوقوف على كيفيّة حضور الثقافة الفلسطينيّة وتناولها عالميًّا.
المصدر: عرب 48