بعض التريّث لا يضرّ
لا أدري ما يجب عليّ قوله -كوني أحد أبناء هاشم وأكتب باسم العائلة في هذه الذكرى- عن هاشم، فكلّ ما يقال أو قد يقال ولن يقال، لن يخرج من عباءة “ابن جريح أو زوجة جريحة”، وبالتالي فالشهادة مجروحة، وأجد حرجًا كبيرًا في الحديث عن هاشم…
هذا الحرج ليس انطلاقًا من إدراك عدم الموضوعيّة وتوتّر العاطفة، فكلّ من عرف هاشم، أو سمع عنه، سيدرك لا محالة أنّ هذا الكلام لا يفيه حقّه، وسيدرك حتمًا أنّ هذا ليس بـ”كلام الأبناء”.
هذا الحرج مردّه نظرات أبي، هاشم، تتملّكني نظراته بعبوسٍ، وكأنّه يقول: “قليل من التواضع يا هذا”.
لقد بالغ هاشم في التواضع، أذكر جيّدًا حياءه المبالغ لحظة سماع كلمة مديح بحقّه، يستحقّها طبعًا، لكنّها ثقيلة على مسمعه، كأنّه يتمنّى أن تبتلعه الأرض ولا يشهدها.
أراه يحدّق بي غاضبًا، أشعر بأنّني أرتكب جرمًا كبيرًا بحقّه، يتوعّدني عند اللقاء، “أنت تحرجني بكلامك هذا، أنت تبالغ، أنا أبوك، الناس لا ترى ما تراه أنت…”.
ولربّما -حتّى ألقاك، إن شاء الله… إذا كنتُ مثلك من الصالحين- هذه فرصتي الوحيدة لأتكلّم عنك دون ضوابط التواضع، ودون رادع من معاتبتك
والله كنت لأستغلّها أيّما استغلال، لكن بعض التريّث لا يضرّ (كما ردّد هاشم دائمًا)، وعليّ أن أوازن بين عاطفتي كابن فاقد، كأبناء، كزوجة، وبين رغبة هاشم الضابطة لفيْض العواطف.
لذلك أجد هذه اللحظة فرصة للتعبير عن حبّ هاشم لمكان عمله “عرب 48″، الذي لم يكن “مكان عمل” بالنسبة له أو “مصدر رزق” فحسب، بل أستطيع القول إنّ مكان عمله تطلّب في بعض الأحيان في ما مضى، الكثير من التضحية ونُكران الذات (حينها كان موقع “عرب 48” صغير الطاقم، ويتكوّن أحيانًا من موظّف واحد: هاشم)، لكنّه كان له منصّة وطنيّة قاتل للحفاظ عليها، وفضّلها أحيانًا على نفسه، وعمل بكدّ وبجدّ إيمانًا بدوره وبضرورة بقاء المنصّة. آمن بالإعلام الوطنيّ الحرّ، وراهن على الوعي، ولم يبدّل العمل اليوميّ الدؤوب بأيّ شيء، ولطالما قال لنا إذا ما امتعضنا نحن الأبناء من ظروف عمله حينها، أو من حاجتنا إليه، أنّ هناك آلاف الشهداء والأسرى دفعوا ويدفعون الثمن يوميًّا، ويقدّمون التضحيات يوميًّا، وأنّه لا يرى نفسه إلّا بالمقارنة معهم، وبتضحياتهم، وما يضحّي به هو ما هو، إلّا القليل القليل.
كانت كلماته هذه تشحذنا وتشحننا بلحظات كرامة، تشكّل طاقة دفع لعدّة أيّام قادمة، وهكذا… شكّلت هذه اللحظات الصغيرة، وهذه الرسائل العميقة الكبيرة وعيَنا بالتدريج، واندمجت فينا بشكل يوميّ، إلى أن باتت تضحيته وأفكاره لا تنفصل عنّا، حتّى إذا ما شئنا التخلّص منها دفعًا نحو الفردانيّة والخلاص الفرديّ.
كذلك أرى من الضرورة لفت الانتباه إلى نجاح الموقع في التحوّل إلى مؤسّسة إعلاميّة كبيرة، تحوي الكثير من الصحافيّين المهنيّين الوطنيّين، وشكّلت بيئة عمل مريحة لعشرات الشبان، وساهمت في صناعة جيل جديد من الصحافة الوطنيّة الحرّة، فقد كان في هذا عزاء كبير لنا، بأنّه حصل أخيرًا على بعض مبتغاه؛ أن يكون “عرب 48” عنوان الصحافة الوطنيّة الحرّة في الداخل الفلسطينيّ، وأنّه في النهاية استطاع أن يتفرّغ ويخصّص جهوده بالعمل الصحافيّ، وتعلو وجهه ابتسامة ويتمتّع ببعض هدوء البال، نحو استثمار في قدراته الصحافيّة والتربويّة.
لهاشم في موقع “عرب 48” أصدقاء أوفياء، لم يتركوه، وصانوا ذكراه، ولم يتنازل عنهم هو أيضًا، وحتّى في اشتداد محنته أصرّ على زيارة المكتب بعد كلّ علاج، والاطمئنان على الأصدقاء.
أنا لا ألخّص شيئًا أو تجربة، بل أفضي بعض الأحزان التي وجدتها جالسة لا تبرح عن عتبة قلبي.
المصدر: عرب 48