طفولة فلسطين المصدومة
خلال دراستي للماجستير في الدراسات الإسرائيليّة في «جامعة بير زيت»، استوقفني مساق اختياريّ يناقش الصدمة النفسيّة لدى الأطفال والمراهقين في علم النفس التحرّريّ، بحيث تتدرّج الدراسات من السياق العالميّ إلى السياق الفلسطينيّ. كتابة هذا المقال تشكّل تحدّيًا بالنسبة إليّ؛ لأنّني لست اختصاصيّة نفسيّة ولا حتّى باحثة، بل مجرّد طالبة لن تملك ما يكفي من الوقت فوق هذه الأرض للإحاطة بكلّ ذلك. لذا؛ فإنّني أكتب هذه الكلمات من وجهة نظر تلميذة لا غير.
يحاول المقال لفت النظر إلى ما قد تعنيه الصدمة النفسيّة في الأماكن البينيّة (مناطق ج)، أو ما أسماه هومي بابا بـ ’الفضاء الثالث‘[1]، تحديدًا المدن والقرى القريبة من المستوطنات والخالية من المخيّمات، الّتي تتعرّض إلى العنف الرمزيّ بشكل شبه مستمرّ، علمًا أنّ وجود العنف الرمزيّ لا يعني غياب العنف المباشر، لكن بعض هذه المناطق؛ ولقربها الشديد من المستوطنات، غالبًا ما يكون العنف فيها غير مباشر.
إذ غالبًا ما تُركّز التدخّلات والأبحاث الأكاديميّة على مناطق جغرافيّة بعينها، مثل المخيّمات ومدينتَي القدس وغزّة[2]، متجاهلة مناطق (ج) الّتي تشكّل بؤرة للصدمات النفسيّة، خاصّة لدى الأطفال الفلسطينيّين. وهنا لا بدّ من الإجابة عن عدد من الأسئلة، ومنها: ما نوعيّة الطفولة في هذه الأماكن؟ ما طبيعة الصدمات النفسيّة فيها؟ وكيف تختلف عن المناطق الأخرى؟ ولماذا من الضروريّ تشريح المنظور الإيكولوجيّ الّذي تبنّاه الأكاديميّون، وإعادة تأطيره مرّة أخرى؟ وكيف يفيدنا ذلك في التأسيس لدراسات نسقيّة؟
الصدمة بين النظريّة والواقع
بدأ علم النفس التحرّريّ مع مارتن بارو[3] بلفتِ النظر إلى ارتباط الصدمة بالمجتمع ككلٍّ، دون أن تقتصر على فرد بعينه؛ فهي عابرة للأجيال، وعلائقيّتها تطال البيئة أيضًا، كما ورد لدى غاربرينو في دراساته السابقة. من هنا؛ تكاثفت الجهود الأكاديميّة الفلسطينيّة لتوثيق الصدمة النفسيّة، وسيقنتها مستعينة بالمنظور الإيكولوجيّ[4]، الّذي طالَب بدراسة الإنسان في سياقه الاجتماعيّ الجيوسياسيّ. ووُثِّقت عشرات الدراسات الّتي فكّكت مفهوم الصدمة في فلسطين بصفتها بلدًا مستعمَرًا، آخذةً مخيّمات اللاجئين ومدينتَي القدس وغزّة في عين الاعتبار. إلّا أنّ الدراسات الّتي وثّقت مناطق (ج) تكاد تكون معدومة[5]، وهو ما يعني أنّ مفهومنا عن الصدمات سيبقى محصورًا ضمن النطاق الواسع، وسيُنْظَر إليه بمنظور خطّيّ شموليّ يحرمنا من إدراك الواقع المعيش في بعض المناطق المحتلّة، ويؤثّر في صياغة التدخّلات، ويقلّل من فرص نجاحها؛ لأنّ تطبيق ما هو شموليّ على مناطق تختلف طبيعتها الجيوسياسيّة عن المناطق الأخرى، يعني فشلًا في الحصول على تدخّلات ناجحة ونتائج مُرضية.
تكاثفت الجهود الأكاديميّة الفلسطينيّة لتوثيق الصدمة النفسيّة، وسيقنتها مستعينة بالمنظور الإيكولوجيّ، الّذي طالَب بدراسة الإنسان في سياقه الاجتماعيّ الجيوسياسيّ…
من ضمن الأسباب المؤثّرة في دراسة أماكن بعينها، اشتراك أكاديميّين أجانب إلى جانب الأكاديميّين الفلسطينيّين في كتابة الأبحاث، أو حتّى توثيق أكاديميّين أجانب، دون اشتراك مع أحد، للمواقع الّتي غالبًا ما تكون الصدمات فيها واضحة مثل الأماكن الّتي ذكرناها أعلاه. من جهة أخرى تؤثّر الأجندة البحثيّة والتمويل الغربيّ في طبيعة المناطق المدروسة، وتفرض بالتأكيد لغة بحثيّة ومفاهيميّة، وحتّى تدخّلات معيّنة، مع أنّها كثيرًا ما تكون بعيدة كلّ البُعد عن الواقع. انطلاقًا من هذه الملاحظات، سأحاول التفكير في مناطق (ج)، ونوعيّة الصدمات الّتي يتعرّض لها الأطفال على وجه التحديد، ومدى علاقتها بالعنف الرمزيّ غير المباشر في كثير من الأحيان.
الطفولة في الفضاء الثالث
يمكن تعريف الفضاء الثالث بشكل أساسيّ على أنّه المكان الّذي يمتاز بهجنة الهويّات واختلاطها، واستحالة قولبتها داخل ثنائيّات. إنّ العيش في مناطق الهجنة والانشطار خارج المعاني المتعارف عليها للهويّة، يقوم على التفاوض[6] المتبادل بنيويًّا بين الذوات الاستعماريّة لانعدام الخيارات المتاحة. تأثَّر بابا بشكل أساسيّ بالمرآتيّة[7] عند لاكان، وقسّمها إلى قسمين: المرحلة ما قبل المرآتيّة الّتي لا تعدو كونها شعورًا ثابتًا داخل الطفل نفسه، والمرحلة المرآتيّة الّتي يتبنّى فيها الطفل علاقته بالآخر. استخدم لاكان المرآة مثالًا على حالة الانشطار بين الطفل وذاته، الّتي يرى بأنّها غير واقعيّة، ولا تمثّله أو يمثّلها، وهي نتاج ثلاث مراحل: التفاعليّة، وانزياح واقعيّة الصورة، والتقمّص للصورة الظاهرة، واعتبارها ذاتًا غريبة تحوّل بحضورها ذات الطفل من شكل إلى آخر؛ منتجةً صراعًا بين الذات وواقعها؛ لتشكّل فضاء جديدًا تُعاد فيه صياغة المفاهيم؛ ممّا يعني صهر الهويّة في واقع حدّيّ متطرّف؛ لأنّ التمثيلات في حقيقتها ليست إلّا ابتذالًا ووهمًا في الحضور.
تتشابه نظريّة الفضاء الثالث مع المناطق البينيّة، وتمنحها تعريفًا أكاديميًّا في سياق الاستعمار الاستيطانيّ في فلسطين. مع ذلك، لم تتناول هذه النظريّة الحيّز الطفوليّ، ولم تُوثّق حياة الأطفال بوصفهم مستعمَرين يعيشون في فضاء ثالث. لذا؛ سأقدّم بعض الأمثلة الّتي تدلّل على إمكانيّة تبنّي هذه النظريّة فلسطينيًّا، مثلًا: أجريت سابقًا مقابلات مع أطفال ما بين 4 و6 سنوات لا يعرفون شيئًا عن الاستعمار، أو أنّ معرفتهم تشكّلت أثناء انتقالهم في السيّارة من منطقة إلى أخرى؛ إذ تفاعلوا حينذاك للمرّة الأولى مع الجنديّ من خلال النافذة، دون وجود حاجز فعليّ. أحد الأطفال قال إنّ الجنود يُخيفونه لأنّهم “يرتدون ثوبًا أخضر، ويسألون الناس عن أسمائهم”. وآخر كان الجنديّ بالنسبة إليه شخصًا يجبره على الاختباء تحت كرسيّ السيّارة، في ما أشارت إحدى الفتيات إلى أنّ الجنديّة ابتسمت لها، وسألتها عن حالها. هذا النوع من قلق تعريف الذات يُثير تساؤلًا حول معنى الذات، وكيفيّة تقديمها للآخر المستعمِر. يمكن أن يتشكّل لدى هؤلاء الأطفال ما يمكن تسميته بـ ’صدمة النافذة‘، وهو نمط من الصدمات النفسيّة المتشكّلة في الفضاء الثالث، ولم يُنْظَر إليه بحثيًّا حتّى الآن، ربّما لأنّه ليس واضحًا بما يكفي، أو لأنّه لا يتماشى والمنظور العامّ لطبيعة الاستعمار الاستيطانيّ في فلسطين.
’صدمة النافذة‘، نمط من الصدمات النفسيّة المتشكّلة في الفضاء الثالث، ولم يُنْظَر إليه بحثيًّا حتّى الآن، ربّما (…) لأنّه لا يتماشى والمنظور العامّ لطبيعة الاستعمار الاستيطانيّ في فلسطين…
أمّا المثال الثاني فيتعلّق أيضًا بالعنف الرمزيّ – مع تأكيد أنّ وجود العنف الرمزيّ لا يعني حضور العنف المباشر في بعض الأحيان، لكن هناك مناطق تكون معرَّضة للعنف المباشر أكثر من غيرها – وتأثيره في طريقة مقاومة الأطفال والشبّان للاستعمار؛ إذ ظهر الصمود لدى أطفال الفضاء الثالث عام 2021، بطريقة مبتكرة في قرية بيتا قضاء نابلس، باستخدامهم ’الليزر‘، وهو عبارة عن لعبة بحجم إصبع اليد، شبيهة بشكل الرصاصة، فيها أشعّة ليزر ملوّنة غالبًا باللون الأحمر أو الأخضر. سلّط الشبّان هذه الأشعّة على ’بيوت المستوطنين‘ في ’بؤرتهم الاستيطانيّة‘، وعلى سيّاراتهم؛ وهو ما أدّى إلى فقدانهم السيطرة عليها نتيجة انعدام الرؤية، متسبّبين بحوادث سير وإزعاج بصريّ.
كيف يقرأ الباحث أو الاختصاصيّ هذا العنف ومقاومته، إن لم يكن جزءًا من سياق حياته اليوميّ، ويتعرّض له هو أيضًا بصورة يوميّة؟ وهل يكفي تعميم السياق للكشف عن هذه الانتهاكات والصدمات؟ هنا، أدّعي أنّ السياق العامّ ليس كافيًا لفهم جميع حالات الصدمات النفسيّة وخصوصيّتها في فلسطين؛ لأنّ الاستعمار حوّل مدننا وقرانا إلى شظايا؛ ولهذا السبب نحن في حاجة إلى تفكيك المنظور الإيكولوجيّ أكاديميًّا؛ من خلال المطالبة بدراسات نسقيّة.
أنساق السياقات
يُعْتبَر النسق جزءًا أساسيًّا من السياق في الخطاب عامّة، وفي المنظور الإيكولوجيّ خاصّة. مثلًا، لاتّخاذ قرار ببناء البيت، يجب أوّلًا اختيار الأرض والمدينة، هذا هو السياق. أمّا النسق فهو آليّة أو نظام تقطيع البيت وتقسيم الغرف وترتيب الديكور. في سبيل المقاربة فلسطينيًّا؛ سأستخدم مدينة رام الله على سبيل المثال لا الحصر: الأطفال الّذين يسكنون في منطقة المقاطعة، حيث للسلطة الفلسطينيّة وجود مستمرّ، وثمّة تمظهرات لمفاهيم الأمن مشدَّدة في منطقتهم، يختلف نسقهم عن نسق الأطفال الّذين يسكنون قرب مستوطنة بيت إيل، حيث المواجهات مع الاستعمار شبه يوميّة، مع أنّ المجموعتين من المدينة، أي ’السياق‘، نفسها.
على الرغم من اعتراف المنظور الإيكولوجيّ بوجود النسق، إلّا أنّ الأدبيّات العالميّة، وحتّى الفلسطينيّة، كانت تفترض وجود نسق ثابت للسياقات المختلفة الّتي تدرسها، أو تقدّم التدخّلات فيها. هذا يعني أنّ هناك مجموعات ستظلّ أصواتها مغيَّبة لأنّها تُشمَل ضمن السياق المصغَّر، ولا تُدرَس على أنّها نسق. لذا، فالتفكير في التأسيس لدراسات نسقيّة كجزء أساسيّ من السياق، يساعدنا في الحصول على معرفة دقيقة، وصياغة تدخّلات أكثر واقعيّة ونجاحًا، ويحرّرنا من التقيّد في سياقات ثابتة متكرّرة، تُغيِّب الجزء الآخر من الحقيقة المتوارية داخل الأنساق.
هناك مجموعات ستظلّ أصواتها مغيَّبة لأنّها تُشمَل ضمن السياق المصغَّر، ولا تُدرَس على أنّها نسق…
لسبب ما؛ تُذكّر الأنساق بحكاية شهرزاد مع شهريار في كتاب «ألف ليلة وليلة». كيف استخدمت شهرزاد القصص اليوميّة لتنجو من الموت، وكانت كلّ حكاية تنتهي دون أن تكتمل، لكنّها ترتبط على نحوٍ ما بسابقتها، وشهرزاد رغم استخدامها الحكايات الكثيرة إلّا أنّها أبقت السياق الأساسيّ نصب عينيها: أن تنجو من الموت. هكذا، تبدو الأنساق بطريقة ما بعيدة نسبيًّا عن السياق أو الواقع العامّ، ولكنّها في حقيقة الأمر ترتبط على نحو وثيق بالمشهد الكلّيّ.
ختامًا، أظهر المقال بعضًا من طبيعة الطفولة في بعض مناطق (ج)، وكيف تختلف نسبيًّا عن الطفولة في المدن الفلسطينيّة الأخرى، الّتي يكون العنف مباشرًا وشديد الوضوح فيها. وقدّم أمثلة على بعض الصدمات الّتي يتعرّض لها الأطفال في مناطق ج، والّتي تُعْتبَر مغيَّبة وغير مدروسة؛ لأنّها تُشمَل ضمن السياق التقليديّ. كما ناقش ادّعائنا بضرورة قيام الباحثين بدراسات نسقيّة، تأخذ الخصوصيّة الجيوسياسيّة بعين الاعتبار؛ لأنّ الاستعمار عَمِلَ على تحويل الحيّز الفلسطينيّ إلى شظايا. وعليه، يمكن التفكير بالدراسات النسقيّة بوصفها مدخلًا مهمًّا للاختصاصيّين، للتفكير في تدخّلات مستقبليّة تتناسب وطبيعة المكان، والطفولة الّتي تعيش فيه.
إحالات
[1] يُنْظَر بشكل أساسيّ إلى كتاب هومي بابا، موقع الثقافة، ترجمة ثائر ديب (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2004).
[2] هناك الكثير من الأبحاث الّتي وثّقت الصدمة والصمود النفسيّين لدى الأطفال والمراهقين في فلسطين، مثلًا:
Shalhoub-Kevorkian, Nadera, and Nādirah Shalhūb-Kīfūrkiyān. Incarcerated childhood and the politics of unchilding. Cambridge University Press, 2019.
[3] Martín-Baró, Ignacio. Writings for a liberation psychology. Harvard University Press, 1994.
[4] Garbarino, James. “An ecological perspective on the effects of violence on children.” Journal of community psychology 29.3 (2001): 361-378.
[5] مثلًا:
Massad, Salwa, Umaiyeh Khammash, and Rosalyn Shute. “Political violence and mental health of Bedouin children in the West Bank, Palestine: a cross-sectional study.” Medicine, conflict and survival 33.3 (2017): 188-206.
أيضاً:
Nguyen‐Gillham, Viet, et al. “Normalising the abnormal: Palestinian youth and the contradictions of resilience in protracted conflict.” Health & social care in the community 16.3 (2008): 291-298.
[6] كما يرد في الهامش الأصليّ لمترجم الكتاب ثائر ديب: التفاوض/ Negotiation مصطلح شائع لدى هومي بابا والنظريّة ما بعد الاستعماريّة عمومًا. تفسّر غواتاري سبيفاك هذا المصطلح بالإشارة إلى أنّ الخصم يجب أن يُحارَب على أرضه وبأساليبه. التفاوض هو أن يحاول المرء تعديل شيء فُرِض عليه؛ لأنّه مرغم على الإبقاء على تلك البنى، ولا يستطيع قطعها تمامًا.
[7] لاكان, جاك، وليد الخشّاب. “مرحلة المرآة/Le stade du miroir.” Alif: Journal of Comparative Poetics (1994): 175-183
كاتبة فلسطينيّة من مواليد مدينة بيت لحم عام 1999، دَرَسَتْ «الإعلام» في «جامعة بير زيت»، وصدرت لها عدّة روايات، وتكتب في عدد من المنابر الإعلاميّة الفلسطينيّة والعربيّة.
المصدر: عرب 48