مخلّفات البناء وكيفية معالجتها في صلب التصميم المعماري
فوجئ كل من زار أسبوع دبي للتصميم، بمظلة مستطيلة محملة بما يتجاوز 2.5 طناً من مخلفات البناء، بارتفاع 4 أمتار، وقد أطلق على هذا المشروع، «كم تزن ردمياتك؟»، وهو عملٌ فنّيّ مبتكر يشكل دعوةً إلى النقاش وتبادل الأفكار حول مخلّفات البناء، وكيفية معالجتها، وآثارها السلبية على البيئة، يهدف إلى تسليط الضوء على حجم مخلّفات البناء التي يتمّ تجميعها في «مطامر»، والأضرار البيئية الناجمة عنها على مستوى منطقة الشرق الأوسط والعالم. وهو مكوّن من إطار من الصلب وشبكة من الفولاذ المقاوم للصدأ، ويهدف بتصميمه الذي ينفرد بالصلابة وموادّه الخام، إلى نشر شعورٍ بعدم الراحة، عند المرور تحته أو بالقرب منه، وصولاً إلى طرح السؤال المصيري: «ما الذي سيحدث إذا غمرت المخلّفات العالم كلّه؟». تم استلهام اسم المشروع من الفيلم الوثائقي الذي يحمل اسم «كم يزن المبنى الخاص بك يا سيد فوستر»؟ قابلنا مصمّمين ومهندسين معماريين من استوديو «كوارتز» للتصميم والهندسة المعمارية، في الرياض، الذين نفذوا هذا العمل.
عادت شهد السديس، مهندسة معمارية سعودية، وشريك مؤسس في «معماريون»، حاصلة على شهادة الماجستير في العمارة من معهد برات في نيويورك، الولايات المتحدة الأمريكية. تعود شهد بذاكرتها إلى طفولتها التي اكتشفت فيها ميلها للجانب الإبداعي، الذي عززته بالاطلاع واكتشافات الحضارات من خلال السفر إلى أماكن ثرية بمخزونها الثقافي، تتابع السديس: «التعرف إلى أشخاص من ثقافات اخرى، ومعرفة حاجاتهم وأسلوب حياتهم يغني المخزون المعرفي، وقد تابعت كورسات في تصميم الأثاث، والتصميم الجرافيكي، والتصوير المعماري، كنت أحاول تخزين شمولية بفهم فكرة التصميم؛ لأنه في النهاية مجالات التصميم تتشارك في العناصر نفسها ومبادئ التصميم الأساسية يتم تطبيقها على مختلف المجالات».
تعمل شهد في «كوارتز» للتصميم والهندسة المعمارية المتعدّد التخصصات بين الرياض ونابولي منذ العام 2020، وقد تم تأسيسه من قِبل مصمّمين ومهندسين معماريين من المملكة العربية السعودية وإيطاليا، وهم: شهد السديس، وريكاردو سوريكا، وأنطونيو سوريكا، ولورنزو دي روزا، وأنطونيو فيردي، وسلفاتور سكاندورا. أخذ دفة الحديث ريكاردو سوريكا، مصمم ومؤسس في الشركة، وقال: «الفن والعمارة جزآن متلاحمان، وأفكار تصاميمنا مستوحاة من الهوية الثقافية، تعاملنا معها بدءاً من الفرد المقيم في المدينة، وصولاً إلى المنازل والمناظر الطبيعية المحيطة بنا، من مفهومٍ يجمع بين الهندسة والفنّ المعماري».
شهد السديس: نعيد بتصاميمنا اكتشاف اللغات التي غالباً ما يتم نسيانها أو إساءة تفسيرها
هدفنا هو التوضيح
تدمج تصاميم الاستوديو بين الإرثيْن السعودي والإيطالي؛ حيث يقوم على التفاعل بين المعرفة والخلفيات الثقافية والمجتمعية المختلفة، بما هي أداة لتصور كل مشروع من منظور جديد ومنفرد لتحقيق حلول تصميم مبتكرة، تستدرك شهد: «الهدف الرئيس منها إعادة اكتشاف اللغات التي غالباً ما يتم نسيانها أو إساءة تفسيرها. نحن نولي أهمية كبيرة للدراسة التي يمكن أن يعطيها العصر المعاصر لتاريخنا، هي ليست مجرد زخرفة، ولكنها نظرة نقدية وفرص بحث ضرورية للحفاظ على قيمتها».
عند الحديث عن الاتجاه الذي يبدع فيه المصممون الشركاء، لا يجده ريكاردو سوريكا سهلاً؛ إذ يمثل كل مشروع قصة جديدة وفرصة بحث رائعة. يتابع قائلاً: «إن كل انعكاسات لدينا تستمد إشاراتها من شرارة، التي تمثل مشكلة أو حاجة لإرضاء العميل أو المؤسسة، والتي تحدد بداية عملية جماعية لفريقنا. نحن نستجوب المبدأ بشكل عرضي وديناميكي، ومن خلال وسائل التصميم، هدفنا هو التوضيح، وغالباً ما ندرك أن ما تم السعي إليه منذ البداية كان مجرد مسألة جزئية أو مرتبطاً بمجال الصور، التي تنقل من خلالها تكنولوجيا اليوم رغباتنا. لذلك، يمكننا تلخيص الاتجاه الإبداعي للاستوديو الخاص بنا بالقول إننا نتصور التصميم ليس بوصفه نسخة طبق الأصل، ولكن بما هو شيء جديد وديناميكي يحتضن تعقيد الحاجات العملية والجمالية، مع إدراك أنه لا يوجد شيئان متشابهان».
تابعي المزيد: المهندسة إيفا شوميلاس Eva Szumilas: العودة إلى روح الفنون الزخرفية هو شعاري
نقدم النهج الواعي
توضح شهد، أن أفكار الفريق مبنية على التعاون، والجمع بين ثقافتين مختلفتين، شرقية وغربية، تعلّق قائلة: «نحن نحاول عندما نصمم أن نفضل أسلوباً نشأ من الإلهام التقليدي، ولكن بلمسة معاصرة، تتناسب مع حياتنا اليومية، نختار المواد سوية، ونوزع الفراغات الداخلية، بصمتنا مختلفة في كل مشروع».
يبحث الفريق في اللغات المعاصرة من أجل الوصول إلى إجابات مبتكرة للأسئلة التي تطرحها الأزمة المستمرة في نطاق الهوية الثقافية؛ حيث يعد التنوع والتكامل من المعالم الأساسية لأي عملية، وهما المبدآن الدافعان لكوارتز. يؤكد كل من سوريكا والسديس: «نحن نؤمن بقوة التفاعل بين المعرفة والخلفيات السعودية والإيطالية، بوصفها أداة لنقل قيم التصميم الجديدة والأفكار الإيجابية إلى كل مشروع دائماً، من الناحيتين المهنية والثقافية. التصميم المعاصر ليس أسلوباً على وجه الخصوص، بل هو النهج الواعي الذي نريد تقديمه».
ريكاردو سوريكا: كل انعكاسات لدينا تستمد إشاراتها من «شرارة»، تمثل مشكلة أو حاجة
تحدٍ تقني جريء
من تحليل عمليات الإنتاج لقطع المواد، مثل الرخام والحجر في إيطاليا، قام الفريق بتصميم سلسلة من المطابخ التي كانت تتكون فقط من شظايا صغيرة متبقية كان من المفترض أن تكون نفايات. يقول أنطونيو فيردي، أحد مصممي ومؤسسي الشركة: «لا يزال موضوع القطع يهيمن على الاستوديو الخاص بنا في الرياض؛ حيث الأرضية عبارة عن فسيفساء من السيراميك المكسر».
عاد أنطونيو إلى أغرب تجربة، وهي العمل الفني الأخير «كم تزن ردمياتك؟»، خلال أسبوع دبي للتصميم؛ حيث يعد تكوين نفايات البناء الحقيقية بارتفاع 4 أمتار والمشي تحتها كان تحدياً تقنياً جريئاً ومعقداً للغاية. يضيف موضحاً: «واجهنا صعوبة الوزن، وتطلب منا دراسات وحسابات إنشائية لتحمّل ضغط 150 كيلوغراماً لكل متر مربع. ومن التحديات الأخرى مصدر الردميات الناتجة من مواقع البناء المحلية، وهي مكوّنة من نفايات صلبة ومعدنية (طين وخرسانة إسمنتية وطوب وغيرها)، ومن الخشب العادي والمضغوط والحديد والأنابيب البلاستيكية. وقد تم التعاون مع «دلسكو»، المزوّد لحلول إعادة التدوير في دولة الإمارات العربية المتحدة، التي قامت بتقديم جميع مخلّفات وردميات البناء المستخدمة في هذا العمل الفني».
في بداية الفكرة، كما قال الفريق، «كان من المأمول ألا يتم استخدام مخلفات البناء الحقيقية، ولكن ربما مواد بديلة تجسد رسالتنا، لكن عندما ألقينا أطنان من النفايات على الشبكة، تحمسنا مع جميع العمال الذين قدموا لنا الدعم. تم تنفيذ موقع البناء بالكامل أثناء الليل حيث إن منطقة المشروع مكتظة بالسكان خلال النهار، كانت تجربة مسلية للغاية. خلال النهار، عملنا على التأكد من أن كل شيء سار كما هو مخطط له، وفي الليل كنا برفقة قهوتنا نستمتع بالعرض».
تابعي المزيد: انطلاق النسخة الثالثة من “الملتقى الإقليمي للهندسة المعمارية” في حي دبي للتصميم
استفزاز مؤثر
نتيجة النموّ السكانيّ المطّرد، والتوسع الحضري المتواصل، وزيادة الطلب على المساكن، من الطبيعي أن تزدهر صناعة البناء في جميع أنحاء العالم. وتشير أبحاثٌ ودراساتٌ حديثة إلى أنّه نتجت من عمليات البناء والهدم في 40 دولة خلال العام 2012، مخلّفات حول العالم تساوي نحو 3 مليارات طن، فهل تمكن الفريق من إيصال فكرته، يعلّق المصمم سلفاتور سكاندورا: «لا يمكننا، بوصفنا مهندسين معماريين، تجاهل الأثر السلبي لهذا الأمر على بيئتنا. إن فكرة تصميم هذا العمل الفنّيّ تشكل بحضورها استفزازاً مؤثراً، وترمي ثقلاً هائلاً فوق صدور الناس؛ حيث يشعرون بأن هذا التصميم يحدّد مستقبلنا، فالهدف منه نشر الوعي، ودفع الزوّار إلى طرح أسئلةٍ على أنفسهم، يتجاهلونها في العادة. قد تكون الفكرة خلف هذا المجسم مخيفة ومهيبة نوعاً ما، وكنا نتخيل أنه لن يكون سهلاً على الجميع تقبل الرسالة التي نريد إيصالها. لكن تفاجأنا أن الجمهور كان فضولياً ومتشوقاً لمعرفة عن المشروع أكثر. ربما كان السؤال الأكثر حضوراً كان سلامة تلك الأطنان من نفايات البناء المعلقة فوق رؤوسهم، قبل المرور تحتها».
أنطونيو فيردي: صممنا مطابخ من شظايا صغيرة كان من المفترض أن تكون نفايات
جيل البحوث
بدت شهد سعيدة لأنها مصممة معمارية تعيش عصراً جديداً في السعودية التي قدمت لها الكثير، كما تفخر، تتابع قائلة: «درست البكالوريوس والماجستير في الابتعاث، وعندما عدت كانت المشاريع الواعدة في انتظاري»، تتابع قائلة: «وجدنا تفاعلاً ومشاركة، من جيل الشباب، أكثر من توقعاتنا في هذا الصدد، هم مهتمون بقضايا البيئة المستدامة، ونحن نشجعهم على إجراء بحوثهم حول مخلّفات البناء وإيجاد حلول لهذه الموارد. نحن نعمل حالياً على العديد من المشاريع التي يمكن أن تعزز المواد المستدامة، وهذا المجسم الفني نقطة بداية لنا لنشر الوعي حول هذا الموضوع».
تابعي المزيد: في أسبوع دبي للتصميم المصمّمة رانيا فهمي: أعشق مزج الألوان في الأثاث