القضاء الإسرائيليّ وغسيل جرائم الحرب
يثير الوضع سؤالًا تجرّأ قلّة في إسرائيل على طرحه: حتّى بدون إصلاحات نتنياهو، هل قام القضاء بما يكفي للتعامل مع انتهاكات القانون الدوليّ؟
من مظاهرات اليمين في القدس (Getty)
أثارت محاولة رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو وحكومته اليمينيّة المتطرّفة لتعديل النظام القانونيّ والقضائيّ الإسرائيليّ جذريًّا احتجاجات واسعة النطاق في إسرائيل، وخرج مئات الآلاف من المتظاهرين إلى الشوارع تحت راية الدفاع عن الديمقراطيّة الإسرائيليّة؛ وبدأ في وقت مبكّر من الاحتجاجات رفع لافتات في جميع أنحاء إسرائيل تقول «محكمة العدل العليا هي الدرع الواقي لجنودنا»، واستمرّت فكرتها طوال الاحتجاجات، وأعلنت مجموعة من جنود الاحتياط رفضهم للخدمة، على الأرجح خوفًا من فقدان حماية المحكمة، وهو ما كان أهمّ وأخطر أشكال الاحتجاج.
يأتي التعبير عن المحكمة العليا بجملة «الدرع الواقي» في محلّه تمامًا، حيث يعدّ استقلال القضاء الإسرائيليّ عاملًا رئيسًا في منع المساءلة الدوليّة عن جرائم إسرائيل ضدّ الفلسطينيّين في المناطق المحتلّة وما قبلها، إذا لن تنظّم معظم أنظمة المحاكم الدوليّة في القضايا الأجنبيّة إلّا إذا أمكن إثبات أنّ نظام البلد نفسه غير قادر على الفصل بشكل محايد في مزاعم جرائم الحرب.
يثير الوضع سؤالًا تجرّأ قلّة في إسرائيل على طرحه: حتّى بدون إصلاحات نتنياهو، هل قام القضاء بما يكفي للتعامل مع انتهاكات القانون الدوليّ؟ إلى جانب عملها الداعم للحقوق المدنيّة، هل يعطي بتّ المحاكم الإسرائيليّة في القانون الدوليّ قشرة من الشرعيّة لجرائم إسرائيل ضدّ الفلسطينيّين؟ يطرح هذه التساؤلات بعض الإسرائيليّين التقدّميّين والعديد من الفلسطينيّين.
كان مندلبليت، المدّعي العامّ السابق، صريحًا للغاية في شرح سبب احتياج البلاد إلى أن تكون محاكمها مستقلّة وقال محذّرًا: «في اللحظة الّتي لا ينظر فيها إلى نظام العدالة في إسرائيل على هذا النحو، ستفقد إسرائيل الشرعيّة الدوليّة بسبب عمليّاتها العسكريّة، ولن تكون محميّة بعدها من الاتّهامات بارتكاب جرائم حرب»، وقد توضع توقّعات مندلبليت أمام الاختبار قريبًا، خصوصًا مع وجود دعاوى فلسطينيّة معلّقة أمام المحكمة الجنائيّة الدوليّة في لاهاي، وقد يؤدّي فقدان مظهر الاستقلال للمحكمة العليا الإسرائيليّة إلى تعريض الجنود الإسرائيليّين والقادة العسكريّين وقادة قوّات الأمن وحتّى الوزراء الإسرائيليّين، في الماضي والحاضر، لمحاكمات في دول أجنبيّة.
يمكن أن ترقى مثل هذه القضايا إلى مستوى محاسبة إسرائيل على عدد من جرائم الوخيمة، مثل التعذيب: طلبت اللجنة العامّة لمناهضة التعذيب في إسرائيل، بالتعاون مع الاتّحاد الدوليّ لحقوق الإنسان في يونيو الماضي، من المدّعين العامين للمحكمة الجنائيّة الدوليّة إدراج جريمة التعذيب ضمن تحقيقهم في جرائم الاحتلال الإسرائيليّ لفلسطين.
ومسألة التعذيب في إسرائيل ليست إلّا مسألة واحدة من بين عدّة أسباب تستدعي التدخّل القانونيّ الدوليّ؛ نظرًا لمعاملة إسرائيل للفلسطينيّين، مثل: الاحتلال الإسرائيليّ المطوّل للضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، واستمرار نظام الفصل العنصريّ، وجرائم الحرب الإسرائيليّة في غزّة. تقدّم معاملة المحاكم الإسرائيليّة مع قضايا التعذيب والجرائم الأخرى نظرة حقيقيّة عن مدى حياديّة القضاء في الجرائم ضدّ الفلسطينيّين، وعلى المزاعم الإسرائيليّة بالديمقراطيّة الّتي ظهرت في الاحتجاجات الأخيرة.
مسألة التعذيب
يكشف تعامل القضاء الإسرائيليّ مع مزاعم التعذيب ما ستخسره إسرائيل، أو ستكسبه، من التشريعات الأخيرة الّتي يحاول نتنياهو تمريرها. أصدرت محكمة العدل العليا الإسرائيليّة في عام 1999 حكمًا كان موضع ترحاب دوليّ باعتباره وضع حدًّا لتوظيف التعذيب في إسرائيل، إلّا أنّه وفقًا للبيانات الّتي جمعتها اللجنة العامّة لمناهضة التعذيب في إسرائيل ومنظّمات حقوق الإنسان الأخرى، ما تزال إسرائيل تخضع المعتقلين الفلسطينيّين بانتظام لأساليب استجواب تندرج تحت إطار التعذيب والمعاملة اللاإنسانيّة والمهينة، في انتهاك صارخ للقانون الدوليّ.
تظهر شكاوى الفلسطينيّين الّذين استجوبهم الشابّاك، جهاز الأمن العامّ الإسرائيليّ، إلى اللجنة العامّة لمناهضة التعذيب في إسرائيل منذ عام 2000، استمرار الأساليب الّتي حظرتها صراحة المحكمة العليا في عام 1999، ويظهر تحليل أجريناه لأكثر من 1500 شكوى من هذه الشكاوى، بتمويل من مجلس البحوث الاقتصاديّة والاجتماعيّة في المملكة المتّحدة، أنّ إسرائيل ما تزال تستخدم العنف الجسديّ، مثل الضرب، والهزّ العنيف، والخنق، بانتظام في استجواباتها. تشمل أساليب الاستجواب الأخرى المستخدمة: إجبار الأشخاص على اتّخاذ أوضاع مؤلمة وتكبيل أيديهم بشدّة والحرمان الشديد من النوم والاحتجاز بمعزل عن العالم الخارجيّ واستخدام أفراد الأسرة والتهديدات والإذلال والتعرّض لفترات طويلة لدرجات حرارة شديدة.
هذا ليس مجرّد خرق فعليّ للحكم: كما توضّح العديد من القرارات الأخيرة للقضاة، بل إنّ المحكمة العليا نفسها مستعدّة للتسامح وحتّى الموافقة صراحة على استخدام التعذيب في انتهاك لالتزامات إسرائيل بموجب القانون الدوليّ، بل وحتّى لقرارات المحكمة نفسها. أنشأت إسرائيل عدّة آليّات قضائيّة لمعالجة شكاوى التعذيب في العقود الأخيرة، لكنّها حتّى هذه الآليّات تفشل باستمرار في توفير سبل الانتصاف القانونيّة لضحايا التعذيب.
قدّمت أكثر من 1300 شكوى تعذيب نيابة عن فلسطينيّين إلى وزارة العدل بين عامي 2001 و2021، ولم تفتح منها فتح سوى ثلاثة تحقيقات جنائيّة، ولم ينتج عن أيّ منها لائحة اتّهام. طالما إسرائيل قادرة على الادّعاء بأنّ لديها آليّات قويّة للتحقيق في الشكاوى والرقابة القضائيّة المستقلّة على قوّاتها الأمنيّة، فيمكنها أن تتصدّى لدعوات التدخّل الدوليّ.
مغسل جرائم الحرب
بينما كان نتنياهو يناقش في غرفته، ليلة الإثنين، ما إذا كان سيوقف التشريع الجديد في أعقاب الاحتجاجات والإضراب العامّ، تجمّع متظاهرون يمينيّون في القدس لأوّل مرّة لتأييد تشريعات نتنياهو، وردّدت في هذه التجمّعات مقولات تستهدف الفلسطينيّين أكثر من دعمها للحكومة، وكان بعضها صريحًا، ومألوفًا للأسف، مثل «الموت لكلّ العرب»؛ وتعرّض المارّة الفلسطينيّين (والصحفيون وغيرهم من الإسرائيليّين الّذي بدوا “يساريّين”) لهجمات من هؤلاء المتظاهرين اليمينيّين.
يعدّ تكريس بأنّ التفوّق لليهود هو الهدف الواضح لليمين القوميّ من هذه الثورة الدستوريّة، وهذا الكلام ليس جديدًا، بل هي خطّة معلنة لبعض كبار أعضاء حكومة نتنياهو، بمن فيهم وزير الأمن القوميّ، إيتمار بن غفير ووزير الماليّة، بتسلئيل سموتريش، والّذين دعوا مؤخّرًا علنًا إلى محو بلدة حوّارة الفلسطينيّة بالكامل. قطعًا يجب ألّا يمرّ هذا التشريع، ولكن يجب ألّا تكون مقاومته من أجل ضمان إفلات الجنود الإسرائيليّين والأجهزة الأمنيّة الإسرائيليّة من العقاب.
يجب أن نضع في اعتبارنا عند دعوة المتظاهرين إلى «حماية الديمقراطيّة»، أنّ محكمة العدل العليا كانت بالفعل بمثابة الدرع الواقي ليس للجنود فقط، ولكن أيضًا لممارسات إسرائيل المناهضة للديمقراطيّة، حيث تغاضت المحكمة لسنوات عن الانتهاكات الإسرائيليّة لحقوق الإنسان، بما في ذلك توسيع المستوطنات، والقتل خارج نطاق القضاء، وتعذيب المعتقلين الفلسطينيّين.
مهما كانت نتائج الاضطراب الدستوريّ الحاليّ، يجب على العالم ألّا يتجاهل من الآن فصاعدًا ما لا يمكن دحضه: القضاء الإسرائيليّ كان بمثابة مغسلة لجرائم الحرب، ويجب على المجتمع الدوليّ أن يتدخّل لمحاسبة إسرائيل على انتهاكاتها المستمرّة لحقوق الفلسطينيّين، وهي مساءلة تفشل إسرائيل في تطبيقها.
يجب على المحتجّين في إسرائيل في الوقت نفسه أن يدركوا أنّه لا يوجد شيء اسمه ديمقراطيّة لليهود وحدهم، وأنّه لن تتحقّق الديمقراطيّة الحقيقيّة إلّا بإنهاء إسرائيل احتلالها طويل الأمد للأراضي لفلسطين، واعترافها بالحقوق الوطنيّة للفلسطينيّين، وتوفير الحماية والمساواة بموجب القانون لجميع مواطنيها.
المصدر: عرب 48