علي وطفة: تناقضات التراث سبب صراع الأجيال
وعدّ وطفة التراث هويَّة ثقافيَّة بما ينطوي عليه من عناصر توحيديَّة، أسهمت في وحدة الأمة العربية وتكاملها سيكولوجياً وثقافياً، مشيراً إلى أن التراث الثقافي للمجتمعات الإنسانيَّة أشبه ما يكون بغير الشعور الجمعي، الذي يضم مخزوناً ثقافياً يتميَّز بالثراء والعمق، وينطوي على الخبرة الإنسانيَّة للمجتمع الناجمة عن تراكم تاريخي طويل، ويحوي في ما احتواه المعتقدات والأساطير، والقيم، ما يؤكد أن (لا وعي) الكائن الإنساني الفردي ليس هو فقط جماع تجربته كفرد بل فيه أيضاً خبرات النوع الإنساني ككل، بكامل مخزونه من الأساطير والعقائد والتقاليد التي تبلورت طيلة آلاف السنين.
واستعاد وطفة مجتمع مدينة البصرة، في فترة محدودة من الزمن، الذي ضمّ شخصيات مبدعة، تقدَّمت بالإنتاج الفكري في مجالات شتَّى، منهم الحسن البصري، وواصل بن عطاء، والجاحظ، وبشار بن برد، وأبو نواس وغيرهم، مستحضرين بأذهاننا الملامح الرئيسيَّة لكل شخصيَّة من هذه الشخصيات، لندرك ما كان بينهم من اختلاف في الرأي وتباين في الاتِّجاهات وأنماط السلوك والحياة، مع أنهم يمثِّلون في مجموعهم حركة فكريَّة متكاملة بتناقضاتها وبما اقتضته من جدل ومناظرة.
ويؤكد وطفة، أن في تراثنا العربي الإسلامي نواة وحدة حقيقيَّة يمكن لها أن تؤدي دوراً مهماً وحيوياً في تلاقي أجزاء وطننا المجزأ وترابطها وبناء كيان موحد كبير قادر على مكافحة خطري الاضمحلال والاحتلال السياسي والثقافي، كون هذا التراث يمتلك خيطاً سحرياً يجمع بينه وبين أهله، ويمثل رابطة وجدانيَّة باعتباره السبيل المتواصل بينهم؛ لأن الشعوب تتواصل بقدر ما يتناغم فيها من قيم وسلوكيات مشتركة تمور بالتعاطف والتقارب الروحي.
وعزا ثبات الأمة العربية إلى ثقل مضمون التراث العربي الإسلامي والحفاظ عليه، ما يحول دون التحوّل إلى ورقة في مهبّ رياح الثقافات، ويعصمها من الجريان وراء كل بدعة سيئة، ويحميها من محاولات طمس المعالم التي تميز الشخصيَّة العربيَّة المستقلة، وهي محاولات لسلب الجماهير العربيَّة أساسها الحضاري القديم الذي يمكن أن تشيد عليه مستقبلها دون أن تتقوقع على ذاتها؛ لذلك كان السعي الجاد لإيجاد صيغة لهويَّة ثقافيَّة تلتقي فيها أصولنا الموروثة مع ثقافة العصر الذي نعيش فيه، صيغة قوامها أصول رئيسيَّة من التراث العربي وأصول أخرى مناسبة من مقومات ومكونات عصرنا الحاضر.
وذهب إلى أن الهويَّة تعبير ثقافي يجسِّد أعمق مكنونات الحياة الثقافيَّة والاجتماعيَّة، التي يعرف بها مجتمع من المجتمعات، ويتميز بها عن غيره. بالعادات والتقاليد والفلكلور والأزياء والعقليات، والتراث الشعبي تحديداً يشكل أعمق مكنونات الهويَّة وأكثر عناصرها دلالة وأهميَّة.
وليس غريباً أن نقول، إن التراث الشعبي يشكِّل وجدان الأمَّة والمجتمع كما يشكِّل الذاكرة الجمعيَّة للناس، وهذا يعني من جديد أن التراث الشعبي تحديداً هو أكثر مناطق الهويَّة الثقافيَّة للمجتمع عمقاً وأصالة ومركزيَّة. فالشعوب تعرف اليوم بفلكلورها وفنها الشعبي وأساطيرها وفنونها.
ولفت وطفة إلى أن تغيير المظاهر الماديَّة وتحقيق الطفرات النوعيَّة في التغيّر الحضاري بأشكاله التمدينيَّة أمر ممكن في عقود وأزمنة قصيرة نسبياً، إلا أن تغيير العقليات يحتاج إلى عشرات ومئات السنين، كون العقليَّة هويَّة تضرب جذورها في العمق غير الشعوري للإنسان والمجتمعات، والتراث الشعبي مؤسس وصانع للهويَّة، ويتغلغل في أعماقنا منذ الطفولة ويحفر مجراه في مرحلة المراهقة والصبا والشباب ويتأصل ويتحول إلى طاقة ذهنيَّة وعقليَّة تحكم وجودنا وسلوكنا وكينونتنا النفسيَّة. ومن هنا يجب علينا أن ندرك الأثر الكبير والعظيم للتراث بوصفه مؤسسة لتشكيل العقول والضمائر والنفوس، وتحفر عميقاً في نفوسنا وترتسم في مشاعرنا وذواتنا بالأفراح بما فيها من طقوس تذكي الوجدان بقوتها وسحرها وعواطفها، وبطقوس الحزن والموت التي تطبع في ذواتنا كل معاني القهر والحزن، ما يعني أن عاداتنا تتحول فينا إلى طاقة وجود فترتسم في عقولنا وفي تكويننا الانفعالي مسارات تأخذ مع الزمن صورة كيان نفسي واجتماعي لا تفلّه الأيام ولا تقهره الأعوام.