السودان.. صراع السلطة والدم الحرام
سأل أحدُ الصحافيين المشيرَ عبد الرحمن سوار الذهب عن مدى التزامه وعده للشعب السوداني بتسليم السلطة إلى حكومة مدنية منتخبة بعد عام من استيلائه على السلطة، فرد عليه قائلاً: “أضفت فوق تلك المدة عشرين يوماً فقط حتى تكتمل الانتخابات الديمقراطية، واكتملت، فسلّمت مقاليد السلطة إلى الحكومة المنتخبة الجديدة ممثلة برئيس الوزراء الصادق المهدي ثم انسحبت”.
انسحب المشير السوداني عبد الرحمن سوار الذهب من السلطة بهدوء وبإرادته بعد عام وعشرين يوماً من قيادته انقلاباً عسكرياً أوصله إلى قمة السلطة، استجابةً لثورة شعبية ضد نظام حكم العقيد جعفر النميري عام 1985م سُميت انتفاضة أبريل/نيسان، وتجربة سوار الذهب غير مُكررة في تاريخ السودان والدول العربية في مرحلة الدول الوطنية، التي أعقبت أفول الاستعمار الغربي المباشر، فضباط الجيش لا يقومون بانقلاب عسكري على السلطة كي يحكم الدولة غيرهم، على الرغم من إعلانهم، في البيان العسكري الأول عبر الإذاعة الرسمية، أنَّ استيلاءهم على السلطة موقّت واضطراري من أجل إنقاذ البلاد والعباد، وإيصالها إلى طريق الرشاد.
هذه الحقيقة أكدتها أغلبية تجارب الانقلابات العسكرية التي قامت بها الجيوش العربية المتعطشة إلى السلطة، وما السودان عنها ببعيد. وهو ما حدث في أول تجربة انقلاب عسكري عام 1958م قام به الجيش السوداني على حكومة مدنية بعد الاستقلال عن بريطانيا، بقيادة الفريق إبراهيم عبود، الذي احتفظ بالسلطة إلى أنْ أطاحته ثورة شعبية عام 1964م جاءت بحكومة مدنية برئاسة رئيس حزب الأمة الصادق المهدي عام 1966م، لم تعمر طويلاً بسبب قيام الجيش السوداني بقيادة العقيد جعفر النميري بانقلاب عسكري عام 1969م أوصله إلى قمة السلطة في السودان.
ظلّ النميري يقف على قمة نظام حكم فاسد ومُستبد، متورط في تهريب يهود الفلاشا من إثيوبيا إلى الكيان الصهيوني، وإدخال بلاده بيتَ الطاعة الأميركي المُحاط بجدران التبعية والمهانة، حتى انفجرت ضده ثورة شعبية عام 1985م، انحاز إليها الجيش السوداني بقيادة الفريق عبد الرحمن سوار الذهب وحسم الأمر في انقلاب عسكري لمصلحة الشعب، وسلّم السلطة إلى حكومة ائتلاف مدني برئاسة الصادق المهدي أفرزتها انتخابات ديمقراطية عام 1986م، استمرت في الحكم حتى أطاحها انقلاب عسكري آخر برئاسة العميد عمر البشير عام 1989م، وهذه المرة بالشراكة مع طرف مدني منحه الشرعية الدينية هو حزب “الجبهة الإسلامية القومية” المنبثقة من جماعة الإخوان المسلمين برئاسة الدكتور حسن الترابي.
أطلق البشير على انقلابه العسكري اسم ثورة، وشكّل “مجلس قيادة الثورة”، وزعم أنّه موقّت هدفه تسليم السلطة إلى المدنيين. وبدلاً من القيام بذلك، خلع ملابسه العسكرية وارتدى الملابس المدنية، وأعلن نفسه رئيساً مدنياً للجمهورية السودانية، لكنه لم يستطع تغيير جوهره الاستبدادي، كما استطاع تغيير ملابسه، فتخلّص من شركائه المدنيين في الحكم، وهم حزب “الجبهة الإسلامية القومية”، وألقى رئيسها الدكتور حسن الترابي في السجن عام 1999م. ومع كل خطوة يتقدّم فيها البشير ونخبته الحاكمة في مسار الاستبداد والاستئثار بالسلطة والثروة، كانت أوضاع السودان تزداد سوءاً في مختلف المجالات.
ومن أهم هذه المجالات الأمن في السودان، ولا سيما في جنوبي البلاد وغربيّها، بعد تمدّد حركات التمرد في جنوبي السودان وإقليم دارفور. أمّا الجنوب فانتهى بانفصاله في دولة مستقلة، عام 2011م، وأمّا إقليم دارفور غرباً فكانت حال البشير معه كالهارب من الرمضاء إلى النار، فلقد كان ثمن القضاء على تمرد القبائل فيها هو إنشاء ميليشيا “قوات الدعم السريع” عام 2013م برئاسة أحد زعماء ميليشيا “الجنجويد” محمد حمدان دقلو، المعروف بلقب “حميدتي”، وأصبحت قوة شبه عسكرية موازية للجيش السوداني كلفها البشير بقمع التمرد، ومنحها صلاحيات واسعة، استطاع حميدتي بفضلها من السيطرة على مناجم الذهب في إقليم دارفور والتحكم في تجارته الخارجية التي تشكل 40% من صادرات السودان، الأمر الذي منحه مورداً مالياً مستقلاً استطاع بواسطته تطوير “قوات الدعم السريع”، كماً ونوعاً وتسليحاً، والتحوّل بالتدريج إلى قوة موازية للجيش السوداني، والأحزاب السياسية المدنية، عسكرياً واقتصادياً وسياسياً.
القوة المتنامية لميليشيا “قوات الدعم السريع” صاحبها ضعف متزايد في الحياة الاقتصادية والحياة المعيشية في السودان، ودفعت الشعب السوداني إلى القيام بثورة كانون الأول/ديسمبر الشعبية عام 2018م، ضد نظام حكم عمر البشير، أدت بكل من الجيش السوداني وقوات الدعم السريع بسرعة إلى القفز من سفينة النظام الحاكم قبل غرقها، والركوب على ظهر الثورة الشعبية، بالقيام بانقلاب عسكري مشترك في نيسان/أبريل عام 2019م أطاح رأس النظام عمر البشير من دون أن يُغيّر جوهر النظام العسكري. وعندما آلت مقاليد السلطة إلى الفريق أول عبد الفتاح البرهان ، حل “المجلس العسكري الانتقالي”، وأنشأ مكانه “مجلس السيادة الانتقالي السوداني”، ونصّب نفسه رئيساً له، ونصّب حميدتي نائباً له، كآلية لتقاسم السلطة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، بمشاركة “ائتلاف قوى الحرية والتغيير” التي شكلّت الحكومة المدنية برئاسة الدكتور عبد الله حمدوك لإدارة المرحلة الانتقالية التي حُددت بعامين.
هذه التركيبة الحاكمة ما كان لها أن تنجح في نقل السودان إلى بر الأمان، في ظل وجود البرهان وحميدتي، اللذين قادا السودان إلى مسارَي التطبيع والاستبداد، وفي ظل غياب أي مشروع حقيقي لإنقاذ السودان وإصلاح أحوالها المتدهورة، فمسار التطبيع انتهى بانضمام السودان إلى “اتفاقيات ابراهام” رغبةً منهما في أنْ يجُبَّ التطبيع عند أميركا والغرب ما قبله وما بعده من فساد واستبداد، وأملاً منهما أنْ يُلغي التطبيع عند أميركا والغرب ما مضى وحضر من حصار وعقوبات.
أمّا الاستبداد فتجلّى في إقصاء المكوّن المدني في السلطة، ممثَّلاً بـ”ائتلاف قوى الحرية والتغيير” وحكومة عبد الله حمدوك المدنية. ومهّد لهذا الإقصاء البرهان باتهام الحكومة المدنية بالفشل في إدارة الدولة، وحسم حميدتي التوّجه نحو الإقصاء، بقوله: “ما بنقعد معهم على ترابيزة واحدة”، قاصداً المدنيين. والمبرر عند شريكَي السلطة المتشاكسين – البرهان وحميدتي –، كما جاء في بيان الانقلاب الثاني، نهاية عام 2021م، هو: “المحافظة على ثورة ديسمبر المجيدة، وتصحيح مسار الثورة”، أسوةً بكل حركات التصحيح الوهمية التي يقودها كثير من الجيوش العربية.
لم ينتهِ الصراع على السلطة بعد تخلّص شركاء السلطة المتشاكسين – البرهان وحميدتي – من الشريك الثالث المدني، بل ازداد حدةً وقسوةً، وظاهر الصراع هو الخلاف بشأن دمج “قوات الدعم السريع” غير الرسمية، في “القوات المسلحة السودانية”، أي الجيش السوداني بصفته المؤسسة العسكرية الرسمية للدولة، بهدف إنهاء وجود قوة عسكرية موازية للجيش، ومُهدِّدة احتكاره للقوة الشرعية في الدولة. أمّا باطن الصراع فهو الخلاف على تقاسم السلطة في بلدٍ يزداد شعبه فقراً وبؤساً، وتزداد نخبته الحاكمة وطرفا الصراع فيه ترفاً واحتكاراً للسلطة والثروة.
طرفا الصراع على السلطة في السودان، ورأساها، البرهان وحميدتي، اشتركا في إجهاض أهداف ثورة كانون الأول/ديسمبر عام 2018م ضد نظام عمر البشير، ومصادرة الإرادة الشعبية فيما يتعلق بالحرية والتغيير، وتقاسما قتل فرصة تطبيق الديمقراطية وحكم الشعب المدني وتداول السلطة سلمياً، وأغرقا السودان في بركة التطبيع الآسنة مع الكيان الصهيوني، ولعبا دور البطولة في إرسال السودانيين إلى الحرب في اليمن دعماً للعدوان السعودي عليها، وساهما في تسارع انهيار الاقتصاد السوداني ونهبه وتدهور الأحوال المعيشية للشعب السوداني، وصولاً إلى إحراق السودان في نار الحرب الأهلية وسفك الدم الحرام على مذبح أطماعها في الصراع على السلطة وامتيازاتها المادية والمعنوية.
وبناءً على هذه الحقائق، لا خلاص للسودان إلاّ في خضوع البرهان وحميدتي لإرادة الشعب السوداني، أو خروجهما من المشهد السوداني، سياسياً وعسكرياً، وإجراء حوار وطني شامل يضم كل القوى المدنية والعسكرية يكون هدفه تحقيق الإرادة الشعبية في التخلّص من الاستبداد والفساد، واستعادة حكم الشعب المدني الديمقراطي، والمحافظة على الجيش السوداني مؤسسةً وطنية موحدة ضامنة لوجود السودان واستقلاله ووحدته وأمنه واستقراره، وبناء السودان الجديد والقوي والمزدهر، والمحافظة على هوية السودان، وطنياً وقومياً وإسلامياً، بعيداً عن قيود التطبيع مع الكيان الصهيوني والتبعية للولايات المتحدة الأميركية، كي يعود السودان إلى دوره الطبيعي فاعلاً ومؤثراً لمصلحة قضايا الأمتين العربية والإسلامية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر