اقتصاد ردّ الفِعل
عندما حذفت حسابي على تويتر في أيلول/ سبتمبر من العام الماضي، لم يكن ذلك بسبب استيلاء إيلون ماسك الوشيك عليه، ولكن بسبب التغطية الكثيفة لأخبار العائلة الملكية البريطانية، والتي تدفقت من كل مصدرٍ إعلامي لدرجة الضجر، وشعرت بعدها بنوعٍ ثقيل من الانسحاب، مثل أي مدمن يتوقف عن تناول المُخدرات. كيف لي أن أتفاعل مع الأخبار الآن؟ وإذا لم تكن لدي طريقة للتفاعل مع الأخبار، فما الذي أريده منها؟ هل أنا مهتم بالأخبار حتى إذا لم تكن لدي فرصة للتفاعل معها؟ إن التواجد في المجال العام الرقمي دون أي وسيلة للتفاعل معه يشبه إلى حد ما زيارة مركز تسوق بدون أي أموال.
كان توقيت انسحابي صعبًا بشكلٍ خاص، وذلك لأن حدثًّا إخباريًا وقع بعد أسبوعين وتطلب مني التفاعل معه: «بيان ميزانية التقشُّف»[1] سيئ السمعة والذي قدَّمه كواسي كوارتنغ، والذي ألقى بـ 45 عامًا من المعرفة الاقتصادية في مهبّ الريح، وأثار مواجهة بين الحكومة وبنك إنجلترا، وكاد أن يتسبب في أزمة مالية. يمنح تويتر المستخدمين ثلاثين يومًا لتغيير رأيهم بعد حذف حساباتهم، لتهدئة عمليات الانسحاب الاندفاعية من الموقع (أو لإعادة المدمنين المتعافين). كنت خلال الثلاثين يومًا تلك، وتطلب الأمر مني قدرًا كبيرًا من ضبط النفس لأمنع نفسي من التفاعل مع الأخبار. وعندما شارفتُ على كسر قراري، لم يكن بسبب الأخبار، بل لإني كُلِّفتُ بإدارة حساب التواصل الاجتماعي لقسم الجامعة الذي أعمل فيه، ورأيت هذه التغريدة من معلق محافظ بارز:
كلما زاد صياح اليسار، زاد تأكد @KwasiKwarteng و@trussliz من صحة ما يفعلونه.
صار منطق هذه الحروب الثقافية القائم على التلاسن[2] معروفًا بفضل اليمين الأميركي، والذي يقوم على إثارة (استفزاز) المعارضة عبر أي وسيلة ممكنة، سواء كانت مشروعة أو كريهة، وغالبًا ما يُشار إلى هذا التصرف في مواقع الإنترنت بـاسم «التصيد». رأى المغرد أن رد فعل اليسار غير السعيد باعتباره الاختبار الحقيقي للسياسة الاقتصادية والإثبات على أنها ناجعة: كوارتنغ وزير ناجح لأنه متصيد ناجح. أردت أن أرد عليه: «يا لها من طريقة سخيفة للحكم على السياسية»، وبشعوري بهذه الإحساس للتفاعل مع ذلك المغرد، كنت أُجرُّ لاقتصاد رد الفعل مرة أخرى.
غالبًا ما تهيمن على مجالنا العام أحداث يمكن أن نسميها «سلاسل رد الفعل»، حيث تثير ردود الفعل ردود فعل أخرى، والتي تثير بدورها المزيد من ردود الفعل، وهلّم جّرًا. نتذكر كلنا حفل توزيع جوائز الأوسكار العام الماضي بسبب سلاسل رد الفعل عليها، خصوصًا عندما ألقى مضيف الحفل الممثل الكوميدي، كريس روك، نكتة حول رأس جادا بينكيت سميث الحليق، وتقدم بعدها زوجها ويل سميث على خشبة المسرح وصفع روك في بث تلفزيوني مباشر. سعى عدد لا يحصى من المعلقين والمشاهير ومستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي لعدة أيام بعد ذلك إلى تمييز أنفسهم من خلال رد فعلهم على «الصفعة»، أثارت ردود الفعل تلك ردود أفعال أخرى، حيث تحول النقاش حول المواقف التي يتخذها الناس، وهوجم من اتخذوا موقف الصمت وعدم التفاعل مع الحادثة. ترقب الجميع الرد الرسمي من الأكاديمية: هل سيُحظر سميث، وإلى متى؟ تلقَّت «فضيحة الصفعة» اهتمامًا عالميًا خلال الأسابيع التالية لها.
أضاف تفصيل مُعين صفة المؤامرة على الحادثة، حيث ضحك ويل سميث في البداية على نكتة روك، وظهر هذا نتيجة المراقبة التلفزيونية الشاملة للمشاهير في القاعة. بدت هذه الاستجابة المندفعة متناقضة تمامًا مع الغضب الذي أظهره على خشبة المسرح بعد ثوانٍ قليلة. هل كان يُمثِّل؟ هل كانت الصفعة حقيقية؟ أم أن زوجته هي التي طلبت منه التدخل؟ انتشر الفيديو بكل مقاطعه، كما لو كان مشهد اغتيال كينيدي.
أصبح مفهوم «التفاعل» كما هو معروف في اللغة الإدارية شائعًا في مثل هذه الحوادث وفي طريقة تأطيرها عند وسائل الإعلام بفضل انتشار الأجهزة الذكية في الخمسة عشر عامًا الماضية. لم يعد التصور للفرد كما كان في التقليد الفلسفي الليبرالي، أي بوصفهِ فاعلًا مستقلًا لديه عقله ومصالحه، ولا كما كان في تقليد التحليل النفسي، أي بوصفهِ متكونًا بشكل غير واعٍ من صراعات وجراحات الماضي، بل صار كل واحد منا الآن (حتى المشاهير) صندوق ربطٍ/نقطة تحويل[3] في شبكة واسعة ومعقدة، يتلقى المعلومات ويعالجها ويتفاعل معها بشكل آني. تتقافز المعلومات والعواطف بين هذه الصناديق، وتتشوه في أثناء تنقلها، كما يظهر ذلك في الميمات والنكت التي تنتشر انتشار النار في الهشيم عبر منصات وسائل التواصل الاجتماعي. يمثل رد الفعل الفردي في هذا النموذج عنصرًا إضافيًا للمعلومات التي يجري تبادلها في هذه الشبكة ويبحث عن ردود فعل مضادٍ لها.
كان تحديد آليات وأنماط رد الفعل البشري أحد الطموحات التأسيسية لفرع سيكولوجية العلم (أو علم نفس العلم)، وما مكّنه أولاً من فصل نفسه عن الفلسفة. صار لاحقًا لدى المجتمعات التي تتعهد باحترام حقوق وخيارات الفرد افتتانًا تجريبيًا بالطريقة التي يتأثر بها الأفراد ببيئتهم. ركزت التطورات المبكرة في التجارب النفسية التي أجراها غوستاف فيشنر وفيلهلم وندت في لايبزيغ في أواخر القرن التاسع عشر بشكل كبير على الاستجابات العقلية والعصبية للمنبهات الحسية، مثلًا، لحساب الوقت المنقضي بين الإحساس ورد الفعل الواعي على هذا الإحساس.
تأثر علم النفس السلوكي الأميركي في القرن العشرين بشكل أساسي بالتقاليد السلوكية، التي ابتكرها جون ب. واتسون بعد الحرب العالمية الأولى وارتبطت لاحقًا مع بي إف سكينر، بهدف صريح يتمثل في جعل الاستجابات البشرية قابلة للتنبؤ، ومن ثم يُسهل عملية التحكم فيها. وكان علم النفس وقتها يركزّ على السلوك الذي يمكن ملاحظته بدلًا من وضع نظريات حول العقل. تخيل علماء السلوك وجود شخصٍ يمكن تكييفه وبرمجته بالكامل لتتوافق ردود فعلهِ تمامًا مع بيئته، وهو “خيال” أدى إلى ظهور أفكارٍ طوباوية (مثل رواية سكينر “والدن الثاني” المنشورة عام 1948) بالإضافة إلى رؤى ديستوبية (مثل رواية أنتوني بورغيس “البرتقالة الآلية” المنشورة من عام 1962).
أصبحت عناصر السلوكية متداخلة مع عناصر التحليل النفسي في أميركا في منتصف القرن العشرين من خلال عمل الطبيب النفسي أدولف ماير، والذي هيمن منهجه النظري على التخصص هناك بين الحرب العالمية الثانية واستمر حتى ظهور حركة مناهضة التحليل النفسي في السبعينيات. تضمن تبني أدولف ماير لأفكار فرويد إضفاء الطابع الطبي على النهج ودراسة المرضى في بيئات خاضعة للمراقبة لتقييم سلوكهم اليومي. كما كتب ماير في عام 1908، “مقياسنا المقارن لحالات القصور المختلفة هو رد الفعل الطبيعي الكامل”. كان الطبيب النفسي الجيد هو الذي يمكنه التمييز بين ردود الفعل “الفعالة” و “غير الفعالة” (حيث تعني “الفعالية” تكيف الشخص مع شروط بيئته، كما يظهر مثلًا في طريقة لبسه وإنفاقه للمال)، وهو تقييم لا يمكن إجراؤه إلا في البيئة الخاضعة للمراقبة في المستشفى أو في مستشفى المجانين.
لقد كشف التقليد السلوكي عن الكثير حول كيفية استجابة البشر (والحيوانات الأخرى) للمنبهات المختلفة، وما يمكن اعتباره رد فعل “عادي” أو “صحي”، لكنه لا يخبرنا شيئًا عن الكميات الهائلة من الوقت والجهد التي تستثمرها مجتمعات مثل مجتمعاتنا الآن في محاولة مستمرة لتوليد ردود الفعل من مختلف الأنواع وتصويرها، ليس فقط في مختبرات العلوم أو المستشفيات، ولكن في كل مستويات الاقتصاد والمجال العام والمجتمع المدني. وشكل “المتصيد” هو أحد الأمثلة على ذلك، حيث يبذل المتصيد قصارى جهده لإثارة رد فعل (عادةً رد فعل غاضب) من هدفه، وليضحك مع أصدقائه على الأمر. لكن أي شخص زار معلمًا شهيرًا أو شاطئًا خلابًا في السنوات الأخيرة سيكون على دراية بظاهرة ليست أقل غرابة: الصور المُجهَّزة بدقة للنشر على إنستغرام. لا يشبه الوقت والجهد المبذوليْن في إنتاج هذه الصور (بما في ذلك الملابس والشعر والمكياج) أي شيء حدث في عصر الصور ما قبل الرقمية، ولا يمكن تفسيره إلا على أنه بحث محموم عن ردود الفعل على الإنترنت. شهدنا مع انتشار حالة التصوير الفوتوغرافي في الحياة اليومية تحولًا عميقًا نتيجة لهذا التفاعل المتبادل بين المصوِّر والمشاهد. وتغير تصميم المعالم العامة والديكورات الداخلية المنزلية بدوره بهدف إنتاج محتوى مرئي أكثر جاذبية.
فكروا أيضًا برسائل البريد الإلكتروني غير المنتهية والتي تتبع الآن عمليات الشراء عبر الإنترنت، حيث تطالبنا الشركات بتقييم “تجربتنا” في الحصول على طرد عبر صندوق البريد. ولا تبحث عن الشركات هنا عن رد فعلٍ Reaction، وإنما عن «تفاعل/تعقيبات/انطباعات/مراجعات» (Feedback)، وهو مصطلح صار شائعًا في تخصصات علم التحكم الآلي (Cybernetics)، وهو مجال متعدد التخصصات نشأ خلال الحرب العالمية الثانية، وجمع الأطباء النفسيين وعلماء الكمبيوتر وعلماء الأحياء في جهد جماعي لفهم الطريقة التي تتكيف بها الكائنات الحية، والآلات مستقبلًا، باستمرار مع بيئة متغيرة. يسعى البشر من منظور علم التحكم الآلي، مثلهم مثل الحيوانات وجميع الأنظمة المعقدة، إلى تحقيق أهدافهم من خلال تعديل سلوكهم باستمرار استجابةً لـ “تفاعل” الطبيعة من حولهم معهم. يصبح التفاعل متبادلًا، حيث تتم معالجة المعلومات الجديدة باستمرار وتعديل السلوك استجابةً لذلك. كل كائن حي يتفاعل مع ردود أفعال مَن حوله. قدّم هذا طريقة فهم جديدة للأسواق: يمكن فهم مؤشرات الأسعار على أنها ردود فعل يجب أن يتفاعل معها التجار باستمرار. تتأثر ردود الفعل المحتملة للأسواق المالية في مجتمعنا بالقرارات السياسية، وذُكِّر تراس وكوارتنغ بذلك بشكل غير رسمي.
يتعلم مستخدم إنستغرام في إجازتهِ سُبل زيادة تفاعل المتابعين لديه من خلال مراقبة ردود الفعل التي تتلقاها صوره، وتتعقب شركة التوصيل خدماتها اللوجستية (وتراقب سائقيها) على أساس الملاحظات التي تتلقاها من العملاء، ويبحث المحلل المالي في برنامج بلومبرغ تيرمينال عن حركة الأسعار بالغة الأهمية. وليس المهم هنا مدى إيجابية أو سلبية ردود الفعل، وإنما في وجودها، ويتطلب الحفاظ على استمرارية حلقة ردود الفعل يقظةً وعملًا متواصليْن.
بصفتي أكاديميًا، فأنا أعرف جيدًا ما تمر بهِ الجامعات لحمل طلابها على تقديم ملاحظاتهم عبر استبانة الطلاب الوطنية (NSS). تعد التعليقات السلبية مصدر قلق بالطبع، لكن الخوف الحقيقي يبقى من عدم مشاركة الطلاب في الاستبانة على الإطلاق: إذا فشل قسم جامعي في تلبية الحد الأدنى من الاستجابة، فسيختفي من المنافسة. وبالمثل، فإن خوف المؤثر على الإنترنت ليس من ردود الفعل السلبية، ولكن من انخفاض معدل التفاعل لديه. من منظور علم التحكم الآلي، يعتبر النظام الذي يتوقف عن استقبال ردود الفعل غير متجاوب وتوقف عن التطور، بل ويعتبر ميتًا.
مصطلح “علم التحكم الآلي” مشتق من الكلمة اليونانية kybernetes، والتي تعني قائد السفينة. المشكلة التي شغلت علماء التحكم الآلي هي سُبل السيطرة على الأنظمة المعقدة، سواء كانت أدمغة أو منظمات أو أسراب من الحشرات أو شبكات الكمبيوتر. وإذا عرفت السبيل إلى ذلك، يتحول السؤال نحو كيفية توجيه الأنظمة المعقدة إلى هدفٍ معين. ردود الفعل بالنسبة لعلماء الإنترنت هي المعلومات التي تخبر الشخص أو مركز التحكم بتعديل السلوك بطريقة معينة لتحقيق النتائج المرجوّة، مثل عداد السرعة على لوحة القيادة في السيارة، أو شعورك بالجوع في معدتك، والذي سجله الدماغ على أنه “جوع”.
تتشكّل أكبر مخاوفنا في اقتصاد رد الفعل اليوم أننا وفي إطار سعينا اليائس لتحصيل ردود الفعل على الإنترنت وفي حاجتنا لتقديم ردود فعلٍ على الآخرين، قد نُجرُّ في اتجاهاتٍ لم نوافق عليها أو لا نرغب فيها. وهذا يعيدنا إلى المخاوف التي انتشرت في منتصف القرن العشرين من الدعاية والعلاقات العامة والإعلان، ولكن بفارق انجذابنا إلى الجدل في عصر سلاسل ردود الفعل وإلى القُلعات العامة السخيفة والميمات والتصيد وغيره. وفي ظل هذا الغزارة في ردّات الفعل، نشعر بجاذبية الحالة في الكمية المهولة لردود الفعل التي يجري تداولها؛ ويتبين لنا الآن أن “ردود الفعل Feedback” التي اعتبرها علماء الإنترنت أدوات لتحقيق الاستقلالية وتسهيل التنقل، ليست إلّا فخًا كبيرًا.
صُوِّر لاعب آرسنال وإنجلترا السابق إيان رايت في عام 2005 في ملعب آرسنال القديم في هايبري، كجزء من فيلم وثائقي على قناة ITV عن حياته. يتحدث الراوي عن المُدرّس سيدني بيغدن، والذي كان حاضرًا مثل الأب في حياة رايت إبّان ترعرعه في جنوب لندن. تخيل رايت أن بيغدن قد مات. صُوِّر اللاعب وهو يحدّق فوق أرضية الملعب من المدرجات، ولكنه عندما أستدار، بدا كما لو أنه قد رأى شبحًا: السيد بيغدن يقف أمامه. استدرك تأخره، وخلع قبعته احترامًا، وقال: “سيد بيغدن… أنت حي ترزق”.
لم يُنشر المقطع على يوتيوب حتى عام 2010، وجمع منذ حينهِ حوالي ستة ملايين مشاهدة. ثمة أمر لا يقاوم في مشاهدة وجه رايت وهو يتحول من الحنين إلى الماضي وهو يحدّقُ في أرض الملعب، إلى الصدمة ثم البكاء عندما يظهر ماضيه أمامه. أُخِذَت المشاهد من فيلم وثائقي عن اللاّعب، إلا أن اليوتيوب ربط بين هذا المقطع، وبين أكثير مقاطع اليوتيوب شيوعًا، وهي مقاطع «ردات الفعل». ومن أكثر المقاطع انتشارًا مع بداية ظهور هذا النوع من الفيديوهات كان مقطعًا ضعيف الجودة نشره مستخدم يوتيوب عام 2006 لطفلين (براندون وريتشل) وهما يفتحان هدية الكريسماس والتي كانت جهاز ألعاب نينتندو قبل 6 سنوات من تاريخ نشر الفيديو. يصيح براندون فرحًا “جهاز نينتندو 64″، واسم الفيديو هو الجملة نفسها وجمع أكثر من 25 مليون مشاهدة.
أصبحت منصات التواصل الاجتماعي في السنوات التالية تضج بالمحتوى الذي يركز على الاستجابات العاطفية المُباشرة، مثل رد الفعل على هدية غير متوقعة أو على خبر صادم أو على تجربة لعبة فيديو، أو عند الاستماع إلى أغنية مشهورة لأول مرة. يعرض يوتيوب مئات مقاطع الفيديو للأطفال الصم الذين يسمعون لأول مرة بفضل غرسات القوقعة الصناعية الجديدة. ومثلما صارت تُخطط الإجازات على إنستغرام، تُنظَّم الآن المفاجآت الكبرى بعناية لتكون مُسجلة على الفيديو. لي زميلٍ سابق لم ير أبناءه أهله من قبل لأنهم عاشا لعامين على قارة أخرى بسبب تبعات كوفيد. وعندما تمكن أخيرًا من حجز رحلة، لم يخبر والديه عنها ليتمكن هو وعائلته من مفاجئتهم والتقاط اللحظة على هاتفه الذكي وتخزينها للأجيال القادمة. تعد هذه القرارات مُكلفة. حُرم الوالدين من متعة التطلع لرؤية ابنهما وأحفادهما ومن متعة التحضير للإجازة، إلا أن هذه التكلفة لم تكن عالية مقارنة بتسجيل لحظة سحرية واحدة، تعرض لاحقًا، ولربما تُنشر على الإنترنت ليراها الآخرون.
ما الذي يحدث هنا حقًا؟ كيف تمكننا من تحميل الكثير من القيمة الثقافية والأخلاقية على الاستجابة العاطفية اللحظية إلى الحد الذي جعلنا نُرتب حياتنا على شكل لحظات يتابعها الآخرون؟ هذا يدل، على المستوى التكنولوجي، على القدرة الهائلة للمراقبة الموجودة الآن، وذلك بفضل انتشار الهواتف الذكية وأجهزة التسجيل الأخرى. كان برنامج «الكاميرا الخفية» هو المثيل التناظري لفيديوهات رد الفعل، والذي بُثَّ لأول مرة في أميركا عام 1948 وحقق نجاحًا كبيرًا في الخمسينيات والستينيات، وتقوم فكرة البرنامج على وضع مجموعة من الأشخاص الذين لا يعلمون عن التصوير في مواقف عبثية في أثناء ممارستهم لحياتهم اليومية، وتصوير النتائج سرًا، وتكون ذروة الحلقة مع إخبار الناس أنهم في برنامج الكاميرا الخفية، مما يثير صدمتهم وضحكهم. شرح برادلي كليسولد أن نجاح الكاميرا الخفية يأتي في سياق مخاوف الحرب الباردة حول المراقبة، مما وفر تنفيسًا فكاهيًا لضغط الشعور بالمراقبة والذي كان له تأثيرا مقلقًا على أميركا بعد الحرب العالمية الثانية.
تضمن كتاب تشارلز داروين التعبير عن العواطف عند الإنسان والحيوان (1872)، والذي اعتبره البعض أصل الفهم الحديث للعاطفة، تفسيرًا واسعًا لردود الفعل العاطفية على وجوه الحيوانات. كان داروين مصورًا متحمسًا: لقد مكنه اختراع الكاميرا من التقاط ودراسة تعابير الوجه العابرة بطريقة لم تكن ممكنة من قبل. سُرِّع البحث عن رد الفعل “الأصيل” الحقيقي من خلال تصوير الفيديو في كل لحظة وفي كل مكان. وعلينا أيضًا أن ندرك حقيقة أنه في ثقافة تنتج وفرة هائلة من “المحتوى”، تبدو المقتطفات التي تظهر الاندفاعات العاطفية ذات قيمة لا يمكن أن يضاهيها شيء آخر. تحمل الاستجابات وردات الفعل على العناصر الثقافية، قيمة أكبر من العناصر نفسها. تتيح منصة البث تويتش (التي تضم حاليًا 140 مليون مستخدم شهريًا حول العالم) للأشخاص مشاهدة أشخاص يلعبون ألعاب الكمبيوتر. يسعى اللاعب إلى توسيع جمهوره، وذلك للفوز بالرعاية والتبرعات، ليس فقط من خلال كونه جيدًا جدًا في الألعاب، ولكن من خلال إظهار شخصية جذابة عاطفيًا في أثناء اللعب.
يجب أن يكون مستخدم تويتش الناجح قادرًا على مشاركة إحساسه بالدهشة والإثارة مع تطور اللعبة بصرف النظر عن كونه لاعبًا محترفًا، وبالمثل، يصور مستخدمو يوتيوب أنفسهم وهم يستمعون إلى أغاني البوب الشهيرة غالبًا لأول مرة. في أحد الأمثلة الأكثر شهرة، حيث حصد مقطع فيديو عشرة ملايين مشاهدة، يستمع أخوان توأم (تيم وفريد ويليامز) إلى أغنية In The Air Tonight لفيل كولينز لأول مرة، ويعبران عن دهشتهما وسرورهما مع انطلاق الدرامز. لدى أنجح صانعي فيديو ردود الفعل جو محبوب وبريء، فهم يستمعون ويشاهدون الأشياء بروحِ الإعجاب، مثل طفلٍ يستمع إلى أغنية لأول مرة.
تكمن جاذبية مقاطع الفيديو هذه جزئيًا على الأقل في حقيقة أن المشاهدين غالبًا ما يكونون على دراية بالأغنية وقد يجدون صعوبة في الاستجابة لها بأنفسهم. تجعل ميزة إعادة الاستماع اللانهائي لأغاني البوب الكلاسيكية من النصف الثاني من القرن العشرين من الصعب الاحتفاظ بالشعور بخصوصية الأغنية أو تذكر الطريقة التي بدت بها ذات مرة. يوفر فيديو التفاعل الموسيقي نفقًا يعود إلى ما قبل العصر الرقمي، قبل توفير “الذيل الطويل” للمحتوى القديم بشكل فوري ومجاني. تمامًا كما يوفر برنامج تويتش للبث تجربة غير مباشرة للألعاب على مستوى النخبة، ويصبح لصانع فيديو ردات الفعل الناجح قناة لتقدير القيمة التي دُفنِت تحت جبل من قوائم تشغيل Radio Six Music وSpotify. يحاول فيديو رد الفعل الموسيقي، مثل حفلات الاستماع على الفينيل و”الجولات الحية للذكرى السنوية” للألبومات الكلاسيكية، التنقيب عن التأثير الجمالي الذي خنقه الأرشيف الرقمي.
تبقى الإجابة على سؤال مكمن القيمة الحقيقية غامضةً. هل رد الفعل شهادة على قيمة الأغنية (أو لعبة الكمبيوتر، أو هدية عيد الميلاد أو أي شيء آخر)؟ أم أن هذه الأمور تكون مجرد أداة تستخدم لإثارة رد الفعل العاطفي العفوي؟ يقترح التزامن بين هذه الأشياء والاستجابة عليها توليفة جديدة للنقد مع التجربة السلوكية. ويبدو أن هذا مشابهًا لنهج الأفلام الوثائقية الثقافية المعاصرة حيث يتم تصوير مذيعين مشهورين مثل سيمون شاما أو غرايسون بيري وهم يحدقون بإعجاب في شيءٍ ما. غالبًا ما تُثبَّت الكاميرا على وجه المقدم والشيء في الوقت نفسه، كما لو أن مفتاح قيمة الشيء ليس في شكله أو لونهِ، ولكن في تعابير وجه الشخص الذي يحدق فيها، ويخلق هذا نوعًا من الانعكاس بين وجه الشخص والشيء الذي ينظر إليه، حيث يكشف كل منهما شيء عن الآخر.
يرتبط النمو الاستثنائي لمحتوى رد الفعل بتحول أكبر بكثير في الطريقة التي رأينا ونرى بها أنفسنا ومجتمعاتنا على مدار الثلاثين عامًا الماضية، وكما أوضح عالم الاجتماع نيكولاس روز، فإن الصعود والتأثير الثقافي لعلوم الأعصاب منذ أوائل التسعينيات قد أحدث تحولات دقيقة، ولكن عميقة فيما نعتبره إنسانًا. نشأ علم النفس والتحليل النفسي في أواخر القرن التاسع عشر على الإيمان بـ “العقل” و “الوعي” (المفاهيم التي هُمشت بشكل مطرد في الثورات السلوكية التي تلت ذلك)، ولكن يتم تشجيع الناس الآن على فهم أنفسهم على أنهم مخلوقات عصبية، يمتلكون أدمغة تشكّل كيمياءهم وتركيبهم الجسدي الطريقة التي يشعرون بها ويتصرفون بها.
تغلغل اكتشافان علميان عصبيان على وجه الخصوص في ثقافتنا، حتى لو لم نلاحظهما إلا بصعوبة. الأول هو “مرونة الدماغ”: فكرة أننا نتغير فسيولوجيًا من خلال التجارب، خاصة تلك التي نمر بها عندما كنا صغارًا. وبينما لا يمكن اعتبار مشاهدة الأشخاص الذين يتفاعلون مع الأغاني لأول مرة دراسة عصبية، فإن السبب الذي يجعلنا نفتتن بها هو اعتمادها على فكرة أن التجارب تترك بصمة جسدية علينا، مثل آثار الأقدام في الثلج. وهذا يعني أن المستمع الذي لم يسمع الأغنية قبلًا يتأثر بها، مما يمنح المشاهد فرصة مشاهدة تأثير الأغنية، دون تأثير أي تجربة سابقة عليه.
الاكتشاف الثاني في علم الأعصاب والذي أصبح سائدًا في ثقافتنا هو اكتشاف “الخلايا العصبية المرآتية”، والذي يعتقد البعض على أنه الأساس الفسيولوجي للتعاطف لدينا، وتنشط هذه الخلايا العصبية عند رؤيتنا لشخص آخر يُعاني أو يعيش عاطفةٍ أو إحساس شديد، وعليهِ، فإن رؤيتنا لشخص يعاني من ألم حاد يثير نشاطًا في أجزاء من أدمغتنا مرتبطة بالألم. يمكن تفسير مقاطع الفيديو الخاصة بردود الفعل بعبارات مماثلة: يمكن تجربة الإثارة والخوف والسرور والمفاجأة بجرعات صغيرة يمكن التحكم فيها من خلال مراقبتها في تعبيرات الآخرين.
يتيح استخدام تقنية الشاشة التي تعمل باللمس نقل المشاعر والحالات المزاجية بطريقة معدية من خلال التعاطف العصبي، ويؤدي الوجه البشري أيضًا دورًا مهمًا في هذه العملية. إن السعي وراء تعبيرات حقيقية عن الفرح أو الصدمة، أو حتى مزيج من الاثنين، مما يحفز إنشاء محتوى رد الفعل، يضفي على الوجه البشري قوة تواصلية لا يمكن أن تقابلها الكلمات. يُنظر إلى تعبيرات الوجه الديناميكية لأفراد مثل إيان رايت أو سمع الطفل لأول مرة على أنها مصدر أصالة في عالم يسود فيه الخداع والمقاطع المكتوبة مسبقًا.
تولِّد “الأصالة” في الثقافة الرقمية نقيضها باستمرار: يظهر للناس أن الحدث “العفوي ” لم يكن عفويًا، وأن “المفاجأة” لم تكن مفاجأة، بل مُخطط له، وأن الانفجار العاطفي لم يكن إلا تمرينًا. يحشد موقع تيك توك بهذه المقاطع المضحكة التي تبدو “أصلية” (تكون مقالب غالبًا)، وتنشغل التعليقات عليها حول حقيقة أصالتها. صار الوجه البشري، معيار الحقيقة العاطفية، أساس الرموز التعبيرية و “ردود الفعل” على فيسبوك، وهو الآن نظام كامل للدلالة قادر على نقل معنى كبير، ولكن من خلاله فقد الوعد بالعواطف الحقيقية أو الفورية. أي ثقافة تسرف في الثناء على “الأصالة” إلى الحد الذي تفعله ثقافتنا تواجه مخاوف بشأن “التزييف”.
أنتجت هذه الثقافة نوعًا مميزًا من المشاهير أو المؤثرين، الذين يحومون في المساحات المتناقضة بين الحكم النقدي والاندفاع السلوكي والأصالة والأداء المدروس. تدور برامج المواهب مثل إكس فاكتور حول ردود فعل وجوهِ أعضاء لجنة التحكيم المشاهير؛ ويتخصص الأشخاص مثل سايمون كويل متخصصون في التلاعب بحاجبه أو في إظهار تفاعلٍ عفويٍ مفاجئ. وتدرك الشخصيات المتمرسة مثل بيرز مورغان أن ما سيبقيهم في دائرة الضوء هو القوة والتميز وقابلية المشاهدة لاستجاباتهم السريعة، والتي صُمّمت أساسًا لإشعال سلاسل ردود الفعل.
ليس لدينا مصطلح يشير إلى هذا النوع من المشاهير والذي يحتفظ بنجاح بموقع عام مؤثر من خلال القدرة والاستعداد للتفاعل وإظهار ردود الفعل بطرق مذهلة. يُعرّف “المتفاعِل العام The Public Reactor” على أنه جزء من الكورال اليوناني، ويشارك المسرح مع الممثلين ويتفاعل مع الأحداث فورَ وقوعها. كانت القدرة على الرد والتفاعلات الكبيرة عاملاً مهماً في ثروات العديد من القادة السياسيين في السنوات الأخيرة. يبدو ترامب وكأنه جاهزًا لتفور فائرته على الدّوام، وكأنه مستعدٌ ليستشيط غضبًا في أية لحظة، الأمر الذي أضاف إحساسًا بالخطر والإثارة إلى حياته السياسية. على النقيض من ذلك، بدا أن بوريس جونسون دائمًا على وشك الانفجار من الضحك. كما لاحظ العديد من المراقبين، كان لدى كلا الرجلين متسع من الوقت لممارسة شخصياتهما “الحقيقية” المعروضة أمام الناس، في برامج تلفزيون الواقع، وبرامج الضيوف، وفي أماكن أخرى. ويبدو أن السؤال عن حقيقة هؤلاء الرجال غير قابل للإجابة.
كان للأشخاص الذين يتمتعون بقدرة واضحة ومرئية على أن يكونوا غاضبين علنًا أو يستمتعوا علنًا (يتميز نايجل فاراج بقدرتهِ على إظهار الغضب والاستمتاع في الوقت نفسه) دور محوري في السياسة في العقد الماضي، وفي الاضطرابات “الشعبوية” التي عانت منها الديمقراطيات الليبرالية. يظهر السياسي الغاضب أو المُستمتع بوصفهِ ممثلًا عاطفيًا عن أولئك الذين لا يتمكنون من التعبير عن عدائهم للسياسة المعاصرة. اكتسب الغضب والضحك أيضًا وظائف سياسية وحاسمة في هذا المجال العام الرقمي، حيث يحركان شجب الأنظمة السياسية والاقتصادية في سياق تبدو فيه آليات التقييم والحكم الرسمية أو “السائدة” متعفنة. غالبًا ما يعبر الغضب السياسي عن رفض قبول نظام كامل من العدالة: في حالة ترامب وأتباعه، فقد رفضوا نظامًا يعامل الناس على قدم المساواة بغض النظر عن لون البشرة ويفتح مساحة لمواجهة مظالم وعنف الماضي. من ناحية أخرى، فإن الضحك السياسي هو وسيلة لتقليل قيمة أنظمة القيم، والتقليل من شأنها وفضح سخافاتها المفترضة. في ظروف الاستقطاب السياسي، يستخدم كلا الجانبين السخرية والاستهزاء لتقليل صدق واستقامة خصومهم. رسالة الضحك السياسي هي أن الأمور الخاطئة تؤخذ على محمل الجد.
الغضب والفكاهة ردود أفعال متوازية لعالم يبدو أنه فقد القدرة على الاعتراف بالظلم الحقيقي، وأصبح يركز بدلاً من ذلك على الظلم الزائف، لعالمٍ يتحول انتباهه عن القضايا المهمة إلى الجرائم الصغيرة. وبينما يتصادم الغضب والفكاهة علنًا في المقالب وفي هجومات المتصيدين، فهما يكشفان عن الارتباك الحاصل لدى الناس في المعاني الراسخة للعدالة والظلم، بل وإلى انقلابها. ما يُنظر إليه على أنه حقيقي صار مزيفًا، وما يُرفض على أنه مزيف، هو في الواقع حقيقي.
قد لا يكون لدينا مصطلح محدد لمشاهير ردات الفعل، لكن قاموس الأيديولوجيات السياسية يحتوي على مدخل واحد يتحدث عن مخاوفي: “reactionary”أو الرجعيّ. يعود تاريخ هذا المصطلح إلى الثورة الفرنسية، وقد استخدم لوصف أولئك الذين ينتمون إلى اليمين السياسي والذين يرفضون النظام الاجتماعي الحالي ويسعون إلى العودة إلى حقبة ماضية. يسعى المحافظ إلى اعتدال الحركات التقدمية والتأكيد على أهمية الروابط المجتمعية مثل الدين أو الثقافة، أما الرجعيون فيدعون إلى رفض أكثر حدة للحداثة وأوهامها وأكاذيبها المتصورة. بالنسبة للرجعيّ الحقيقي، فإن المؤسسة (كما يعتز بها المحافظون) أضعف من أن تقاوم تهديد التقدميين والثوريين. وتوجد حاجة لإيجاد أجندة يمينية أكثر عدوانية. وهي أجندة ليس من شأنها فقط عكس مكاسب اليسار، ولكن تدمير المؤسسة التي فتحت الباب لليسار بالمقام الأول. ويرى الرجعيون أن المحافظين العاديين لم يكونوا استباقيين بما يكفي لمعالجة هذه القضايا.
تتحرك مثل هذه السياسة بفضل طاقات وأفعال اليسار. ويتشارك الرجعيّ مع الثوري في شعوره الدّاهم بالخطر. توجد حيوية في هذا النظام، بل وربما بعضًا من الخيالات الأولى لعلم التحكم الأولي، وتوجّه فيه طاقات وأساليب اليسار إلى اليمين على شكل طاقة غضب، وهو ما يؤدي بدورهِ إلى تحريك أمرٍ بقي ساكنًا لفترة طويلة من الاستقرار. الاتجاه نحو الفاشية، والتي نشأت تاريخيًا كحركة معادية للشيوعية. يأتي جزء من جاذبية رد الفعل السياسي من فكرة الهزيمة البطولية، حيث يُنسب كل الزخم والقوة إلى الخصوم، ولكن مع بقاء بعض القدرة للبقاء عند الأطراف الأخرى. يزدهر اليمين الرجعيّ، مثلًا عند سويلا برافرمان، بأننا عانينا لعقودٍ من الانتصارات الثقافية للماركسيين والبليريين والصحويين والنسوية والدراسات العرقية النقدية، وهي القوى التي سيطرت على الحكومة والمؤسسات متعددة الأطراف وعلى كل الجامعات، وأن المقاومة النشطة قد قُلصّت إلى مجموعة صغيرة من مقاتلي حرب العصابات، مختبئين في الصحف المحاصرة والمراكز البحثية الممولة تمويلًا غامضًا.
ماذا نستفيد من مجتمع يستثمر الكثير في ردود الفعل من نوع أو آخر؟ ينبع جزء من جاذبية مشاهير ردات الفعل أو فيديوهات رد الفعل من رغبتنا في أن تكون ردود أفعالنا العفوية هي ردود الفعل “الصحيحة” خوفًا من قدرتنا على التفكير في رد الفعل المُناسب عند وقوع حدثٍ ما[4]. إحدى مشاكل اعتماد الغضب والفكاهة كوسائل للتنديد هو أنهما لا يكونان المناسبات للرد في بعض الأحيان وفي بعض المواقف. يتراءى لنا أن ويل سميث يتمنى أن يكون شخصًا يتفاعل بغضبٍ، لا بفكاهة، عندما تكون زوجته موضوعًا لنكتة قاسية. (غريب أننا نتحدث دائمًا عن أشخاصٍ “بحس فكاهيٍ ألمعي”، وليس “بحسٍ غاضب”، على الرغم من الجاذبية الهائلة التي ننسبها من يبدون ردات فعل غاضبة.
ربما يكون تركيزنا الجمعي على ردود الفعل أحد أعراض ما وصفه المحلل النفسي في مدرسة فرانكفورت إريك فروم بـ “الخوف من الحرية”، والذي يعتقد أنه فطري في النفس البشرية، حيث بيَّن في كتابه “الخوف من الحرية” عام 1941:
يواجه الإنسان منذ بداية وجوده الاختيار في أفعالهِ، أما عند الحيوان، فتوجد سلسلة غير منقطعة من ردود الفعل تبدأ بباعث غريزيّ، مثل الجوع، وينتهي بسيرٍ للفعل محدد بصرامة بشكل أو بآخر، وهو فعلٌ يطيحُ بالتوتر الذي يخلقه الباعث. تنقطع تلك السلسلة عند الإنسان، حيث يكون الباعث موجودًا، ولكن نوع الإشباع “مفتوحًا”… ويخيّم عليه أن مصيره مصيرٌ مأساوي: أن يكون جزءًا من الطبيعة، وأن عليهِ تجاوزها.[5]
ما أثار تحليل فروم هو الاستبداد الذي فر منه بصفته يهوديًا ألمانيًا. كان الخضوع لقائد ما والانغماس في حشود الناس وسيلة للهروب من القلق والوحدة اللذين تسبغهما الحرية علينا جميعًا. وكتب فروم: “الشخص الذي يتنازل عن نفسه الفردية ويصبح آلة متطابقًا مع ملايين الآخرين من الآلات المحيطة به لا يحتاج إلى أن يشعر بأنه وحيد وقلق بعد هذا”[6].
يمكن فهم التشاؤم في كتابات مؤلف منفيّ في أثناء الحرب العالمية الثانية، لكنه بعيد كل البعد عن عالم لاعبي تويتش أو فيديوهات التفاعل مع الأغاني والموسيقى، إلا أن تحولنا للسلوكية وتبنينا الفظ للخيال العلمي العصبي يشير بوضوح إلى محاولة لاستبدال فكرة حديثة عن “حرية” الإنسان بفكرة طبيعانية عن اندفاعٍ عفوي/غريزي، أي إعادة المجتمع البشري إلى عالم الحيوان، حيث يغيب المشاعر بالمسؤولية والقلق والذنب. للخطاب السياسي الرجعي صدى أكثر وضوحًا مع الظواهر التي ناقشها فروم: الهدف الواضح للرجعيين هو إعادة هيكلة المجتمع حول التسلسل الهرمي “الطبيعي” للعرق والجنس، ونزع الصفة الإنسانية عن أولئك الذين يمارسون، مثلًا، الحرية الخطرة[7] لعبور القناة الإنجليزية في قارب صغير.
يكمن التهديد السياسي هنا في زعم بعض الأفراد تجاوز السلاسل السلوكية الآلية بقوة إرادتهم المطلقة. وجدت الأيديولوجية المحافظة منذ القرن التاسع عشر مكانًا لبعض الأفراد، مثل رواد الأعمال والقادة والمديرين التنفيذيين والفنانين الرومانسيين، والذين لديهم القوة للبقاء مستقلين في مجتمع يقوم على الطاعة والامتثال. يقدم اليوم مجموعة متنوعة من المؤثرين السياسيين عبر الإنترنت أنفسهم كمبدعين أو قادة يجب اتباعهم، ويخلطون في شخصياتهم صفات وعناصر من معلمي الأعمال والفنانين الكوميديين والمحرضين المحترفين. يتمثل نجاح جوردان پيترسون أو أندرو تيت في توجيه الرجال ليكونوا أقل طاعة، بطريقة مُفارِقة، وإليك الطريقة.
في حين أن الجميع (بما في ذلك الحيوانات) قادرون على إبداء رد الفعل، فإن أقلية بسيطة تكون فقط قادرة على القيامِ بفعلٍ حقيقي. الفعل من هذا المنظور يعني القيادة، والتي بدورها تعني وجودة الكثير من الأتباع. تتطلب محاربة هذه العقلية التفكير في الفعل تفكيرًا ديمقراطيًا، بوصفهِ أمرًا صار ممكنًا بفضل حقيقة التعددية البشرية، ومن ثَمَّ، فإن كل فعلٍ هو في الواقع تفاعل، وهذا ما قالته حنة آرندت في كتابها «الوضع البشري» (1958)، حيث عرَّفت الفعل على أنه شكل من أشكال المبادرة، مثل ولادة شيء ما، كشفٌ عن الذات للآخرين.
يختلف الفعل في الساحة السياسية من وجهة نظر آرندت عن مجرد سلوك اجتماعي أو اقتصادي في كونه منيعًا للتحليل الإحصائي أو الاحتمالي: “واعتبار الإنسان قادرًا على الفعل يعني أنه يمكن أن ننتظر منه ما هو غير منتظر، وأنه قادر على تأدية ما هو مستبعد بشكل غير محدود”[8]. يحمل هذا الاقتباس بعضًا من وجودية زمن الحرب، حيث قد يتضمن “الفعل” مقاومة بطولية للاستبداد والوحشية، بيد أن نية آرندت كانت موضعة هذا النوع من الحرية المُربكة التي تصنع العالم مباشرةً في المجال العام حتى تصير المشاركة السياسية اليومية راسخة بهذه الأشكال من المسؤولية. يتمثل تحدي الديمقراطية في ضمان بقاء “الفعل” متجذرًا في المساواتية في مجال عام متنوع، بدلاً من الانزلاق إلى سلوكيات جماعية أو إلى رد الفعل أو إلى الطَّاعة (لواء لإملاءات القاعد أو لـ “قوانين” الاقتصاد”. كان هذ يتطلب بالنسبة لآرندت إبقاء الخصال السياسية التي لا يمكن تنبؤها أو إحصائها، والتي تختلف عن الاقتصاد وعلم النفس، في عين الاعتبار في جميع الأوقات.
ينطوي الفعل على الحرية وينطوي على عدم اليقين، وليس من السهل دائمًا التعايش مع أي منهما. قدم فروم، بشكل غير معهود لزميل من مدرسة فرانكفورت، ملاحظة واحدة تبعث على التفاؤل في تحليله. يمكن للأفراد أن يشعروا بالراحة مع الحرية، مع تجنب القلق والشعور بالوحدة اللذين تنطوي عليهما في كثير من الأحيان، من خلال تنمية قدرتهم على ما أسماه “العفوية”، وهو أمر اعتقد أنه كان مفقودًا لدى الكثير من السكان البالغين في الغرب في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين. وأشار إلى أن النشاط العفوي ليس نشاطًا “قهريًا”، ولكنه تمرين للذات الكاملة، جسديًا وعقلًا. كان يعتقد أن هذا التمرين قد اختفى إلى حد كبير من المجتمعات الغربية بسبب مطالب رأسمالية الشركات في القرن العشرين، لكنه أمر واظب الأطفال والفنانين على القيام به، ونختبره جميعًا للحظات خاطفة من وقت لآخر. اقترح فروم مرددًا صدى فرويد أن البشر يواجهون في العمل وفي الحب عفويتهم الخاصة، ويعيدون اكتشاف الوحدة بين العقل والجسد والعالم.
كان فروم يكتب في منتصف القرن العشرين، وهو الوقت الذي كان فيه النقد الاجتماعي منشغلًا بتوافق نظرية “المجتمع الجماهيري” و “رجل المنظمة”. نفخر اليوم بعد الستينيات بكوننا “عفويين” و “مبدعين”، لكننا حولنا العفوية إلى شيء مُنظمٌ بعناية، ويجري إنتاجه بكميات كبيرة، والتركيز عليه. إن العفوية التي تكون تنتظر ردود الفعل بترقبّ، ومدفوعة بالسعي للتفاعل، ليست عفوية على الإطلاق، وإنما “أصالة” استراتيجية، تُشبه جدية مُزحة/مقلب محبوك بعناية. يذكرنا القادة السياسيون الذين تتجسد جاذبيتهم في أن يبدو غافلين عن عواقب أفعالهم، بأننا ملاحقون بردود الفعل المحتملة والتفاعلات مع أفعالنا.
كان فروم قلقًا من الطريقة التي سعت بها المعايير التعليمية في منتصف القرن العشرين للقضاء على “عفوية” الطفل لصالح الانضباط، حيث استخرجت منه الاستجابات العاطفية تمامًا. قد نعتقد اليوم، خصوصًا مع الكثير من الحديث عن الصحة و”العافية” العقلية، أننا تجاوزنا تلك المرحلة، إلا إننا نشعر بالحيرة حول السبب الذي يجعل مجتمعنا هذا القدر من القلق في أواسط الشباب. قد لا يخضع الأطفال اليوم للسلطات الأخلاقية الفيكتورية (على الرغم من أن الأجندة السلوكية في العديد من المدارس الإنجليزية قد توحي بخلاف ذلك)، لكنهم بلا شك يخضعون لسلطة ردود الفعل. يمكننا إلقاء اللوم على إنستغرام وواتساب وإمكانيات التنمر الرقمي التي توفرها الحياة عبر الإنترنت، ولكن يجب علينا أيضًا أن نفكر في الطرق التي أصبحت بها تقنيات التعليقات/رد الفعل والمكافآت جزءًا لا يتجزأ من كل لحظة من أيام الدراسة للطفل، وذلك بفضل التطبيق الواسع للبرامج والتطبيقات التعليمية الرقمية. تصبح العفوية والفعل مستحيلان عند هيمنة احتمالات رد الفعل عليهما، ليس فقط من المعلمين، ولكن من الأنظمة العديدة التي تتعقب الأطفال، والكبار، على مدار اليوم.
كتبت آرندت أنه بما أن الفعل السياسي هو شكل من أشكال المبادرة الراديكالية، والبدء من جديد، فهو محفوف بالمخاطر، ويمكن أن يؤدي إلى نتائج لا تُحمد عقباها، ويمكن أن يُربك الروتين الحالي. نبتعد عن السياسة (ونتجه نحو الاستبداد، أو كما أشارت أرنت أيضًا، إلى رواقية ساذجة) لأن ثمة شيئًا مخيفًا عند التفكير فيما يمكن للسياسة الجديدة أن تفعله. للتغلب على هذه العقبة، نحتاجُ إلى أمرين: أولاً، يجب أن يكون الناس قادرين على تقديم الوعود والوفاء بها لبعضهم البعض، بحيث لا يكون هناك تهديد دائم بأن كل شيء سيبدأ من جديد. إذا أُريدَ للمنظمات والجمعيات أن تستمر مع مرور الوقت، فيجب أن تُخضع الالتزامات السابقة سلطة العمل السياسي وأن تكبحها. ثانيًا، إذا أردنا الهروب من ظل الماضي والبدء بصدق من جديد، يجب أن يكون العفو ممكنًا. وللعفو من وجهة نظر آرندت دور مهم للغاية في تمكيننا من التحرر من رد الفعل الدائم ورد الفعل المضاد.
وفي مقابل الانتقام الذي يكون رد الفعل الطبيعي والآلي للتجاوز، والذي يمكن أن يُنتظر بسبب لاعودة مسار الفعل، ويمكن أن يُحتسب، فإن فعل العفو لا يمكن أن يُتوقع أبدًا؛ إنه رد الفعل الوحيد الذي يفعل على شكل غير منتظَر وهكذا يحافظ رغم أنه رد فعل على شيء من الطابع الأول للفعل.[9]
يُعتبر العفو فريدٌ لأنه يكسر سلسلة رد الفعل، على الرغم من ارتباطه بالفعل الأصلي، وهو ما يسمح بوجود بداية جديدة ممكن. لُوحظ مؤخرًا عجزٌ لدى البشر في قدرتهم على العفو في “ثقافة الإلغاء” والهجومات على سُمع الآخرين، والتي تزدهر في عالم اقتصاد رد الفعل. تُعتبر المنصات الرقمية آلات لمناهضة العفو والتسامح بحكم تصميمها وتخزينها. السؤال الصحيح هو: كيف يمكن لأي منا، خاصة الأطفال والشباب، أن يشعر بالراحة مع حريتنا وعفويتنا ونحن نعيش في عصر رأسمالية المراقبة، وهي الشرط الأساسي لاستمرار اقتصاد رد الفعل.
إحالات:
[1] وهي ميزانية كُشف عنها في بداية سبتمبر تقوم على زيادة الضرائب وخفض الإنفاق – المُترجم. [2] استخدم الكاتب بالإنجليزية مصطلح Owning the libs، والذي يشير من كلمة Owning إلى معاني الهيمنة والإهانة، ويعتبر المصطلح ضمن إستراتيجية سياسية يستخدمها المحافظون في اليمين الأميركي لإثارة حفيظة الليبراليين، وتقوم الإستراتيجية على استفزاز الطرف الآخر لاستدراج رد فعلٍ منه – المُترجم. [3] استخدم الكاتب تعبير “junction box” والذي يشير إلى علب التحويل الكهربائية المستخدمة في المنازل، والتي تربط التحويلات الكهربائية القادمة من المغذي الرئيسي والغرف وباقي المنزل – المُترجم. [4] استخدم الكاتب التعبير الفرنسي l’esprit d’escalier والذي يعني ذكاء الدرج أو خفّة الدرج، ويشير إلى أن يكون الشخص في نقاشٍ ما، ولا يتمكن من التفكير بردٍ مناسب على محاورهِ إلى عند وصوله إلى آخر الدرج في طريق خروجهِ – المُترجم. [5] نُقلت الترجمة بتصرف من كتاب “الخوف من الحرية” لإيرك فروم من ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد منشورًا مع المؤسسة العربية للدراسات والنشر في طبعته الأولى عام 1972 (صفحة 34) – المُترجم. [6] نُقلت الترجمة كما هي من كتاب “الخوف من الحرية” لإيرك فروم من ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد منشورًا مع المؤسسة العربية للدراسات والنشر في طبعته الأولى عام 1972 (صفحة 150)، وتجدر الإشارة إلى أن فروم استخدام كلمة automatons والتي تعني آلة ذاتية التشغيل وتستخدم في كثير من الأحيان للإشارة إلى الروبوت ذاتي التشغيل، وهو يشير هنا إلى أن البشر الذين يتخلون عن إرادتهم، يتخلون عن حيقهم في الاختيار خوفًا من الحرية ومما تحمله من قلق فرداني – المُترجم. [7] توجد إشارة في استخدام تعبير الحرية الخطرة لمقولة استخدمها توماس جيفرسون: “أفضل حرية خطرة على عبودية مطمئنة”. [8] نُقلت الترجمة من كتاب “الوضع البشري” لحنة آرندت من ترجمة هادية العرقي والمنشور مع دار جداول عام 2015 (صفحة 200) – المُترجم. [9] نُقلت الترجمة من كتاب “الوضع البشري” لحنة آرندت من ترجمة هادية العرقي والمنشور مع دار جداول عام 2015 (صفحة 263) – المُترجم.
المصدر: عرب 48