على غزة.. اكسروا الأقلام وجـفـفـوا الـصـحـف…!

لم تعد لا الكتابة ولا الحديث ولا الصراخ ولا شيء قادراً على إنقاذ هذه المدينة المنكوبة التي تتوالى منها أكثر القصص الإنسانية وجعاً، فالأدب العالمي الذي قرأناه منذ مئات السنين لم يكن يتصور أن كل الجرعة التراجيدية المحشو بها شديدة التواضع أمام ما تجسد في غزة ليَجُبَّ كل ما سبق من مآسٍ إنسانية.
حزن لم تعد تتسع له غزة ويفيض عن زمانها لتتشح عقودها القادمة بلون السواد وأعيادها القادمة وأيامها ولياليها القادمة، فقد قتلت إسرائيل عشرات الآلاف لكنها تركت ندوباً غائرة على أرواح ملايين تبقوا ولن يشفوا مما حدث. فالجريمة أكبر من حرب وأكبر من قتل وموت بل سحق فصل كامل من فصول الإنسانية، هكذا فعلت إسرائيل التي لا يمكن لذاكرتنا أن تنسى ما حدث.
حاولت طوال الحرب تجنب الصور شديدة الفظاعة، لا لشيء سوى المحافظة على بعض التوازن العقلي في حرب كان كل حدث فيها يكفي لغيبوبة العقل، وكي أحافظ على المقال بأقل عاطفة ممكنة.
لكن بين فترة وأخرى تنهار مصداتي العاطفية فقد كانت صورة واحدة كفيلة بأن ت فتح سدود الدموع في المقل لطفل فقد يديه وذراعيه يتلوى وجعاً ويتحرك متقلباً بشكل عشوائي، هكذا سيمضي هذا الطفل عمره حتى يكبر حاملاً كل وجع التاريخ بلا يدين تمسحان دمعة عندما يتأمل ما تبقى من جسد استقوت عليه القوة الغاشمة يوماً وهي تبحث عن نصر على شعب أعزل لم يكن يملك غير قيادة جاهلة.
أتابع مع الأهل ما يجري في غزة، أسأل عن التفاصيل لكن من لم يعش المأساة لا يمكن أن يفهمها أو يكتبها أو يرويها. فالحكاية ليست نصاً بل روح وعرق ودموع وآلام وعاطفة لا يعرفها سوى من وضعته اللحظة تحت سماء مدججة بالطائرات وجنازير الدبابات ومجاعة شديدة القسوة.
يا إلهي ما الذي يحدث وكيف يحدث كل هذا، وكيف لعالم تسيل فيه تريليونات من الدولارات كما الماء والدم في غزة لا يستطيع توفير كسرة خبز لطفل جائع ؟
أصعب ما يمكن سماعه أن تقول امرأة إن زوجها لم يعد يحتمل مطالباتها له بشربة ماء ….! ما هذا ؟ ألهذه الدرجة يصل الوجع والانهيار الإنساني ؟ ألهذه الدرجة علينا أن نستمر في الكتابة كأن ما يدور مجرد فيلم تلفزيوني سيعود الممثلون الذين أدوا دور البؤساء في رواية «فيكتور هوغو» لتغيير ملابسهم والعودة لحياتهم ؟
ما يحدث موجع وحقيقي يهز القلوب والضمائر ولا يكتب على الورق بل يرفع كل الأقلام ويصيبها بالسكتة، ويحرق كل الصحف التي لم تتمكن رغم بلاغتها من وصف أو وقف كارثة.
تسقط كل الأفكار التي لا تحمي طفلاً وكل السياسات وكل الأيديولوجيات وكل المجتمعات التي تعيش عاديات يومياتها، أرأيتم كذب الأمة ومن حاولوا طويلاً العيش في أوهام مصطلح كان يجب أن تباد غزة حتى ينكشف عريه وعري أمتين واحدة قومية والأخرى دينية، فلا الدول العربية تمكنت من حماية طفل ولا الدول الإسلامية حمت شرف امرأة فأي عيد يمر وغزة تحت سكين الجزار بلا رحمة.
العيد في غزة طوابير من الحزن نحو مقابر الأحبة الذين التهمتهم الحرب التي التهمت غزة وحولتها إلى مقبرة كبيرة، سيظل الغزيون يدلقون حزنهم فيها إلى يوم الدين، إنه كابوسها الطويل الذي يمتد لأجيال قادمة لن تنجو من وجعه الذي ستبقى الذاكرة تنبض به لأن تراب غزة انعجن مع الدم، وشاطئ غزة سيظل يبكي للفجيعة التي خلفتها شهادته على التاريخ وهو يرى أمامه كل هذا الظلم والقهر، قالت أختي في غزة أمس وأنا أحاول جمع ما يكفي من لغة مواساة الوجع الذي تعيشه «لم يعد لدينا مشكلة مع الحرب يمكن أن نحتمل لكن الجوع أكثر إيلاماً، لو دخلت المساعدات واستمرت الحرب يمكن أن يكون الأمر محتملاً».
هكذا تعبر الفجيعة عن نفسها بصورها التي تستنسخها يوميات غزة المكلومة.
فقد كان سؤال الغزيين على امتداد الحرب «متى تتوقف الحرب» ليتواضع السؤال فلتستمر الحرب ولكن متى تنتهي المجاعة ؟ فالحرب تقتل بطلقة أو بصاروخ أو شظية مرة واحدة بلا ألم، لكن الجوع يقتل كل لحظة وكل ثانية، يلسع الجسد ويكسر النفس.
وهكذا أصيبت غزة بالانكسار؛ رجالها ونساؤها وأطفالها الذين سيشبون حاملين هذا الانكسار.
غزة موجوعة وتنزف بحدة للعيد الثالث وللثكل العاشر وللمأساة المائة وللانكسار الألف كما تاريخها الحزين، ولا حل قريباً فالشقيق والصديق ينصرفون لحياتهم وواشنطن تقف بالمرصاد الثقيل في مجلس الأمن لمن يحاول وقف إبادتها، ولا أمل بعد كل تلك الشهور الطويلة، فقد انهار المجتمع الفلسطيني هناك ولم يبقَ شيء يوقف هذه المأساة.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر