شخوص إلياس خوري… الفلسطينيّة
الروائي اللبنانيّ إلياس خوري
من الصعب اختصار مسيرة إلياس خوري الأدبيّة في بضعة أسطر، لكن من السهل بدء الحديث عنها من باب فلسطين. لطالما ردّد خوري جملة: “أنا لا أحبّ فلسطين، أنا أحبّ الفلسطينيّين”. ومَنْ يعرف خوري شخصيًّا أو قرأ أعماله، يعرف تمامًا ما يعنيه من هذه الجملة، فهي تخاطب مباشرة نفاق كلّ مَنْ كان حبّه – أو حبّها – لفلسطين مشروطًا. تحضر فلسطين في أعمال خوري الأدبيّة؛ قضيّة وانتماء ورواية وذاكرة، وشخوصًا عاديّة تصارع للحفاظ على فلسطينيّتها؛ من خلال التمسّك بذاكرة وتجربة جمعيّة وفرديّة في آن؛ تجربة لمّا تنتهِ بعد، بل “نكبة مستمرّة” كما يصفها خوري؛ فيصعب كتابتها بفعل عدم انتهاء التجربة من ناحية، وحدّيّة ألمها من ناحية أخرى؛ فتبدو الكتابة شبه مستحيلة، مثلها مثل عدم كتابتها.
لخوري موهبة في ابتكار شخصيّات روائيّة متكاملة؛ بمعنى أنّها حقيقيّة في واقعيّة تجاربها؛ وذلك من خلال تفاصيلها، حركيّتها، انفعالاتها، أفكارها الّتي نتّبعها، وساوسها، آلامها وجروحها، تجربتها الإنسانيّة الّتي تجعلها تشبهنا؛ أي أنّها شخصيّات يمكن أن تكون نحن، وتجارب وحكايات يمكن أن تكون تجاربنا وحكاياتنا؛ فتتقاطع رواياتنا مع رواياتهم، وشخصيّاتنا مع شخصيّاتها، وعالمنا مع عالمهم؛ بمعنى أنّها تجارب وشخصيّات قابلة للتصديق (Relatable)، بطريقة تمكّننا من أن نتماهى معها؛ ولذلك أهمّيّة كبرى في سياق أيّة فاجعة أو نكبة أو كارثة إنسانيّة، إن كان ذلك في السياق اللبنانيّ أو السياق الفلسطينيّ الّذي نتحدّث عنه هنا. فإذا ما أخذنا سياقًا مثل النكبة، على سبيل المثال، فإنّه من الصعب بفعل هذا التماهي الّذي تتيحه أعمال خوري الأدبيّة، ألّا نعتبر في ذلك قوّة، ليس فقط في إنتاج فضاء لأصوات وتجارب وروايات منسيّة ومهمّشة، بل أيضًا في أثرها وبُعدها السياسيّ.
في رصيد خوري أكثر من 14 عملًا أدبيًّا، وبسبب ضيق المساحة؛ لا يسعني الحديث عنها كلّها، وسأركّز على روايتين حضرت فيهما فلسطين بشكل واضح: «باب الشمس» (1998) وثلاثيّة «أولاد الغيتو – اسمي آدم» (2016)، و«نجمة البحر» (2018)، و«رجل يشبهني» (2023).
«باب الشمس»… حكايا الأرض والحبّ
تكمن أهمّيّة رواية «باب الشمس» في كونها من أولى (إذا لم تكن الأولى) الأعمال الأدبيّة الّتي تطرّقت إلى مجزرة صبرا وشاتيلّا، الّتي أفجعت بيروت في عام 1982، في ظلّ الاجتياح الإسرائيليّ، وتابعنا فيها قصّة يونس الأسدي وخليل أيّوب الفدائيّ. تداخَل فداء الأرض والوطن بفداء الحبّ؛ فكلّ قصّة حبّ هي قصّة موت، والعكس صحيح في أعمال خوري. لقد كانت الرواية والقصص الّتي تحتويها أكبر من أن تستطيع طيّات الكتاب نفسه احتواءها، وذلك للأسباب الّتي لخّصتها بشكل سريع قبل قليل. حكايات الحبّ والموت كما يرويها خوري تذكّرنا بتشابه وتداخل تجاربنا، وإن كنّا سنتحدّث هنا عن سياق مقاومة طغيان أو استيطان ووحشيّة؛ فنحن، إذن، نتحدّث عن أهمّيّة الفعل الروائيّ السياسيّ والثقافيّ والجماليّ معًا. وبالحديث عن «باب الشمس»، فقد ألهم عنوانها مجموعة مؤلّفة من 250 شابًّا وشابّة فلسطينيّة، واستخدموها لتسمية قرية أنشؤوها في شرق القدس، وذلك رفضًا لمشاريع الاستيطان فيها، وذلك في عام 2013. وحُوِّلت الرواية أيضًا إلى فيلم مدّته 4 ساعات ونصف في عام 2004.
تكمن أهمّيّة رواية «باب الشمس» في كونها من أولى الأعمال الأدبيّة الّتي تطرّقت إلى مجزرة صبرا وشاتيلّا، الّتي أفجعت بيروت في عام 1982، في ظلّ الاجتياح الإسرائيليّ…
لا أذكر «باب الشمس» هنا فقط لأنّها تتناول قصّة من قصص مجزرة شاتيلّا، بل لأنّها أيضًا تحضر بشخوصها وقصصها في ثلاثيّة خوري الأخيرة. ولهذا الحضور والتناصّ الروائيّ أهمّيّة كبيرة، ليس فقط في سياق الرواية نفسها، بل في سياق الرواية الفلسطينيّة بشكل عامّ. من اللافت في أعمال خوري الأدبيّة – وكان له دور بارز في «باب الشمس» و«اسمي آدم» – تداخُل السرديّات والأصوات وتعدّدها، والإصرار على البوح والقول والحكي والكتابة – بما في ذلك إعادة الكتابة أحيانًا، إمّا كتجلّي تعذّر كتابة الألم والذاكرة، إضافة إلى الإشكاليّة والصعوبة الّتي تنبثق عن استمرار الحدث الأليم في ما أسماه خوري بالنكبة المستمرّة، وإمّا كإعادة النظر في أوجه الحكاية المختلفة وتعدّدها- بالرغم أحيانًا، بل الكثير من الأحيان، من صعوبة ذلك لا بل استحالته.
وعندما تكون هذه القصص هي محاولات لكتابة الألم وتخطّي التروما (الصدمة)، وحكايات شعب وذاكرته، الّتي تتعرّض معهم لمحاولات المحو والقتل والإلغاء، تظهر أهمّيّة استنطاق التاريخ روائيًّا بوصفها محاوَلة لمقاومة التسكيت والقتل والتخويف والتهميش. لا يحلّ الأدب مكان التاريخ، لكنّه يسدّ فجواته، ويذكّرنا بما قد يكون قد سقط سهوًا أو أُسْقِط، ويدعونا إلى التفكير، ومقاومة فكرة السرديّة الواحدة والحقيقة الواحدة، وهيمنتها على الجغرافيا والتاريخ معًا، بما في ذلك من أهمّيّة ثقافيّة وسياسيّة. هذا جدل لم يُظهره خوري فقط من خلال تعدّد السرديّات والحكايات، والتمسّك بحقّ كتابتها وأهمّيّة ذلك، بل أيضًا اشترك فيها آدم، بطل ثلاثيّة «اسمي آدم»، عندما تناقش مع مؤرّخ في الرواية، مصرًّا على أهمّيّة أن نكتب نحن حكاياتنا بدل أن نُكْتَب بطريقة مشوّهة، أو بطريقة لا تشبهنا، أو بطريقة تلغينا، أو ألّا نُكْتَب أصلًا؛ فلا يكون لنا مكان أو موقع أو وجود.
حتميّة الكتابة
كانت محاولات آدم في الكتابة دليلًا إضافيًّا على أهمّيّة الكتابة من جهة، وصعوبتها واستحالتها من جهة أخرى، واستخدام آدم لها للرجوع إلى فلسطينيّته. إنّ كلّ محاولات آدم الكتابيّة الّتي تبتعد عن حكايته كانت تعيده غصبًا عنه إليها؛ فيبدأ الجزء الأوّل من الثلاثيّة بمحاولات آدم المتعثّرة لكتابة حكاية الشاعر الأمويّ وضّاح اليمن، الّذي لم يُعطِه التاريخ حقّه؛ فيستفزّ آدم ظلم التاريخ وسلطويّته في طيّ حكاية الأفراد والشعوب، وتشويهها واختزالها. ولكن يَظْهر لآدم وللقارئ معًا أنّ جميع محاولاته الكتابيّة كانت تبوء بالفشل؛ إذ كانت تعترضها شطحات أدبيّة نقديّة من قِبَل آدم، وذكريات خاصّة به وحكايته المفقودة؛ فقرّر بعد تكرار هذه المقاطعات العودة إلى حكايته هو، بدءًا من حكايات الآخرين الّذين مرّوا بتجربة مشابهة في غيتو اللدّ. يستفزّه أيضًا محاولات مَنْ لم يمرّوا بهذه التجربة على تصويرها وإعادة كتابتها، أمثال مخرجين وكتّاب، كان إلياس خوري من ضمنهم بالنسبة إلى آدم؛ فرأى أنّهم يستغلّون أوجاع مَنْ قضوا في النكبة وآلامهم وذكراهم لغاياتهم الخاصّة، ويشوّهون التاريخ.
تابة تجارب شخوص عاديّة، ومشاركة قصصهم في سياق يشدّد على أهمّيّة الكتابة لمواجهة النسيان والموت، تُموضع التجارب الفرديّة ضمن سياق السرديّة الفلسطينيّة الكبرى…
كان آدم في هذه الفترة الّتي يحاول فيها الكتابة في نيويورك، يعمل بائعًا لسندويشات الفلافل، ولا يعترف بفلسطينيّته علنًا؛ فيحسبه الجميع إسرائيليًّا. عندما تأتي به الحال إلى حافّة الجنون، يرى آدم أن لا مفرّ من مواجهة حكايته وفلسطينيّته. ولفعل ذلك، عليه أن يحاول أن يلتقط بدايات حكايته الشخصيّة؛ محاولةً لاسترجاع نفسه؛ فيكون ذلك من خلال الكتابة، ومن خلال البحث عن حكايته المفقودة. لفعل ذلك؛ كان لا بدّ من موقعة حكايته ضمن الحكايات المشابهة الأخرى، والانتماء إليها؛ أي استرجاع فلسطينيّته، والاعتراف بأنّ حكايته جزء لا يتجزّأ من التجربة الفلسطينيّة والسرديّة الفلسطينيّة؛ فعزم أخيرًا عن البحث عن حكايته في حكاية الآخرين، أي في إيجاد نفسه فلسطينيًّا ضمن مجموعة الحكايات الفلسطينيّة الأخرى المنسيّة. وبالرغم من مصير آدم الّذي كانت الكتابة طريقه للتحرّر والموت معًا، لا يسعنا إلّا أن نتوقّف عند التقاء الذاكرة الفرديّة بالذاكرة الجمعيّة؛ فكتابة تجارب شخوص عاديّة، ومشاركة قصصهم في سياق يشدّد على أهمّيّة الكتابة لمواجهة النسيان والموت، تُموضع التجارب الفرديّة ضمن سياق السرديّة الفلسطينيّة الكبرى، وتسيّس عمليّة الكتابة ضمن هذا السياق. وهنا تكمن الأهمّيّة السياسيّة والثقافيّة لأعمال خوري الأدبيّة؛ فتكون الكتابة الفرديّة، والتركيز على أهمّيّة عدم فقدان حكاياتنا، نوعًا من التشبّث بالذات والعودة إليها والمقاومة.
بين السرديّة الفرديّة والجمعيّة
إضافة إلى أهمّيّة الحكاية والكتابة والمشاركة، وتعدّد الروايات الّتي تعكس تعدّد التجارب وتنوّعها، وإن كان للحدث أو للمأساة نفسها، الّتي هي في حدّ ذاتها تحدٍّ لهيمنة سرديّة واحدة، إن كانت تلك تسعى إلى نوع من أنواع التقديس، أو المحو والإلغاء واستبدال رواية بأخرى، نجد في ثلاثيّة خوري الأخيرة تناصًّا روائيًّا؛ إذ تستعيد «اسمي آدم» شخصيّات «باب الشمس» وحكاياتهم، كما ذكرت سابقًا؛ من خلال إعادة كتابة لهذه الحكايات الفرديّة وللشخصيّات أنفسها، حتّى تعدّدت النسخ، وحار القارئ؛ فنرى آدم، الّذي سخر من كتّاب، أمثال خوري، يعيدون تخيّل القصص وتأليفها، وآدم الّذي يكره الاستعارات، يفعل ما فعلوا؛ فيعيد كتابة قصّة خليل أيّوب، والشاعر راشد حسين، ومؤسّس «مسرح الحرّيّة» في مخيّم جنين، جوليانو مير – خميس، وحتّى قصّته مع حبيبته دالية، كما يريد هو أن يتخيّلها، وربّما يعود ذلك ليس فقط إلى توق في استعادة السرديّات الفلسطينيّة وإيجاد نفسه فيها، بل أيضًا لاستعادة بعض من القوّة والفعاليّة، بعضًا من الإحساس ليس فقط بالانتماء بل أيضًا بقدرة التحكّم في سرد الحكاية الخاصّة به، فرديّة كانت أو جمعيّة.
نجد في ثلاثيّة خوري الأخيرة تناصًّا روائيًّا؛ إذ تستعيد «اسمي آدم» شخصيّات «باب الشمس» وحكاياتهم، من خلال إعادة كتابة لهذه الحكايات الفرديّة وللشخصيّات أنفسها…
هذه الحيرة الّتي تطرحها ثلاثيّة خوري، إن كانت تنمّ عن شيء فهو ذكاء وحنكة أدبيّة، تسخر من خطأين: الأوّل، الثقل الّذي نحمّله للكاتب بصفتنا قرّاء؛ فنفرض عليهم آراءنا وتوقّعاتنا وأحكامنا، كأن نفترض مثلًا أنّ الكاتب يدين لنا بالحقيقة المطلقة، أو أنّ هذه الحقيقة -بصورتها الواحدة والطاغية- موجودة أصلًا، أو أنّ الراوي هو انعكاس دقيق وصريح لحياة الكاتب وتجاربه وآرائه، أو أنّ للكاتب مسؤوليّة تجاه تماهي الخيال والحقيقة في كتاباته. أمّا الثاني، فيتمثّل بالكتّاب والنقّاد الّذين يستحوذون على روايات أشخاص آخرين، ويستثمرون في تزويرها أو تنقيحها أو كتابتها، كما يحلو لهم بغية الربح.
تبقى أخيرًا حكاية آدم واحدة من الحكايات الّتي تشبه أخرى، وآدم شخصيّة من الشخصيّات الّتي تشبهنا، لنتيقّن أنّ فعاليّة انتماءاتنا وحكاياتنا تبدأ مع التماهي مع جميع من يحمل تجربتنا وآلامنا، والاعتراف بأنّ حكايتنا الجمعيّة هي مجموعة حكايات وتجارب وآلام، وأنّ قوّة مقاومتنا للاختزال والإلغاء تبدأ بهذا الاعتراف. وبالرغم من صعوبة التئامها، إلّا أنّها تأبى النسيان والصمت، تأبى ألّا تُكْتَب.
أستاذة مساعدة في «برنامج الأدب المقارن» في «معهد الدوحة للدراسات العليا». حاصلة على الدكتوراه في «الأدب المقارن» من «جامعة غولدسميثس» في لندن، تتمحور اهتماماتها البحثيّة حول الأدب العربيّ المعاصر، الأدب المقارن، والدراسات المكانيّة.
المصدر: عرب 48