أبو مسفرة وجنّ المقبرة

سحب (أبو مسفرة) الدلو الأول، من بير الشراكة؛ حتى بلغ القفّ، وهمّ بإفراغه في القربة، إلا أنه لاحظ الدغثرة، فكفحه في فلج يؤدي للركيب الذي غدت قشرته الخارجية مثل وجه قرويّ معمّر طبعت الدنيا بصماتها القاسية على وجهه؛ وسحب الثاني وإذا به أقلّ ماء من سابقه، وأكثر دغثرة، فنظر للغيوم المتناثرة كالقُطعان المتوزعة على مرعى مفتوح. زفر زفرة من قلبه وقال؛ تتهيأ الرحمة وتنصرف، سقيت بلاد الفسد ولا سقيت ديار الحسد.
حدثته نفسه ببيع الثور، فالعُلفة شحيحة لكنه واثق أن فرج الله قريب، وخزائن رحمته ما تنفد، بدع (خايف من الجمّ ينضب والرشا ملّس ايدي) وإذا بصوت يردّ عليه من قاع البير( والله ما ملّ من عشرته لو ملّ سيدي) فخرع. سمّى على نفسه بالرحمن، وطوى بعجلة الحبل على ذراعه، وفك البَكَرة، وتعلّق القِرْبه والدلو، وافلح وخلى زنوبته رأس البير، وهو يغادر محيط الحقل الشاحب، طزّته شوكة في كعبه، فتذكّر حذاءه، وأبى يسكن يعوّد يأخذها، نبزها من رجله، وبل إبهامه بريقه الناشف وفرك مكانها؛ وحسّ بلهيب شمس النهار فبدأ يغنّي (أحرقتني الشمس وين أتفيّا، تحت ريش الصقر وإلا الحُديّا).
تنقسم القرية، إلى لِحام، كل لحمة سبعة بدود؛ وعيد الحج، على الأبواب؛ تفكّر وهو رايح في لحمتهم المهزوزة مادياً، وسأل نفسه؛ منين للشياطين عيد وكل واحد منهم، أفقر من فأر المسيد، وتذكّر زوجته المعلولة، مرّ بمنزل زوج بنته، وشبر رحيمه المنفقع يعذّر عليه في فنجال قهوة، لكنه سبقه بالعذر قبل الترحيب قائلاً؛ بنتك في السفل تولّد البقرة، وآنا صايم باعدّي أقيّل! فاستأذن منه يملأ قربته من الكُرّ، فاعتذر لأنّ الكُرّ ما له فيه إلا شِرْب، والباقي لعمّه اللي لو شافه فوق الكرّ لنكسه على رأسه، فقال في نفسه؛ غطّوا بك أنت وعمّك إلى الماء السامط، وجعلها نومتك اللي ما تقوم منها، ومشى في دربه اللي ما يدري وين يودّيه.
وعدت اللحمة التي اغتنت بعد فقر، العريفة بسُبع من ثور ساحلي (عيدية) على أن يلزم الحياد في الصراع الحامي بين اللِّحام، و حاول فيهم يشركون بني عمهم في عيدهم، فطلّق الفقيه ما يسنّ لهم يكون يسنّ لأبوه في قبره، فقال؛ تسنّ لك جهنم وبيس المصير، أنت وأبوك مخصّي البساس، وجدك محنّي الحمير، وأضاف؛ قهرنا في الهياط، إن رفعناها فوق في الشارب، وإن أرخيناها تحت في اللحية، و الله ياهب لي معونة على المتّار والشتّار وشبّاب النار، وتمثل بما قال المقوّل (ما عد معي غير الحنيتم جماعة).
أخبار ذات صلة
جهّزت كل لحمة شفارها وهدومها، واختارت أضاحيها، وحددت موضع الذبح، وصبغ السيدات ظهور وجباه الأضاحي من الثيران والخرفان والتيوس بالحنّاء، واحتارت ( لحمة الغلابة ) في كيفية توفير أضحية عيدها، وكادت تعلن عجزها، فقال أحدهم؛ تعيّد القريّة وتفرح بقرابينها، وانحن سبعة بيوت ما معنا قَدْرَة ندبر لنا ثوراً والا بقرة، وقال الأحكم منهم؛ الله ما كلفنا ما لا نطيق، فالحال تُشكى على اللي ما يخفى عليه حال.
بقيّة اللحام، تودّ أن تبقى السبعة بيوت بدون أضحية، كيد وحشمة، ليتصدقون عليها، ويتهكمون بها؛ علماً بأن أهل القرية ما كانوا يشبعون إلا في بيوت أهاليهم الأولين، وتلك الأيام نداولها بين الناس، ولأنّ (أبو مسفرة) تربى في بيت خير، ورأسه مليان شيمة، قال لبني عمه؛ عسى ثوري (حبيش) فداكم تعيّدوا به، عيشتي وعيشة عيالي على الله وعليه؛ لكن إذا ربي فرّجها حقي عليكم، تعوضوني بثور بدله، فتهللت وجوههم فرحاً، ونطّ كل واحد من كبارهم ليطبع سُلْمَة على رأسه، وقالوا؛ والله ما نخيّل عليك، وأنت صاحب فضل علينا وعلى عيالنا.
تآمر (سريقان) و(بريقان) على حبيش، وأقسما ما يفرحون به لا قليم و لا مرق، وقرروا سرقة الثور قبل العيد بليلتين، وبيعه على العابرين من أهل البادية، وقال سريقان لبريقان؛ سبّع لنا حوكة (أُمّ مسفرة) فالثور إذا شمّ ريحة الحوكة بيمشي معنا، وبنحمم نفوسنا بالفحم، ونأخذ فوقنا جعّد و إذا لحقنا نحطط الثياب، واللي يتعقبنا نغزّل به، سروا عليه نصّ الليل، وفزروا باب السفل واقتادوا الثور، وقرعت الدبكة سمع (أبو مسفرة) فتناول مشعابه، واعتزى (ثوري وآنا أبو مسفرة)؛ شعرا أن أحد وراهما، فربطوا الثور في سدرة مجاورة؛ واندسوا بين نصايب القبور، وعندما اقترب منهم خرجوا عليه؛ ينفضون الجُعّد ويتراقصون، فتعقّل مكانه، وشلّه راقف، وهرّه بطنه، وعيّدت القرية، و رفيقهم يتقلّب في فراش الحُمّى، وكلما عسّوه القرابة ينشدونه؛ وشبك يا بو مسفرة، يردّ؛ (جنّ المقبرة) وثالث أيام العيد وثورهم اللي ما ينكرونه في المسراب؛ فبلغته زوجته؛ ففكت عنه الحُمّى، وقام يردد؛ يا حافظ يا عقايل الله، صاح في لحمته؛ هات الشفار. سدحوا الثور في الجرين؛ وبدأ يخور يستغيث بصاحبه؛ و أبو مسفرة يردّد بحسرة (ذقها ليته أشكل ما عوّدت إلا لها).