واشنطن وبكين: حرب الرقائق الباردة
تتمتّع الولايات المتّحدة، بهيمنة كبيرة على سوق أشباه الموصّلات والرقائق الإلكترونيّة، ويصل تأثيرها أيضًا إلى مرافق التصنيع المتقدّمة والبحث والتطوير وحماية قويّة للملكيّة الفكريّة، كما تمتلك الولايات المتّحدة القدرة على التحكّم بمسارات هذه الصناعة
من مصنع للرقائق في الولايات المتّحدة (Getty)
في الاقتصاد العالميّ الحديث، ومع التطوّرات الهائلة والدور الكبير الذي تلعبه التكنولوجيا تدعيم أساسات هذا الاقتصاد، تبرز الرقائق الإلكترونيّة في المشهد العالميّ خلال السنوات الأخيرة، كسلعة إستراتيجيّة للدول العظمى، وأداة للتحكّم بالاقتصاد، والضغط على دول عديدة، إذ تُعدّ الرقائق الإلكترونيّة مكوّنًا أساسيًّا من مجموعة واسعة من الأجهزة الإلكترونيّة، من أجهزة الكمبيوتر إلى الهواتف الذكيّة والسيّارات والمعدّات الطبيّة، وتدخل هذه الصناعة تقريبًا في كلّ إنتاج التكنولوجيا الذي يعتمد في أساسه على هذه الرقائق.
وشهد العالم في السنوات الأخيرة، تحوّلًا كبيرًا في ديناميكيّات سوق الرقائق الإلكترونيّة، والتي تتميّز بالمنافسة، والتي تصل في بعض الأحيان إلى توتّرات جيوسياسيّة بين الدول. ويعتبر باحثون الرقائق الإلكترونيّة، هي العصب الحقيقيّ للثورة الرقميّة التي نعيشها اليوم، وهو ما أدّى بدوره وخلال السنوات السابقة، إلى ظهور مصطلح جديد وهو “حرب الرقائق”، والذي يُشير إلى شبكة معقّدة من العوامل، بما في ذلك الصراع على الاستحواذ على هذه التكنولوجيا، بالإضافة إلى التحكّم بسلاسل التوريد. وظهرت بعض الدول، مثل الولايات المتّحدة الأميركيّة والصين وكوريا الجنوبيّة، كلاعبين أساسيّين في هذه الحرب، حيث تستثمر هذه الدول الثلاث ميزانيّات طائلة من أجل تطوير البنية التحتيّة وقدرات تصنيع هذه الرقائق.
وبحثت دراسات عديدة تأثير هذه الحرب على الاقتصاد العالميّ، مثل نقاط الضعف في سلاسل التوريد، وترابط الدول في تصنيع هذه الرقائق، وعواقبها المحتملة في فترات النزاعات التجاريّة والكوارث الطبيعيّة، بالإضافة إلى التحدّيات التي تواجهها ككلّ، والأبعاد السياسيّة لهذه الصناعة.
وتؤثّر حرب الرقائق على الصناعات والمستهلكين في جميع أنحاء العالم، وهو ما شهدناه حين أدّى النقص العالميّ في الرقائق إلى تعطيل إنتاج السيّارات والإلكترونيّات الاستهلاكيّة والمعدّات الطبيّة، وهو ما أشعل الأسعار في دول عديدة حول العالم واضطرابات في سلاسل التوريد، وتسريح العمّال وخسائر في الإيرادات.
وبحسب باحثين، فإنّه من الواجب معالجة التحدّيات المفروضة في قطاع الرقائق، والاستثمار أكثر في تصنيع الرقائق المحليّة، ودعم البحث والتطوير في التقنيات الناشئة، وإرساء ممارسات تجاريّة عادلة بين الدول، ووضع معايير واضحة وشفّافة لهذه التكنولوجيا.
اللاعبون
دول قليلة في العالم تُهيمن على صناعة أشباه الموصّلات وإنتاج الرقائق الإلكترونيّة، وأكبرها على الإطلاق هي الولايات المتّحدة الأميركيّة، والتي تُعتبر رائدة هذه الصناعة لعدّة عقود سابقة، كما أنّها تعتبر موطن كبار مصنّعي هذه الرقائق، مثل شركات “إنتل” و”كوالكوم” و”تكساس إنسترومنتس”.
وتتمتّع الولايات المتّحدة، بهيمنة كبيرة على سوق أشباه الموصّلات والرقائق الإلكترونيّة، ويصل تأثيرها أيضًا إلى مرافق التصنيع المتقدّمة والبحث والتطوير وحماية قويّة للملكيّة الفكريّة، كما تمتلك الولايات المتّحدة القدرة على التحكّم بمسارات هذه الصناعة، بالإضافة إلى التحكّم في الدول الأخرى، من خلال لوائحها الخاصّة بالرقابة على الصادرات، وإمكانيّة فرضها لقيود على نقل تقنيّات صناعة الرقائق، لمنع دول أخرى مثل الصين وروسيا وغيرها من الوصول إلى هذه التكنولوجيا “الإستراتيجيّة”، وفي هذا المشهد، برزت الصين كلاعب رئيسيّ وقويّ في صناعة الرقائق عالميًّا، إذ إنّها تعتبر أكبر مستهلك للرقائق الإلكترونيّة، كما ضخّت استثمارات كبيرة في تطوير قدراتها في تصنيع أشباه الموصّلات، كما قامت الحكومة الصينيّة بمبادرات كان لها تأثير كبير في صعود الصناعة، مثل إستراتيجيّة “صنع في الصين 2025″، والتي تهدف إلى تعزيز إنتاجها المحليّ من الرقائق، وتقليل اعتمادها على الواردات، حيث تهدف الصين إلى تقليل الاعتماد على الواردات، وهو ما انعكس خلال السنوات الأخيرة، بممارسة الصين نفوذها على دول أخرى، من خلال التحكّم في إنتاج الرقائق وأشباه الموصلات.
وتعدّ تايوان كذلك لاعبًا حاسمًا في صناعة أشباه الموصلات، حيث تعتبر شركة “TSMC”أكبر شركة لتصنيع الرقائق المتقدّمة في العالم، كما تقوم الشركة بتوريد الرقائق لمجموعة كبيرة من الشركات من مختلف أنحاء العالم، حيث عزّزت عمليّات التصنيع المتقدّمة للشركة والرقائق عالية الجودة، مكانة تايوان كلاعب رئيسيّ في سوق الرقائق، وكذلك تعتبر كوريا الجنوبيّة موطنًا لأكبر شركات أشباه الموصلات في العالم، بما في ذلك شركة “سامسونغ” و”هاينكس”. وتقوم هذه الشركات بالأساس بتصنيع شرائح الذاكرة (ميموري)، والرقائق الذكيّة وأشباه الموصلات، ومن خلال السيطرة على هذا السوق العالميّ، يمكن لهذه البلدان التحكّم في سلاسل التوريد، ممّا يؤثّر على توافرها، أو زيادة أسعارها في الأسواق العالميّة، أو تقييد صادراتها إلى بلاد مختلفة.
تأثيرات اقتصاديّة
انخرطت كلّ من الصين والولايات المتّحدة خلال السنوات الأخيرة في حرب تجاريّة أثّرت على العالم كلّه، وصلت ذروتها ما بين عام 2018 و 2021، شملت فرض قيود تجاريّة وتعريفات على سلع مختلفة، منها تكنولوجيا الرقائق الإلكترونيّة، وامتدّ الصراع إلى المخاوف بشأن سرقة حقوق الملكيّة الفكريّة والوصول إلى الأسواق، والسياسات الصناعيّة للصين والتي اعتبرتها الولايات المتّحدة “غير عادلة”، وعطّل هذا النزاع التجاريّ، سلاسل التوريد، حيث أعاقت التعريفات والقيود التجاريّة تدفّق المكوّنات التي يتمّ من خلالها تصنيع الأجهزة الإلكترونيّة، وهو ما أدّى بطبيعة الحال إلى زيادة التكاليف، والتأخير في الإنتاج، وهو ما أدّى إلى إحداث تأثير دومينو اقتصاديّ عابر للقارّات، وخلق حالة من عدم اليقين في الأسواق مع تردّد الشركات في تقديم التزامات طويلة الأجل، مثل توسيع القدرة الإنتاجيّة، أو الاستثمار في البحث والتطوير.
وكان لهذا تأثير كبير على النموّ الاقتصاديّ العالميّ، وأحدث تداعيات أوسع، وتسبّب بما يسمّى اقتصاديًّا “تباطؤ النموّ”.
ويذهب محلّلون كثر إلى أنّ اندلاع أيّ صراع عسكريّ بين القوّتين الرئيسيّتين بسبب أزمة تايوان بين بكين وواشنطن، أصبح احتمالًا كبيرًا. وتعود هذه الأزمة إلى الرئيس الأميركيّ السابق دونالد ترامب، إذ شنّ حربًا تجاريّة شرسة ضدّ الصين، في الوقت الذي كانت فيه الولايات المتّحدة تُعاني من التضخّم، وانخفاض معدّلات التوظيف، بفعل تداعيات كورونا، ثمّ بعد ذلك الحرب الروسيّة الأوكرانيّة، التي غيّرت المشهد الاقتصاديّ في العالم كلّه.
وبحسب تقرير نشرته صحيفة “فورين بوليسي” الأميركيّة، بعنوان “بايدن يعزل الصين عن الرقائق الإلكترونيّة”، وكان هذا “سلاحه الفتّاك”، ووصف محلّلون هذه الحرب على أنّها “حرب الرقائق الباردة”
في الرابع عشر من ديسمبر/ كانون الأوّل، أعلنت بكين عن إعدادها لحزمة دعم موجّهة للقطاع التكنولوجيّ، وتفوق قيمتها 143 مليار دولار، في صناعة أشباه الموصّلات، وتعتبر هذه الحزمة من أكبر الحزم الماليّة التي تطرحها بكين في صورة إعانات وائتمانات ضريبيّة، وهو ما أثار مخاوف في الولايات المتّحدة الأميركيّة من صعود الصين في هذا القطاع، الذي وبحسب محلّلين اقتصاديّين، بدأت الولايات المتّحدة تفقد هيمنتها عليه.
المصدر: عرب 48