بتر الأطراف في غزة: مأساة إنسانية تتفاقم جرّاء الحرب

منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية في 7 أكتوبر 2023، يعيش قطاع غزة كارثة إنسانية غير مسبوقة، حيث تصاعدت أعداد الضحايا والمصابين بشكل مروع. من بين هذه المآسي، تبرز ظاهرة بتر الأطراف كأحد أكثر الأوجه قسوةً للحرب، خاصةً بين الأطفال والنساء، مما يسلط الضوء على حجم المعاناة التي يعيشها المدنيون في ظل الحصار والدمار الشامل الذي طال البشر والحجر.
أرقام صادمة وإحصاءات مقلقة:
تشير التقارير الطبية والحقوقية إلى تسجيل أكثر من 4,700 حالة بتر في قطاع غزة منذ بداية الحرب، وفقًا لبرنامج “صحتي” الذي تنفذه وزارة الصحة الفلسطينية بالتعاون مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر ومركز الأطراف الصناعية والشلل التابع لبلدية غزة. من بين هذه الحالات، يشكل الأطفال نسبة كبيرة، حيث تم تسجيل نحو 800 حالة بتر بين الأطفال، بالإضافة إلى 391 امرأة تعرضن لبتر أطرافهن.
ووفقًا لتقديرات منظمة الصحة العالمية (WHO)، فإن معدل الإصابة بين المدنيين في غزة غير مسبوق، حيث أن أكثر من 70% من المصابين يعانون من جروح خطيرة أدت إلى إعاقات دائمة، بما في ذلك البتر، إصابات في الحبل الشوكي، وفقدان البصر.
كما أشارت إحصاءات صادرة عن مؤسسة “أنقذوا الطفولة” (Save the Children) إلى أن طفلًا من كل 4 أطفال في غزة إما قُتل أو أصيب أو فقد أحد أفراد عائلته أو منزله، مما يسلط الضوء على التأثير الكارثي على الأجيال القادمة.
قصص مؤلمة من أرض الواقع:
في مستشفى “شهداء الأقصى” وسط قطاع غزة، تتجسد معاناة الأطفال الذين فقدوا أطرافهم نتيجة القصف الإسرائيلي. من بين هذه القصص، تبرز مأساة الطفلة إيليا يونس، البالغة من العمر أربع سنوات، التي فقدت قدمها اليمنى إثر قصف منزلها في مخيم النصيرات. ورغم محاولات علاجها، استُشهدت في أحد المستشفيات الأميركية متأثرة بجراحها.
كما تعاني الطفلتان حنان ومسك من دير البلح من إصابات خطيرة، حيث فقدت حنان ساقيها وتعرضت لحروق شديدة، بينما فقدت مسك قدمها اليسرى. تحتاج الطفلتان إلى علاج طويل وتأهيل نفسي وجسدي، لكن إمكانيات القطاع الصحي المحدودة تحول دون تقديم الرعاية الكاملة.
وفي أحد المستشفيات الميدانية المؤقتة، يروي أحد الأطباء حالة الشاب محمد (17 عامًا)، الذي فقد ذراعه اليسرى أثناء محاولته إنقاذ عائلته من تحت أنقاض منزلهم في خان يونس. يقول الطبيب: “اضطررنا لبتر ذراعه دون تخدير، لم يكن لدينا خيار آخر. كنا نسمع صراخه، لكن الموت كان أقرب”.
التحديات الطبية واللوجستية:
يعاني القطاع الصحي في غزة من انهيار شبه تام نتيجة الاستهداف المتعمد للبنية التحتية الطبية، حيث تم تدمير أكثر من 36 مستشفى ومركزًا صحيًا، إضافة إلى تعطيل سيارات الإسعاف واستهداف الكوادر الطبية. أدى ذلك إلى نقص حاد في المعدات الطبية، الأدوية، وحتى أدوات الجراحة الأساسية، ما اضطر الأطباء إلى إجراء عمليات بتر في ظروف مأساوية.
ووفقًا لتقارير وزارة الصحة، فإن نحو 60% من المصابين الذين أجريت لهم عمليات بتر كان بالإمكان إنقاذ أطرافهم لو توفرت العناية الطبية المناسبة في الوقت المناسب.
أما مركز الأطراف الصناعية في غزة، فيواجه صعوبات كبيرة في تلبية الطلب المتزايد على الأطراف الاصطناعية، حيث تم تركيب أطراف لنحو 100 مصاب فقط منذ بداية الحرب، في ظل نقص المعدات والمواد الخام وعدم توفر الكهرباء بشكل دائم.
الأثر النفسي والاجتماعي:
لا تقتصر مأساة المبتورين على الألم الجسدي فقط، بل تتعداه إلى آثار نفسية عميقة قد تستمر لسنوات. يشير أخصائيون نفسيون إلى أن معظم الأطفال المبتورين يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، ويعيشون في حالة إنكار وارتباك، حيث يعتقد البعض أن أطرافهم ستنمو مجددًا، بينما يواجه آخرون كوابيس متكررة ونوبات هلع.
أما النساء، فمعاناتهن مضاعفة، حيث أن فقدان الطرف يهدد استقلاليتهن، ويعيق قدرتهن على رعاية أسرهن أو العمل، مما يؤدي إلى الشعور بالعزلة والتبعية وحتى الاكتئاب. تقول إحدى المصابات: “لم أعد أخرج من البيت. أنظر إلى ساقي المبتورة وأشعر أنني فقدت جزءًا من كرامتي، لا فقط جسدي”.
جهود الدعم والتأهيل:
رغم قسوة الواقع، هناك مبادرات محلية ودولية تحاول التخفيف من معاناة المبتورين في غزة. من بين هذه المبادرات، المبادرة الأردنية لتركيب أطراف صناعية، والتي تهدف لتأهيل نحو 14 ألف مصاب من ذوي البتر، بالتنسيق مع مؤسسات صحية محلية.
كما يعمل مركز الأطراف الصناعية التابع لبلدية غزة على توفير التدريب للمصابين على كيفية استخدام الأطراف الاصطناعية، إضافة إلى جلسات دعم نفسي للأطفال، رغم نقص الإمكانيات وضيق المساحة.
وظهرت مبادرات تطوعية صغيرة يقودها جرحى سابقون أو ممرضون متقاعدون لتقديم الرعاية المنزلية، أو إعادة تدوير أجزاء من الأطراف الصناعية القديمة لتجهيز أطراف مؤقتة.
تُظهر مأساة بتر الأطراف في غزة خلال حرب “طوفان الأقصى” حجم الكارثة الإنسانية التي يعيشها المدنيون، خاصة الأطفال والنساء. تتطلب هذه الأزمة تدخلًا دوليًا عاجلًا لتقديم الدعم الطبي والنفسي للمصابين، وضمان وصول المعدات الطبية والأدوية، ورفع الحصار المفروض على القطاع، والذي يضاعف من الألم والمعاناة.
إن الجسد قد يُبتر، لكن لا يجب أن تُبتر كرامة الإنسان أو حقه في الحياة الكريمة.
ملاحظة : هذا مخرج عملي لدورة “الصحفيات والقيادة الإعلامية” التي نفذتها مؤسسة بيت الصحافة في الفترة من 22 إلى 30 يونيو 2025