أميركا تحاول فرض نظامها على العالم

بطبيعته الشخصية وبشعاراته التي رافقت حملة عودته للبيت الأبيض بعد مغادرته أربع سنوات، يكشف الرئيس دونالد ترامب بوصلة السياسة الأميركية _الخارجية خاصة_ وترامب لا يمكنه للحظة أن ينسى بأن حركة «ماغا» هي التي أعادته للبيت الأبيض، وإن كان عبر الحزب الجمهوري، فهو رئيس وصل للمنصب، ليس فقط عبر لعبة العلاقات العامة الحزبية الداخلية، بل بقوة دفع حركة شعبية جعلت من شعار عنصري يعادل في جوهره وومعناه «أميركا فوق الجميع» وهو»Make America Great Again».
وكلام ترامب علن سعيه الى نوبل للسلام، كذلك بأنه سيطفئ الحروب فور دخوله البيت الأبيض، يجب أن لا يخدع أحداً، فهو لا يقول هذا الكلام لأنه رجل سلام فعلاً، وهو في تفسير هذا يقول، بأنه يؤمن بسلام القوة، أي باستسلام الآخرين، وهو يضع نصب عينيه تحقيق شعار ماغا، الذي يرفعه انصاره ويطبعونه على قبعاتهم الحمراء، اللون الذي يحبه ترامب، وفي نظرة متأنية للشعار، نرى انه يعني بأن ترامب وانصاره يعتقدون بأن عظمة أميركا قد تراجعت، وأنهم يسعون لإعادتها، وهم بشعارهم الشعبوي هذا يذكروننا بشعار حركة الفاشي الإسرائيلي إيتمار بن غفير «العظمة اليهودية».
ومن أجل إعادة العظمة لأميركا، لم يضيع ترامب وقته، وما ان دخل البيت الأبيض، حتى شرع في توزيع تهديداته التي إن دلت على شيء، فإنما تدل على رجل لا يقيم اي وزن للقانون الدولي، وإلا فبماذا يمكن تفسير اعلان رغبته في ضم كندا، أو السيطرة على قناة بنما، أو ضم جرينلاند الدانمركية الى بلاده؟ ثم تجاوز التهديد، بإطلاق حملة التعرفة الجمركية التي طالت معظم دول العالم، وبدأها بالحلفاء قبل الخصوم والاعداء، بما ادخل العالم بأسره في حالة من التوتر الاقتصادي، أثرت على معدل النمو المتوقع لهذا العام، والذي قدره صندوق النقد الدولي بنسبة 2.8% وهي نسبة اقل من النسب السابقة، حيث اعاد الصندوق ذلك الانخفاض لحملة الرسوم الجمركية الأميركية التي شنها ترامب على العالم.
صحيح ان ترامب لا يعتبر بأن معيار القوة يقتصر على القوة العسكرية، ولكنه يعتمد على القوة الاقتصادية أيضاً، وربما هذا يعود الى طبيعته كتاجر، فهو ليس على شاكلة الرؤساء الأميركيين، بل هو دخل الحقل السياسي مستنداً لثروته المالية، فيما يتبعه ايلون ماسك على هذا النحو، وهو يدرك بأن القوة العسكرية الأميركية ما زالت هي القوة الأكبر في العالم، وإن كانت القوة النووية الروسية فقط تفوقها دون القوة العسكرية في مجالات أخرى، بينما في مجال التفوق الاقتصادي، فإن أميركا ما زالت اولاً لكن الصين باتت منافساً حقيقياً، مع معدل نمو سنوي لصالح الصين، لن يمر إلا أقل من عشر سنين وتكون الصين باتت أولاً، كذلك فإن اللجوء الى حسم المعركة على النظام الكوني، عبر الحرب العسكرية، سيواجه الرادع النووي، الذي يعني اغلاق الأفق سريعاً، وهذا يعني بأن حسم الصراع الكوني بين أميركا من جهة والصين وروسيا من جهة أخرى، لا يكون إلا بالوكالة كما في حالة أوكرانيا، أو بشن الحرب الاقتصادية، كما يفعل ترامب، الذي سيواصل حربه الاقتصادية العالمية طوال فترة ولايته.
ويخوض ترامب حربه الاقتصادية على ثلاث جبهات، أولها هي نسبة النمو، حيث ان تقديرات المراقبين بأن الاقتصاد الصيني بإنتاج سنوي يصل الى عشرين تريليون دولار، مقابل 30 تريليون دولار للاقتصاد الأميركي، وبنسبة نمو وصلت العام الماضي 5%، فإنه سيتجاوز بشكل مؤكد حجم الاقتصاد الأميركي خلال 10 سنوات، وفي هذا المجال، سارع ترامب لتحقيق أول وأهم إنجاز له خلال ولايته الحالية، وقبل مضي ستة شهور عليها، حين زار الخليج العربي، وعاد الى بلاده باستثمارات بلغت 5،1 تريليون دولار، اي بنسبة تزيد على 4% سنوياً لمدة اربع سنين هي مدة ولايته، يبقي بها الفجوة بين الاقتصاد الأميركي والصيني قائمة خلال تلك الفترة.
أما الجبهة الثانية من التنافس الاقتصادي فتكمن في التبادل التجاري، حيث يشير ميزان التبادل التجاري بين اميركا وعشرات من دول العالم الى انه في صالح الدول الأخرى، وفي مقدمة هذه الدول الجارتان المكسيك وكندا، ثم الصين، ثم باقي دول العالم، وربما لهذا السبب، بدأ ترامب في اثارة مشكلة بلاده مع المهاجرين الذين يعتبرهم غير شرعيين، ويصل تعدادهم الى 10 ملايين انسان، ولهذه المشكلة علاقة بالمكسيك، حيث معظم هؤلاء هم مكسيكيون، يدخلون أميركا عبر الحدود البرية، كذلك بسبب التداخل التاريخي لنحو 3 ولايات أميركية كانت بالأصل مكسيكية، تم ضمها لأميركا بعد حروب القرن التاسع عشر بين الدولتين، واهم تلك الولايات هي كاليفورنيا التي شهدت احتجاجات صاخبة رداً على حملة ترامب ضد المهاجرين.
وقد يعود السبب في ذلك، الى اعتماد الاقتصاد الأميركي في العقود الماضية على صناعة تكنولوجيا المعلومات، مقابل ان الاقتصاد الصيني يعتمد على انتاج السلع، استناداً للكثرة السكانية ورخص الأيدي العاملة، بحيث ان اميركا باتت تستورد معظم السلع التي يحتاجها المواطن الأميركي من الخارج، بما في ذلك السيارات، وقد ساعد انتهاء الحرب الباردة على فتح الأسواق العالمية على بعضها، وزوال الحدود التي كانت بين الدول والمعسكرات خلالها، بحيث بات العالم كله سوقاً مفتوحاً لبضائع كل الدول، تتنافس فيما بينها تنافساً يحسمه المستهلك، وقوانين التجارة العالمية، لكن ترامب تدخل بشكل قسري، على هذا الخط بفتح باب المزاد العلني للتعرفة الجمركية، وحين قوبل بالرد بالمثل، بدأ يعيد حساباته، فقام بتضييق نطاق الدائرة التي شملت الجميع، ليعيد التركيز على الصين.
اما الجبهة الثالثة التي تؤثر على السيطرة الاقتصادية الأميركية على العالم، فهي اعتماد الدولار الأميركي كعملة تداول عالمي، تكفي الإشارة هنا الى ان ذلك يحقق سطوة أميركية مزدوجة، فهي من جهة كانت أداتها لفرض الحصار على الدول التي شقّت عصا الطاعة عليها، مثل إيران، فنزويلا، كوريا الشمالية، وحتى بعض الشركات والأشخاص، كذلك كانت وسيلتها للسطو من خلال تجميد أرصدة بعض الدول لديها، مثل الأرصدة الإيرانية، العراقية، والليبية، وغيرها، والأهم هو ما يدره عليها ذلك من أموال هائلة تتجاوز عشرات التريليونات من الدولارات سنويا، ولهذا فإن ترامب وجد نفسه مضطرا لأن يعلن مؤخراً عن حربه مع «بريكس» وهي المجموعة الاقتصادية التي تضم حالياً احدى عشرة دولة بمجموعها تمثل نصف البشرية واكثر من 40% من الاقتصاد العالمي، وذلك بمناسبة انعقاد قمتها السنوية في البرازيل قبل أيام، وللتأكيد على ان اعتماد الدولار كعملة تداول عالمي يعتبر العمود الفقري للنظام العالمي الاقتصادي الأميركي، هو ان ترامب هدد بفرض تعريفات جمركة بنسبة 100% على الدول التي تحاول تقويض الهيمنة الدولية للدولار.
وجاء ذلك بعد ان حرصت اميركا على ان تجعل من روسيا خصمها الكوني تارة، ومن الصين تارة اخرى، ولعل اخطر ما تسعى اليه «بريكس» هو شطب الدولار من كونه عملة التداول فيما بينها، أولاً، ومن ثم بينها وبين دول العالم الأخرى تالياً، وقد كان رد فعل ترامب حاداً حين وصف «بريكس» بالمعادية لأميركا، وهدد بفرض رسوم إضافية على دولها تبلغ 10%، بل هدد بفرض تلك النسبة على أية دولة تتعامل مع «بريكس».
مع كل هذا وبالعودة الى أن ترامب وأميركا في حرب من أجل الحفاظ على النظام العالمي الأميركي، ضد محاولة تجازوه الى نظام عالمي لا يرتكز على محور وحيد، ولا يعتمد على هيمنة الدولة الأميركية، فإنه مستعد لشن الحروب العسكرية، وقد كشفت شبكة سي إن إن الإخبارية الأميركية بعد حصولها على تسجيلات صوتية له في احد لقاءاته مع عدد من كبار المتبرعين لحملته الانتخابية عام 2024، على انه هدد بقصف موسكو وبكين، وكما سبق له في ولايته الأولى ان ارتدع عن مهاجمة كوريا الشمالية بسبب قوتها النووية، هو لا يفكر بتنفيذ تهديده المشار اليه، لكنه لم يتردد في مهاجمة إيران، خرقاً لكل القوانين الدولية، فقط لأنها لا تمتلك القنبلة النووية، وكما سبق لأميركا وان هاجمت العراق، بعد ان تيقنت من خلوه من أسلحة الدمار الشامل.
المصدر : وكالة سوا
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر