“الجوكر شهيد”.. أحمد فطيمة يرحل فترحل أمه كمداً على فراقه

بمجرد أن تضع قدميكَ على بابها يأتيك باسماً تفضل، تدخل بابها فتجد المكان يبتسم لك، على جانبيك تهتز ورود وأزهار وأوراق تنبئك أن يداً ترعاها بحب، يداً تمسح عنها ضنك الحياة ومشقتها، تأتيك رائحة القهوة وشاي النعناع لتأخذك إلى عبق المكان وسحر صانعهما، تحس برتابة المكان ونظامه لتكون مهيأً لتدريب أو عمل أو جلسة نقاش، هكذا بإمكانك أن تعيش يوماً في مؤسسة بيت الصحافة وفيها أحمد فطيمة “جوكرها” كما كان يلقبه الأصدقاء والزملاء، أحمد فطيمة الإنسان الودود الطيب الذي اغتالته يد الاحتلال الهمجية كما اغتالت غيره الآلاف من الصحفيين والمدنيين الآمنين في بيوتهم ب غزة .
تروي سجود فطيمة – زوجة الشهيد أحمد فطيمة- أنّ أحمد هو الحياة وكل شيء جميل فيها برحيله فقدت الحياة معناها، مضيفة:” عشت معه على حلو الحياة ومرها يكمل بعضنا الآخر أسنده ويسندني، أنجبت منه طفلين هما امتداده وأثره، كنا نخطط معاً لمستقبل محمود وأمين وتعليمهما، كان أحمد يساعدني في التربية والمسؤولية”.
صدمة الرحيل
وعن رحيله الذي كان مفاجئاً لها أكدت سجود أنها كانت نازحة في بيت أهلها عندما قصف الاحتلال البيت عليهم وأنهم نجوا من موتٍ محقق؛ مما أدى إلى إصابة ابنها البكر أمين حيث أسرع أحمد لإنقاذه وفي طريقه إلى مستشفى المعمداني تعرض لاستهداف مباشر قرب شارع اليرموك استشهد على إثره مباشرة وبقي ابنه مصاباً بجانبه.
تكمل سجود:” لم أصدق خبر استشهاده، ذهب أحمد مع ابني المصاب حياً لأجده في ساحات المعمداني ممدداً شهيداً لا حراك له”، مضيفة أن والدته رحلت كمداً وحزناً بعد شهور من فراقه فهو وحيدها بلا إخوة سوى أخت واحدة، وأن ما زاد حزنها على أحمد بعد استشهاده ابتعادها عن أحفادها أمين ومحمود وعدم رؤيتهما فقد نزحا بصحبتها إلى جنوب غزة بعد أن أجبر الاحتلال الإسرائيلي الكثير من سكانها على النزوح إلى الجنوب.
وأشارت سجود إلى أن أحمد كان على يقين أن الحرب لن تطول وستنتهي قبل عيد ميلاده، وبالفعل تمت هدنة مؤقتة بتوقيت ميلاده لكن أحمد كان قد ارتحل إلى الرفيق الأعلى شهيداً، “ما تقلقي”، هي كلمته التي كان يكررها لها بكل مرة تشعر فيها بالخوف أو العجز، تضيف.
إرث الشهيد وامتداده:
“الله يرحمك يا بابا، بحبك كتير، اشتقتلك” هكذا أجابنا أمين الابن الأكبر لأحمد الذي يبلغ خمس سنوات بنظراته البريئة عندما سألناه عما يريد قوله لأبيه الشهيد، أما محمود الذي يبلغ أربع سنوات أجابنا على سؤالنا عن مكان أبيه:” بابا في الجنة”
تكمل سجود أنها تستمد قوتها من ابنيها وأنها تحلم بتأمين مستقبلهما وتعليمهما قيم ومبادئ والدهما، كما تسعى لتطوير نفسها وأن تكون مؤثرة في المجتمع وقادرة على توفير دخل ثابت لها ولابنيها اليتيمين.
رسالة زوجة شهيد:
وعن رسالتها لزوجات الشهداء تضيف:” هذا قدرنا ويجب أن نقابله بالرضا، عليكنّ بالصبر والدعاء واحتساب أزواجكنّ شهداء، وإكمال الطريق الذي لم يكملوه كما وتربية الأبناء تربية حسنة على القيم والمبادئ والأفكار التي رحل أزواجنا الشهداء لأجلها”.
كما ودعت زوجات الشهداء لتكن كل واحدة قوية وألا تستسلم لنظرة المجتمع لها وأن تقف في وجه الصعوبات وأن تكون صاحبة مسؤولية وقرار.
أما عن رسالتها للعالم ختمت سجود:” حسبنا الله ونعم الوكيل، لست مسامحة أي شخص يستطيع إيقاف هذه الإبادة ولم يوقفها”.
جوكر مؤسسة بيت الصحافة:
وفي حديثنا عن أحمد أكّد حكمت يوسف – عضو مجلس ادارة بيت الصحافة- أنّ أحمد هو جوكر مؤسسة بيت الصحافة وأول موظفيها الذين يقومون ب فتح أبوابها، كما يرتّب المكان للموظفين ومكاتبهم ويعتني بالزراعة ويعتني بكل شيء داخل مقر بيت الصحافة.
ويضيف:” أحمد إنسان رائع وودود، هو وحيد والديه كان يرعى والدته التي أصيبت بمرض السرطان، وكان يفني حياته من أجل العمل يحرص عليه ويفضله على حياته اليومية ويحاول أن يكون على أكمل وجه”.
صداقة وأخوة
يروي:” عندما يكون أحمد متعباً من العمل و يريد أن يرتاح يتصل بي ويأتي في ساعات المساء نسهر سوياً ونتبادل الحديث والضحكات، كنت أعتبره ليس صديقاً أو زميل عمل بقدر ما كنت أعتبره أخاً لي جمعتني به مؤسسة بيت الصحافة”.
ويضيف حكمت أن تعامل أحمد مع زملائه كان قائماً على الاحترام المتبادل، فالعمل كان كخلية نحل وأسرة واحدة هدفها أن يكمل بعضهم البعض لنجاح المؤسسة واستمرارية عملها.
وعن طموحات أحمد يقول إنه كان له الكثير من الطموحات المهنية منها رغبته في مواصلة عمله في بيت الصحافة، وأن يوفر المأوى لعائلته وكان أكبرها أن يشتري شقة سكنية تكون مأوى له ولأسرته ووالديه وأخته.
وأشار حكمت إلى آخر حديث بينه وبين أحمد خلال الحرب الإسرائيلية قائلاً:” عندما شنت الطائرات الإسرائيلية حزاماً نارياً على حي الشجاعية وتحديداً في منطقة سوق البسطات حيث كان يسكن أحمد دعوته أن يأتي إلى بيتي في مخيم النصيرات هو وعائلته بسبب اشتداد القصف لكنه رفض رغم إلحاحي الشديد عليه واستمر في غزة”.
قضية ورسالة:
يضيف:” أحمد إنسان وطني غيور يحب فلسطين وغزة ولم ينزح إلى جنوب القطاع وظل صامداً فيه”.
وأكمل رسالته إلى أسرته:” عزاؤنا واحد والخاطر واحد، أحمد رحل لكننا على العهد سائرون، لقد انتقل أحمد للرفيق الأعلى لكن الذي يصبرنا على فراقه أنه في منزلة أفضل من هذه المنزلة، لن نترككم، سنبقى معكم، سيبقى بيت الصحافة سندكم وبيتكم”.
إخلاص أحمد في عمله:
أكد عاطف أبو سيف _ وزير الثقافة السابق_ أن أحمد ركن أساسي في جعل بيت الصحافة بيت حقيقي حيث لا يمكن تخيل بيت الصحافة بدونه، كما أنه كان صديقاً لجميع الصحفيين والكتّاب.
وأكمل:” أمضيت أيام الحرب الأولى برفقته ورفقة بعض الزملاء في بيت الصحافة، وكان أحمد يحرص رغم الخطر على فتح بيت الصحافة حتى يظل ملجأ للصحفيين في نقلهم للحقيقة”.
وقال أبو سيف إنه مع انتقال جل الصحفيين للجنوب بعد تحذير الجيش، كان يجب أن لا يتوقف نقل الصورة من غزة وتسجيل المذابح والمجازر، لذا كان أحمد في الأسبوع الأخير قبل استشهاده يتناول الكاميرا ويخرج بسيارة بيت الصحافة ويقوم بالتنقل بين أماكن القصف المختلفة والتقاط الصور والفيديوهات والعودة بعد ساعات العمل متعباً منهكاً ليقوم بتنزيلها وتحميلها على المواقع.
مضيفاً:” لقد كان لأحمد ذاكرة واسعة يحفظ كل من مر على بيت الصحافة وأعمالهم ونشاطاتهم”.
ويكمل:” حين صرنا أنا وبلال مدير بيت الصحافة ننظم الملتقى الثقافي الشهري في المؤسسة لمناقشة الكتب والأفكار كان أحمد طوال اليوم يرتب الساحة الخارجية ويجهزها، وحين يبدأ الملتقى وبعد أن يتأكد من أن كل شيء سار كما كان مخططاً له يسحب كرسياً ويجلس يستمع للشعر والنقاش حوله وصياغة الأفكار”، وختم أبو سيف حديثه:” كان جزءاً من كل شيء في بيت الصحافة”.
فلسطين التي كانت حلمه:
قال أحمد قنن موظف سابق في بيت الصحافة إن من صفات أحمد تحمّل ضغط العمل وحب التعلم، وإنه كان صبور لأبعد الحدود يتحدث مع الجميع ولا يتوانى في تقديم الخدمة للغير وإفادة الجميع بكل ما يلزم.
يضيف:” ذات يوم كان يوافق عيد ميلادي، سبقني أحمد للمؤسسة واحتفل بعيد ميلادي بطريقته الخاصة، حيث كنا وحدنا في المكان وقدم لي الورود وهدية رمزية، أما الهدية فكانت قلم ودفتر وقال لي حينها:” هدول بتستخدمهم لما تصير مدير أو وزير”.
وعن آخر ما دار بينه وبين أحمد يروي:” جاء لبيتي قبل استشهاده بدقائق، سلمني الدرع والخوذة وقال لي دير بالك على حالك وانتبه على نفسك بدنا نلبسك بدلة العرس بدل الدرع”، يكمل:” مضى وهو يبتسم ويلوح بيده من بعيد وكأنه يودعني”.
وأشار إلى أن أحمد كان يتحدث كثيراً عن فلسطين والأراضي المحتلة وكان يحلم أن يستجم في بحر يافا، وكان يطمح أن تفتح الحدود والسدود ويزور القدس وطولكرم.
لقد رحل أحمد وترك خلفه أب مفجوع وزوجة وابنين ومؤسسة تشتاق له وزملاء، رحل أحمد بإخلاصه وشوقه لفلسطين ومدنها، رحل أحمد مع أكثر من ستين ألف شهيد قتلتهم آلة الحرب العنجهية دونما رحمة دونما ذنب سوى أنهم يتنفسون هواء غزة ويعيشون على ثراها.
ملاحظة : هذا مخرج عملي لدورة ” الصحفيات والقيادة الإعلامية” التي نفذتها مؤسسة بيت الصحافة في الفترة من 22 إلى 30 يونيو 2025