المسافرون أكثر من ابتساماتهم | شعر
أحزن على أشياءَ كثيرة،
منها، مثلًا، قلّة الحيلة.
طاقاتٌ كثيرةٌ أهدرتُها في منع الخيال
– مِنَ الوصول إليّ –
بألواحٍ مِنَ الزجاج،
مُعَدَّةٍ لنوافذ بيوتٍ جديدة.
في الفرح أهدم الكون،
وفي الحزن أهديه جزءًا مِنْ فتاته،
ليرى أنّه صغير.
وأقرأ جسدي،
أكثر الجروح فيه مِنْ
أعمال المنزل.
*
أنا حافّةٌ حادّةٌ،
قوّتها في عجزها، لا تقطع الشلّال.
أنا جماعةٌ على قاربٍ،
تتحدّث عن أحوال النهر في السابق.
وقد كنتُ في النهر نهرًا،
لا فكرة لديه
عن رسومه في الخريطة.
الآن،
أنا إلى جانبه
أعدو…
وتعرّج مساريَ الأشجار.
*
ليس شعرًا
أن ترسم الصقر زينةً على كتفِكَ.
امْحُهُ…
وهيّا أَرِني قدرتَكَ،
ارْسُمْهُ وهو جائع.
*
اضحكْ بمفردِكَ،
أنا لا أطلب مِنْكَ أن تُشْرِكَني
بهذه الوسيلة.
صحيحٌ أنّ غيري قد يلومُكَ،
كما لو أنّكَ تأكل ما يشتهيه ولا تطعمه.
المهمّ، بالنسبة إليّ، وأنتَ في طريقي إلى المقبرة:
أنّكَ وأنتَ تضحكُ
لا أستعمل لوصف حالتِكَ
مفرداتٍ حزينة.
*
الحقائب
أكثر مِنَ المسافرين.
المسافرون
أكثر مِنَ ابتساماتهم.
المطر
يلقي قصائده على المظلّات.
المظلّات
لا تحمي الأحذية.
*
تذهب إلى المطار،
تجد كلّ الناس يسافرون.
تذهب إلى المشفى،
تجد كلّ الناس مرضى.
تذهب إلى الحديقة،
تجد كلّ الناس يتنزّهون.
ما تجده ليس سوى
وحدتِكَ تتجلّى
في الكثرة والزحام.
*
عندما يموت شاعرٌ
تتحوّل جماجم الموتى القدامى إلى أجراسٍ نحاسيّةٍ،
كأجراس المدارس القديمة،
الّتي لطالما عشّشتْ فيها العصافير؛
في عطلة نهاية العام الدراسيّ.
*
وداعًا يا أيّها الشّاعر،
كنتَ مسؤولًا عن شغفِكَ الّذي لم تملكْ مِنْ جوهره إلّا لهاثَكَ.
وداعًا أيّها المرن الصغير،
ككلماتٍ مائلةٍ في القاموس الغريب؛
تفتح معنى الكلمة
الكبيرة الغامقة،
أنتَ ومعناكَ المتعدّد.
*
نمتُ على الحبِّ،
ورأيتُ في الغيمة أمّي
تمسكُ بالقرآن وتقرأ فيه ابتداءً من سورة الناس،
وأفقتُ قبل أن تصلَ الفاتحة.
وأشرتُ بيديَ القصيرة إلى الناس
أنْ مِنْ هناك فمشوا عليها.
وصلوا وما وصلتُ،
كغزالٍ وحيدٍ يملأ لوحةً لا أحبّذ نسبتها للغزال.
وكنتُ أسمّي الأرض وأعني:
الشعر،
كلمةً واحدةً.
لا أسمّي الشعر الآن،
لا أسمّي الشعر!
ما عدتُ أعرف الأرض مِنْ كثرة القصائد.
أتناول مِنَ الصدفة القاتلة
حياتي،
مثلما يتناول دعاءٌ مرتجلٌ
– بالصدفة –
كلمةً مهجورةً،
ويضعُها إلى جانب الله.
*
لا وزن لغيابِكِ
هو بخفّة الكأس الّتي انقلبت على أريكةٍ مِنْ إسفنج.
هو ثقيلٌ كدعابةٍ امتلأت بنيّاتِ السماء في عينيْكِ.
هو مجدولٌ كظهر كرسيٍّ يحجب رؤية الساعة المتروكة
على الطاولة ليومين،
بجانب كسرة خبزٍ وزجاجةٍ طحلبيّة.
لا وزنَ لغيابِكِ
هو قطارٌ سريعٌ تقوده عواطف الراكبين.
ومِنْ قلقي أسمّي كومةَ الماءِ تحت القصيدةِ رئةً تتنفّسُ هواءَ ستارةٍ تُحرّكها الرموشُ،
وأُبرّرُ سقوطَ الثلج بغزارةٍ على جناحِ الغابةِ القريب.
لا وزنَ لغيابِكِ
هو ليس قاموسًا في حقيبةٍ، ولا خريطةً أو رأسًا في خيال.
هو ظلّ كلمةٍ عند البحيرة صارت بيتًا كالمثلّث مِنْ خشبٍ، سطحه انقلاب قاربٍ
(هكذا مازحني صديقي العراقيّ)،
وصحّحتُ، رغم غيابِكِ هذه الليلة أيضًا:
(البيت قاربٌ إذا أتى الطوفان)
نصر جميل شعث: شاعر فلسطينيّ من مواليد خان يونس جنوب قطاع غزّة، يقيم بين النرويج ومرّاكش. صدر له في الشعر: «شهوة الأسفلت» (2005)، «لأنّ قبّعة التراب دخان» (2007)، «خلعوا الليل من الشجرة» (2011)، “خاطف الغزالة يتعثّر بأعشابها” (2016)، «غائبون لشراء بطاقات هواتف» (2021)، كما صدر له في النقد كتاب بعنوان “كلمة يدي ليست ملكي” (2009).
المصدر: عرب 48