“اليمين الجديد ومشروع الهيمنة الشاملة”
غانم: “اليمين الإسرائيلي من جابوتنسكي مرورا ببيغن كان يركز على الليبرالية والفردانية وحقوق الفرد وسيادة القانون وفي هذا السياق يذكر قول بيغن الشهير “يوجد قضاة في القدس”، بينما دفع عهد نتنياهو هذا اليمين إلى التحول عن القيم الليبرالية ومناهضتها”.
في تقديمها لكتاب “اليمين الجديد في إسرائيل – مشروع الهيمنة الشاملة” الذي حررته وكتبت الفصول الأولى منه وصدر مؤخرا عن مركز “مدار”، تقول د. هنيدة غانم إن خلخلة هيمنة الصهيونية العلمانية الأشكنازية وظهور قوة الجماعات المتدينة االحريدية والاستيطانية والمحافظة الشرقية، يدفع أقصى اليمين الجديد باتجاه الردكلة نحو دولة أكثر يهودية ويهودية أكثر قومية وقومية أكثر يهودية، ويدفع إلى الحسم مع “العدو (الفلسطيني)” وإقامة السيادة الكاملة والصلبة في “أرض إسرائيل”.
وعلى خلاف الصهيونية المؤسسة التي تحولت من سلوك استعماري عنيف قبل العام 48، إلى سلوك دولاني استعماري بعد إقامة اسرائيل يقوم على المؤسساتية والبيروقراطية القانونية والديمقراطية الليبرالية، فإن ما أسمتها بالصهيونية المستجدة تمارس دورا هو خليط بين ممارسة المستعمر النشط والطلائعي الذي يقود عمليات المستعمر في الجبال والهضاب في الضفة الغربية، والمستعمر الدولاني الذي يتخذ من أدوات الدولة المؤسساتية والقانونية روافع لتحقيق مشروعه.
بناء عليه، فإن ممارسته التي تستفيد من قوة الدولة وحمايتها وموروثها الاستعماري تتحول إلى ممارسة أكثر مشهدية مقابل الفلسطيني، وتتخذ شكل انفلات الجماعات المتطرفة الاستيطانية كما جرى في حرق حوارة أو خلال هبة الكرامة 2021، وذلك في ظل استمرار الصراع مع سكان البلاد تتحول “المبالغة” إلى أداة المستعمر المستجد الذي تجاوز المستعمر المؤسس، بما يَعّمد دور أفراده “في السردية القومية الكبرى” وأساطيرها الجماعية ويموضعهم في تاريخها ليس كهامشيين ملتحقين بل كفاعلين نشطين.
وتشير غانم في هذا السياق إلى أن احتلال الأراضي الفلسطينية في العام 1967 “أعطى فرصة ثانية” للصهاينة الملتحقين للعب الدور المشتهى في المشروع القومي الاستعماري الذي فاتهم في العام 1948، ممثًلا بدور طلائع الاستيطان الجدد الذين يسعون لاستكمال المشروع الصهيوني “االمبتور”.
وتؤكد أن هؤلاء يأخذون كل قيمهم ومفاهيمهم التي يوظفونها في خطابهم وممارساتهم من قاموس الصهيونية المؤسسة، سواء عن الوطن القومي للشعب اليهودي أو عن أرض اسرائيل وحقوق اليهود التاريخية ومنطق العمل العربي والمستعمرة النقية وقيم العسكرة واستيطان السور والبرج، ويعيدون شحذها وتوظيفها من أجل استكمال تحقيق المشروع الصهيوني عبر العمل على مسارين يتفاعلان معا ويغذي أحدهما الاخر: مسار استعماري عبر تحقيق السيادة الكاملة على “أرض إسرائيل”، ومسار داخلي، عبر إعادة تهويد “الصهاينة الأوائل” الذين تراخت يهوديتهم وهويتهم وتراجع انتماؤهم.
وبمنظور هؤلاء، يتحقق المستوى الاستعماري عبر المواجهة مع الفلسطيني والسعي إلى سحقه، إذ يصبح الانتصار على الفلسطيني الأصلاني “عماليق” وفرض السيادة على كل البلاد، هو الطقس الذي سيعمد مكانة الصهاينة المستجدين في المشروع القومي الاستعماري العام، كـ”أسياد البلاد وأصحاب المكان” (بلغة إيتمار بن غفير “باعل هبيت”).
لكن هذا المشروع “المستجد” يظل غير كاف لتعميد “المستجدين”، إن لم يترافق كما تقول غانم، مع انتصارهم على الأعداء بقتل “الأب الرمزي” (إذا ما شئنا استخدام مفردات فرويد)، وهو قتل سيمكن المستجدين الأبناء من أن يرثوا فعليا الآباء المؤسسين ويجلسوا مكانهم، وبكلمات أخرى، تمكن الصهاينة الأبناء من أن يصبحوا صهاينة مؤسسين سواء إن عبر “ثورة قضائية” تمكنهم من تفكيك آخر معاقل هيمنة دعاة الصهيونية المؤسسة، أو من خلال نزع شرعيتهم ومحاصرتهم ومنع عودتهم للحكم بعد إجراء تغييرات بنيوية في النظام أو عبر تعميدهم في البنية الجديدة كيهود جدد.
هذا على الرغم من أن الصهيونية المستجدة بقيادة أقصى اليمين” أو “اليمين الجديد” تأخذ من قاموس الصهيونية المؤسسة قيمها المركزية وتعيد تدويرها وتوظيفها المتكامل المشروع الصهيوني والدفع لتحقيقه الكامل بعد أن تراخى الآباء المؤسسين عن استكماله.
وبهذا الصدد، حاور “عرب 48” مديرة مركز “مدار” للسياسات الإسرائيلية، د. هنيدة غانم، حول موضوع الكتاب وتداعيات صعود “اليمين الجديد” وتأثيراته على طبيعة المشروع الاستعماري الصهيوني.
“عرب 48”: نحن نعرف أن اليمين يحكم في إسرائيل منذ “انقلاب” عام 1977 وتولي مناحيم بيغن للسلطة، ما الذي تغير اليوم أو في السنوات الأخيرة من حكم نتنياهو واستوجب تسمية “اليمين الجديد”؟
د. غانم: المسألة هي ليست مفاضلة بين يمين قديم ويمين جديد بقدر ما هي رصد وفهم للتغيرات التي تحصل في الحقل السياسي الإسرائيلي وكيفية التعبير عنها ومدى تأثيرها علينا كفلسطينيين، فإذا نظرنا إلى هذا الحقل نرى طيفا من التشكلات الحزبية التي تنضوي تحت هذه المظلة الواحدة التي نسميها “اليمين الجديد”، وإذا أخذنا اليمين الجديد كامتداد لليمين التقليدي الكلاسيكي نلاحظ أنه أصبح يتمتع بسمات مميزة جديدة تختلف عن السمات القديمة لليمين التقليدي.
اليمين الإسرائيلي من جابوتنسكي مرورا ببيغن كان يركز على الليبرالية والفردانية وحقوق الفرد وسيادة القانون وفي هذا السياق يذكر قول بيغن الشهير “يوجد قضاة في القدس”، بينما دفع عهد نتنياهو هذا اليمين إلى التحول عن القيم الليبرالية ومناهضتها وتطوير حالة من الشعبوية.
هذا لا يعني أن بذور هذه الحالة لم تكن موجودة سابقا لكنها تطورت وازدهرت في السنوات الأخيرة وفي عهد نتنياهو، خاصة عندما أصبح “اليمين الجديد” يضم كل التشكلات من الحريديين و”الحردليم” والفاشية القومية والكاهانية التي يعبر عنها تيار بن غفير، وهي تشمل أيضا تيارات مجتمع مدني عاملة داخل المجتمع الإسرائيلي.
“عرب 48”: هذه التشكلات التي تلتقي تحت مظلة “اليمين الجديد” هي نتاج تغيرات ديمغرافية داخل المجتمع الإسرائيلي؟
د. غانم: هي ناتجة عن تغيرات ديمغرافية وتغيرات مرتبطة بالتطور الجدلي للصهيونية في سياق التحولات الاجتماعية، علما أنني أدعي أن تطور اليمين إلى هذا الطور هو تحصيل حاصل لأن بذوره موجودة في الصهيونية فاليمين الجديد هو طور جديد له مميزاته من الصهيونية، التي عملت على الأيديولوجية الدينية واستخدامها استعماريا.
هذه الصيرورة جاءت استنادا إلى أيديولوجية الاستعمار الاستيطاني التي بنيت عليها الصهيونية هي ضرورة الأيديولوجية الدينية، المشروع “القومي” يريد أن يحقق ذاته والصهيونية تريد أن تحقق ذاتها، فإذا كانت الصهيونية الأولى ذات الطابع العلماني تريد أن تحقق دولة ذات أفق إمبراطوري يأتي اليمين الجديد ويقول نريد أن نصل إلى “الخلاص” وإلى إقامة “مملكة إسرائيل”.
“عرب 48”: بمعنى أن الصهيونية الأولى حققت الدولة وتريد أن تتوقف عندها وما يسمى باليمين الجديد يريد استكمال مشروعه الاستعماري؟
د. غانم: الصهيونية الأولى هي مشروع دولاني غربي حداثي، تريد أن تتصرف كدولة بعد أن حققت ذلك، بينما تسعى التشكلات الجديدة إلى استكمال المشروع الاستعماري الاستيطاني، لقد أوضحت في الكتاب مسألة “الصراع” الداخلي بين ما أسميته بالمستعمر المؤسس وما أسميته بالمستعمر المستجد، وكيف أن التشكلات الجديدة تريد أن ترث المشروع وتتصدره كجزء من تقاسم ورثة رأس المال الرمزي للصهيونية، لأنهم لم يكونوا جزءا من المشروع الصهيوني، الحريديين والشرقيين وحتى أتباع الصهيونية الدينية لم يكونوا جزءا من المشروع الصهيوني الذي ترجم بإقامة دولة إسرائيل.
اليوم لم يعد هؤلاء الأشكناز العلمانيين الذين أقاموا دولة إسرائيل يشكلون 85% من السكان، بل أصبحوا أقلية داخل البنية السكانية، اليوم يشكل هؤلاء فقط 42% من السكان إذا استثنينا العرب الفلسطينيين، ولكن هذه الأقلية قوية لأنها تمسك برأس المال الاقتصادي والإعلام والقضاء والأكاديميا والثقافة والتي تشكل أعمدة الدولة.
لذلك فإن فئة الأغلبية التي تمتلك القوة السياسية الناتجة عن قوتها الديمغرافية تؤهلها لإقامة حكومة، تشعر أنها غير قادرة على الحكم، كما تقول، وهو قول حق أريد به باطل، ولذلك هم يحاولون إعادة بناء كل المنظومة القضائية لتتوافق مع رؤيتهم لبناء “أرض إسرائيل الكاملة” و”بناء الهيكل”.
“عرب 48”: هذا على المستوى السياسي وعلى المستوى الداخلي هم يريدون بناء دولة الشريعة وهذا بالذات ما يشعل الصدام الداخلي، لأن القضايا السياسية تحظى بإجماع إسرائيلي؟
د. غانم: هذا تبسيط للموضوع، هم يتصرفون كقبيلة وهناك إجماع داخل القبيلة على عدة قضايا، أولها أن العرب أعداء وبالتالي يجب أن يكونوا موحدين ضد الأعداء وثانيا أن مفاهيمهم للمواطنة هي مفاهيم قبلية – نحن أعضاء القبيلة أصحاب المواطنة فقط.
ما حصل مؤخرا، أنه داخل القبيلة هناك شعور من بعض أبناء القبيلة أن هؤلاء الغربيين يأخذون المجموع باتجاه العولمة وتذويب الهوية اليهودية، أو بلسان نتنياهو “إنهم نسوا ماذا يعني أن تكون يهوديا”، وبالتالي يجب إعادتهم إلى يهوديتهم، علما أنه بالنسبة لهؤلاء مصطلح “إسرائيلي” يعني معولم وعالمي.
دعاة اليمين التقطوا أهمية اليهودية بين المتدينين وبين المحافظين الشرقيين واستثمروا فيها ليس لأنهم متدينين، بل لأنهم بحاجة إلى هذه المقولات الدينية اليهودية لاستكمال المشروع الاستعماري، والمفارقة أنهم أخذوا كل قيمهم ومفاهيمهم التي يوظفونها في خطابهم وممارستهم من قاموس “الصهيونية المؤسسة”، سواء عن الوطن القومي للشعب اليهودي أو عن “أرض إسرائيل” و”حقوق اليهود التاريخية” ومنطق “العمل العبري” و”المستعمرة النقية” وقيم العسكرة واستيطان “السور والبرج”، وهم يعيدون شحذها وتوظيفها من أجل استكمال تحقيق المشروع الصهيوني عبر العمل بمسارين استعماري يهدف إلى تحقيق السيادة الكاملة على “أرض إسرائيل” وداخلي يبتغي إعادة تهويد “الصهاينة الاوائل” الذين تراخت يهوديتهم وهويتهم وتراجع انتماؤهم، كما يدعون.
المصدر: عرب 48