في حضرة القرّاء
هل تتخيّلون رسّامًا يبدع ولكن لا يرى لوحاته أحدٌ؟ أو ملحِّنٌ يبدع الألحان، ولا يسمع ألحانَه أحدٌ سواه؟
هل يمكن لكاتب أن يكتبَ وهو يعرف أن أحدًا لن يقرأه! وأنه لا يفعل سوى الجلوس أمام الحاسوب ويكتب وفي آخر النهار يمحو ما كتب، أو أنّ ما كتبه يُمحى تلقائيًا بعد ساعات أو أسبوع أو شهر أو حتى سنة دون أن يطلع عليه، أو يعطي رأيَه فيه أحدٌ!
هل كان سيكتب حينئذ؟ هل كان سيكتب لقارئ وحيدٍ هو الكاتب نفسه، مثلما يغني شخصٌ ما إلى نفسِه، بل إن الغناء يمكن أن يطرب المغنِّي نفسه، ولكن إذا بقيت الفكرة محبوسة في دماغ الكاتب أو المثقف دون أن يكتبها وينشرها إلى الناس أو يلقيها أمام جمهور، فهل لها قيمة تذكر؟
كل من يعمل عملا يحتاج إلى رأيٍ فيه، لهذا نرى الطاهي يطل بين حين وآخر على الناس الذين تناولوا طعامه، هل أحبُّوه أم لا! ليس فقط لضمان استمرار عمله، بل كي يشعر بلذة الإبداع في مهنته! تنفرج أساريره إذا شعر بطلب على طعامه، ويفتخر بالقول: لقد نفدت حتى آخر ملعقة أرز أو شريحة من اللحم! مثلما يفتخر كاتب بالقول: لقد نفدت آخر نسخة من روايتي أو مجموعتي. يكتب الكاتب لأجل قارئ مفترض، سيقرأ كلماته ويتأثر فيها سلبًا او إيجابًا.
يحاول الكاتب إثارة فضول القارئ وانفعاله، أما إذا نجح في إدهاشه، فقد نجح في مهمّته، إنه يشبه مخرج الأفلام السينمائية الذي يتعمّد إغراء المُشاهد وشدّه وإثارة فضوله، كي يستمر في مشاهدة العرض، وخلال هذا يدخل له الفكرة التي يريدها.
مهما كانت جدية الموضوعة التي نعالجها، فهي تحتاج إلى مشاهد فنيّة تشدُّ القارئ، مثل التّوتر والتشويق فهو “بهار” الكتابة.
طبيعي أن يتوقّع الكاتب أنَّ بعض كتاباته لن تعجب شريحة من القرَّاء، بل يجب أن تكون كذلك، مثيرة للنقاش، خصوصًا إذا كانت تتطرَّق إلى السِّياسة من زاوية أو رؤية عميقة وغير شعبوية، أو من زاوية تمسُّ أفكارًا اجتماعية جاهزة ومُقَوْلبة تراكمت خلال أجيال أو عُصور، خصوصًا عندما يتعلّق الأمر بالدِّين والمرأة والجنس، التي أطلق عليها الباحث السوري بوعلي ياسين “الثالوث المحرّم”.
الكتابة الشعبوية تبقى على السَّطح، وتفضل دغدغة مشاعر السَّواد الأعظم من الجمهور، وتطلق شعارات باستمرار لإرضاء مجموعات لا تناقش الفكرة، بل تتناولها كما هي بسطحية تلامس غرائزها الانتقامية أو المتعطشة للانتصار أو الفرح.
الأفكار الجريئة موجودة لدى الكثيرين من الكتاب وغيرهم من المثقّفين، ويناقشونها في ما بينهم، ولكننا نحتاج إلى الجرأة على تقديمها إلى القارئ في قالب مشوّق غير استعلائي، ولا استفزازي إلى درجة تنكّر وتثير اشمئزاز القارئ، أو تتيح لأعداء الفكرة وخصومها التحريض عليها بسهولة.
القارئ ذكيٌّ ويتفهّم الفكرة، من دون استفزاز أو مسٍّ في عقائد ومشاعر جماعية للمجتمع أو لشرائح واسعة منه، حتى الأفكار الفلسفية التي تناقش خلق الكون، ممكن طرحها ومناقشتها من غير استفزاز للمشاعر.
بقدرة الكاتب تقديم أيَّ فكرة ترادوه مهما كانت مناقضة لقناعات المجتمع، شرط أن يقدّمها بصورة لائقة دون استفزاز لمشاعر الناس، وخصوصًا ما يخصُّ العقائد الدينية والمسلمات الاجتماعية، أو التي تقترب من أن تكون دينية، مثل التعصّبات السِّياسية والقومية والجنسية وغيرها.
أحترم قرّائي، ومنهم مواظبون على قراءة ما أكتب، طالبني أحدهم بأن أواصل التوجُّه إلى النّصوص القريبة من القصة القصيرة، التي أسميها المقالة القصصية، وهي في الحقيقة ما أحب كتابته أكثر من الكتابات السياسية المباشرة والجّافة، ولكن الوضع السِّياسي المتحرِّك والملتهب الذي نعيشه ساعة بعد ساعة، يحتاج أيضًا إلى متابعة دائمة وتحليلات وآراء تثري الجدل والنقاشات، والسُّبل التي تمكننا من بلورة تصورات صلبة تصل إلى قلوب الجماهير وعقولها وتقنعها، لأننا لن ننجح في تحقيق أي هدف، إلا إذا كنا مقتنعين بالوصول إليه، وقادرين على إيصاله إلى عقول ومشاعر الناس بصورة صحيحة وعميقة غير انفعالية، وإلا سوف تبقى الأفكار الجميلة نظريات تعيش في الزوايا الخفية من أذهاننا من دون أن تتحوّل إلى عمل ملموس يفضي إلى النتائج المتوخّاة.
المصدر: عرب 48