مقتل أبو قوطة وثقافة القبيلة … والحوار …!
كان من المنطق انتظار أيام للكتابة عن مقتل المواطن شادي أبو قوطة في خان يونس بهذا الشكل البشع على يد سائق جرافة وبقرار من شرطي واجبه الأول الحفاظ على القانون من أجل سلامة المواطن، وإذ به يصدر قرار قتل المواطن دون أن يرف له جفن، كان من الضروري الانتظار قليلاً حتى تهدأ الموجة وحتى لا يُصب مزيد من الزيت في منطقة لا تحتاج عود ثقاب، فقد تكفلت حرارة الجو بالأمر وحتى يتم نقاش الأمر ببعده الثقافي، وبما هو أكثر أهمية من حادث في منطقة لم تعد تبحث عن أسباب وأدوات القتل.
في الحدث ما يعيدنا إلى العقل العربي الذي يستسهل موت مواطن في لحظة ما، ويقيم الدنيا ولا يقعدها في أخرى، والأساس أن هذا الشرطي وسائق الجرافة ليسا منفصلين عن تكوين ثقافي أكبر لا يقيم وزناً لحياة الفرد كعائلات حين تتصارع، وكسلطة حين تحتكر القوة تمارسها بسادية غريبة عن تعاليم الأديان وروح القوانين.
مفارقة القتل أقل وطأةً من مفارقة التداعيات وتلك التي تسلط الضوء ربما على الحاجة لفهم المجتمع وكتله الاجتماعية والسياسية ومن أين يستمدون سلوكهم وثقافتهم. وهنا لا بد وأن يستوقفنا ما قاله أنتوني ناتنج في كتابه الهام «العرب من الجاهلية حتى جمال عبد الناصر» معتبراً أن العرب هم أمة لا معيارية أي أنها تحكم على الحدث الواحد بمعيارين مختلفين، ولفهم الأمة العربية لا بد من فهم نموذج القبيلة وعلاقاتها البينية باعتبارها منتج الحالة الصحراوية وثقافتها.
يعطي «ناتنج» نموذجاً صارخاً في القتل فيقول «إذا ما قام أحد أفراد القبيلة بقتل آخر من قبيلة أخرى تتكتل قبيلته للدفاع عنه، أما لو كان القتيل من نفس القبيلة يقام عليه الحد»، هنا مفارقة صارخة أمام جريمة واحدة هي القتل، لكن هناك حكمين مختلفين تماماً يصدران لها يحددهما الارتباط بالقبيلة والمكان، هذا يحدث في معظم الأحيان.
الفصائل الفلسطينية هي ابنة هذا الواقع، ورغم اتجاهاتها المتعددة ودعوتها لبناء منظومة مختلفة إلا أنها لم تستطع الإفلات من واقعها القبلي المتجذر، وفي لحظة ما يتضح أن كل الحديث عن القضاء الحديث والنظام الإداري ودولة القانون ينسحق أمام غريزة القبيلة، وتمارس عملية العقاب وفقاً للمعيار القبلي طبعاً بقسوة الصحراء وما تحمله من ثقافة.
حدثان يصلحان لتوضيح الصورة، شرطي من « حماس » قتل صهره قائداً في «حماس» أي أن جريمة القتل حدثت في القبيلة فأقيم الحد خلال أيام، ومثله سابقاً نزار بنات الذي شتم القبيلة، والفاعل هنا في الحالتين من القبيلة على الأغلب أن تقوم القبائل بحمايته. والأمثلة كثيرة، فقبل عامين قام حاجز لقوة من حماس بقتل المواطن أبو زايد، ماذا حدث للقاتل؟ إنه ابن القبيلة …!
والأهم أن صراع القبائل المندلع بين كبرى الحركات الفلسطينية ما يضيف للامعيارية شكلاً هزلياً محزناً، خصوصاً في عصر السوشيال ميديا وانكشاف كل شيء وتنامي الوعي العام. كيف تحرك القبيلة أسطولها الإعلامي حين يكون الخطأ من القبيلة المنافسة وتبتلع لسانها حين يخطئ أحد أفرادها، وكيف تبذل جهدها لحمايته. وفي أمثلة كثيرة ما يمكن أن يضيف احباطاً للمحاولات الفلسطينية في حكم الفلسطيني لنفسه يعيد انتاج نموذج الصحراء، والأمر ينسحب على حماية الأبناء بالوظائف من الفقر والعوز والتسهيلات والحياة التي تليق باسم القبيلة باعتبار باقي الشعب هم من القبائل المتفرقة أو في الدرجة الثانية، ليصل الأمر حد استسهال القتل برمشة عين وينحى القانون جانباً، والأخطر أنه بلا شعور بالتناقض لأن العقل الصحراوي أكثر تجذراً من تعاليم الحداثة ودولة القانون.
تتداخل هنا كل التشوهات الحاصلة في الحالة الفلسطينية من إرث عربي استبدادي والتراث الصحراوي، وحداثة تجربة الحكم والإسرائيلي الذي يحكم الحكم والمواطن معاً مستبداً بالجميع وتقليد الضحية للجلاد، وفقدان الثقة بالنفس ارتباطاً بانعدام الإنجاز سواء على مستوى عملية التحرر أو على المستوى المعيشي، مع احتكار تام لكل عوامل القوة وممارستها بلامعيارية نكون أمام مواطن ألقت به الحياة في منطقة ليس فيها كثير من الأمل بالرحمة والمساواة والعدالة وتطبيق القانون بمعيار موحد للجميع، وكل النظريات التي تملؤها كتب التشريعات والشرائع، والشعارات التي ترفعها الفصائل على سبيل الدعاية او الدعابة.
مثلي كثيرون لا ينتظرون حكم الإعدام لشرطي أقدم على قتل عمد لأسباب كثيرة، ولكن مثلي وآخرون لا يزالون يحلمون بتجربة حكم معيارية تستحق الاحترام.
على هامش الحديث عن القبائل وحوار القاهرة، فالقبائل عادة لا تتوحد ولا تندمج بل تحكم منفردة لأن الحكم خصوصيات وأسرار، وهو ملك للقادة وليس لأفراد القبيلة. هل رأيتم قبيلتين تندمجان؟ كان التعبير الأبرز عن ثقافتنا هو الانقسام، لذا ليس من الصدفة أن توقع القبائل عشرة اتفاقات مصالحة، وقد توقع اليوم الاتفاق الحادي عشر ليضاف إلى ما سبقه في خزائن التاريخ المقلوب.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر