الفَنُّ والمُراهَقة…
يشكو كثيرٌ من النَّاس من المستويات المتدنِّية لبعض الفرق الموسيقية والفنِّية التي تقدِّم عروضها في المناسبات، مثل حفلات الزَّفاف، التي يفخر بعضها بالعنف، ويذكر السّلاح، ويصف العنف بفخر بالعمل الرُّجولي والبطولي. ويلاحظ أن هذا العنف اللفظي موجَّهٌ إلى أبناء مجتمعه، إلى الناس الذين يلتقيهم في الشارع أو الذين يسكنون في الحيِّ نفسِه، فهو ليس عنفًا ضد ظلمٍ أو لاسترداد حق مسلوب، بل هو عنف مجاني يسعى إلى تحقيق هدف التفوُّق على خصم افتراضي، إلا أنه يفهم من سياق الكلمات وما يحدث على أرض الواقع من عنف، أن هذا الخصم هو ابن بلده وجلدته، وقد يكون جاره أو ابن عائلته.
اقرأ/ي أيضًا | تابعوا تطبيق “عرب ٤٨”… سرعة الخبر | دقة المعلومات | عمق التحليلات
تمتاز هذه الكلمات بالنَّرجسية المفرطة، إذ أنَّها تمتدح الأنا من خلال “نحن الذين كذا وكذا” في وصف الجبروت والعنف وردَّة الفعل الدموية على من “يرشّهم بالماء”، ثم تتحدّث عن محو الآخرين وتقلِّل من قدرهم وتسخر منهم، وتتوعدهم بالإبادة، تتخللها عبارات مثل “قل لمن ينتظر سقوطنا”، وكأنَّ هناك عدوًّا ينتظر سقوطهم للشماتة بهم.
هذه المادة المريضة تدغدغ مشاعر المراهقين وتجعلهم يقفزون إعجابًا، وتفجِّر طاقاتهم المكبوتة في القفز وفي التَّدافع في أحيان كثيرة إلى درجة عنيفة، وذلك كي يكونوا جزءًا من استعراض القوة والعنف المنتصر من المعادلة، وكلّما كان الآخرون ضعفاء كنا نحن الأقوياء، وكلَّما أمعنّا في إهانتهم، غذّى هذا نرجسيِّتَنا.
تلعب سنُّ المراهقة دورًا في تقبُّل موضوعات العنف والتَّحمُّس لها، المراهقون يحبُّون قصص المغامرات والعُنف والبطولات الوهمية، سواءً كانتْ في قصصٍ مكتوبةٍ أو في الأفلام والمسلسلات، العُنْف يستهوي المُراهقين حتى ما يُعرض بصورة تفتقر إلى المنطق في الأفلام مثل القفز من ارتفاعات مذهلة بين العمارات الشاهقة، والقيام بأعمال خارقة، كأن يقاتل فردٌ واحدٌ العشرات ويهزمهم، والقدرة الخارقة على وقف سيَّارة بذراعين عاريين، والرَّكض والقفز تحت وابل من الرصاص دون التعرُّض للإصابة، وإذا أصيب، فلا بدَّ أن صديقه أو من سيصبح صديقه أو صديقته سوف يعالجه وينقذه من الموت.
سيقول قائل: “نتفّهم المراهقين في حبهم لهذا اللون، فماذا مع البالغين الذين يتقبلون هذا اللون من “الفن”؟! سؤال حقيقي، ماذا مع البالغين؟
الحقيقة أنَّ جمهورنا المراهق واسعٌ جدًا، وسنُّ المراهقة لا تتوقف عند الثامنة عشرة، بل أنها تتقدم وقد تصل إلى سن الأربعين وحتى إلى الخمسين، فترى رجالاً في العقد الخامس يتصرفون كمراهقين، وذلك أن المراهقة ليست ظاهرة جسدية فقط، بل هي فكرية أيضًا، المراهقة الجسدية تنتهي بالبلوغ الجسدي التام، أما في المجال الذهني فهي تحتاج إلى وقت أكثر، وهي تستمر ما لم يطوِّرها الإنسان نفسه، فالنضوج الفكري والعاطفي لا يقصد به مواصلة التعليم مثلاً، أو الخروج إلى سوق العمل، هذا جيد ولكن يجب أن يرافقه غذاء فكريٌّ، فالعقل الذي ينقل شخصية المراهق إلى شخصية الإنسان البالغ يحتاج إلى الاطلاع على ثقافات مختلفة وإلى قراءات وتجارب حياتية متنوِّعة تغني الإنسان وتسهم في بلوغه إلى مرحلة الرجولة، وما دام الإنسان متوقِّفًا في معرفته عند مرحلة معينة من العمر فهو سيبقى هناك وإن تقدّمت به السِّن، ولهذا نجد كثيرين في مجتمعنا لا يبلغون سنَّ الرشد ويبقون مراهقين حتى بعد أن يتزوَّجوا وينجبوا ويصبح أولادهم في سنِّ المراهقة، وقد يعيش البعض حتى الشيخوخة ويرحل وهو مراهق.
ممكن للجمهور أن يتقبلَ الفنَّ الراقي وأن يتذوَّقه وأن يطرب له، ولكن يجب أن يقدَّم له، فالجيل الشاب في أكثره يتلقى ويصقل ذوقه من خلال شبكات التواصل أو في مناسبات مثل حفلات الزَّفاف، وهو مستعد للتفاعل مع شتى أصناف الفنون، وتقع مسؤولية على الفنانين أن يقدّموا ما هو جيِّد وراقٍ شكلا ومضمونًا، وكذلك على المضيفين في المناسبات بأن يكونوا على ثقة أن الجمهور يتقبَّل ما هو أصيل بمحبة واستمتاع، وقد ثبت عامًا بعد عام أن موجات الفنِّ الضَّحلة سرعان ما تُنسى وتتلاشى مثل فقاعات الصابون، رغم أنَّها تبدو في لحظتها قمَّةً في الرَّوعة وكأنها ستعيش مدَّة طويلة، ولكنها في الواقع تحترق وتستنفد جاذبيتها مثل أفلام الحركة الّتي تُشاهَد مرة واحدة أو اثنتين وتفقد جاذبيتها، بينما يبقى الأصيل الذي يخاطب الروح والعقل والذائقة الراقية، مترفِّعا عن الغرائز والسَّطحية.
المصدر: عرب 48