تاريخ طويل من استغلال المجتمعات المحليّة
الشركات العابرة للقارّات، بفضل قوّتها الاقتصاديّة الهائلة وانتشارها العالميّ، لها تأثير عميق على المجتمعات المحلّيّة في جميع أنحاء العالم، ويعدّ استغلال العمالة، والتدهور البيئيّ، وعدم المساواة الاقتصاديّة، والتجانس الثقافيّ، وتهجير الأراضي من بين العواقب المدمّرة لأنشطتها
تتمتّع الشركات العابرة للقارّات، والّتي يشار إليها غالبًا بالشركات متعدّدة الجنسيّات أو الشركات المتعدّدة الجنسيّات، بقوّة اقتصاديّة هائلة على نطاق عالميّ، حيث تنتشر هذه الشركات العملاقة عبر القارّات، وتعمل في بلدان متعدّدة، ولها تأثير كبير على الاقتصاد العالميّ، وفي حين أنّها جلبت فوائد لا يمكن إنكارها مثل خلق فرص العمل والتقدّم التكنولوجيّ، فإنّ تأثير الشركات العابرة للقارّات السلبيّ على المجتمعات المحلّيّة كان هائلًا كذلك، ممّا أدّى إلى تدميرها اقتصاديًّا واجتماعيًّا.
والشركات العابرة للقارّات، بفضل قوّتها الاقتصاديّة الهائلة وانتشارها العالميّ، لها تأثير عميق على المجتمعات المحلّيّة في جميع أنحاء العالم، ويعدّ استغلال العمالة، والتدهور البيئيّ، وعدم المساواة الاقتصاديّة، والتجانس الثقافيّ، وتهجير الأراضي من بين العواقب المدمّرة لأنشطتها.
إحدى الطرق الأكثر وضوحًا الّتي تؤثّر بها الشركات العابرة للقارّات على المجتمعات المحلّيّة هي استغلال العمالة، حيث أنّ العديد من الشركات المتعدّدة الجنسيّات، في سعيها لخفض تكاليف الإنتاج، تنشئ عمليّاتها في بلدان ذات أنظمة عمل متساهلة وأجور منخفضة، وغالبًا ما تدفع هذه الشركات لعمّالها أقلّ بكثير ممّا يمكن اعتباره أجرًا معيشيًّا في بلدانهم.
ووفقًا لتقرير صادر عن منظّمة أوكسفام الدوليّة، اعتبارًا من عام 2020، كانت أكبر 5 شركات أمريكيّة عابرة للقارّات هي “آبل” و”مايكروسوفت” و”أمازون” و”ألفابت”، وقد واجهت هذه الشركات، الّتي تبلغ قيمتها مجتمعة أكثر من 5 تريليون دولار، انتقادات بسبب اعتمادها على العمالة المنخفضة الأجر في العديد من البلدان، وخاصّة في آسيا، إذ غالبًا ما يتعرّض العمّال في سلاسل التوريد الخاصّة بهم لساعات طويلة، وظروف عمل خطرة، وأجور منخفضة، على سبيل المثال، وجدت دراسة أجرتها جمعيّة العمل العادل أنّه في عام 2019، كان العمّال في مصانع موردي أبل في الصين يتقاضون أجورًا أقلّ من 3 دولارات في الساعة، وهو أقلّ بكثير من أجر المعيشة في المنطقة.
ولا يؤدّي هذا الاستغلال إلى إدامة الفقر داخل هذه المجتمعات فحسب، بل يعطّل أيضًا أسواق العمل المحلّيّة عن طريق تشويه هياكل الأجور، وفي كثير من الحالات، يجد العمّال المحلّيّون صعوبة متزايدة في التنافس مع العمالة المنخفضة التكلفة الّتي تقدّمها الشركات المتعدّدة الجنسيّات، ممّا يؤدّي إلى انخفاض الأجور وانعدام الأمن الوظيفيّ، وللشركات العابرة للقارّات أيضًا تأثير كبير على البيئة، وغالبًا ما تتسبّب في عواقب مدمّرة على النظم البيئيّة والمجتمعات المحلّيّة، وكثيرًا ما تنخرط هذه الشركات، المدفوعة بدوافع الربح، في ممارسات ضارّة بالبيئة مثل إزالة الغابات، والتلوّث، والإفراط في استخراج الموارد الطبيعيّة.
ومن الأمثلة على ذلك صناعة زيت النخيل، حيث تتورّط العديد من الشركات المتعدّدة الجنسيّات، وفقًا لدراسة أجراها اتّحاد العلماء، أدّى إنتاج زيت النخيل، مدفوعًا بالطلب العالميّ والشركات المتعدّدة الجنسيّات، إلى إزالة الغابات على نطاق واسع في دول مثل إندونيسيا وماليزيا، ولا تؤدّي إزالة الغابات إلى تدمير الموائل الحيويّة للأنواع المهدّدة بالانقراض فحسب، بل تساهم أيضًا في تلوّث الهواء والماء، ممّا يؤثّر على صحّة المجتمعات المحلّيّة وسبل عيشها، وعلاوة على ذلك، يسلّط تقرير صادر عن منظّمة جلوبال ويتنس الضوء على الدور الّذي تلعبه الشركات العابرة للقارّات في تجارة الأخشاب غير المشروعة، والّتي تساهم في إزالة الغابات في دول مثل كمبوديا وبابوا غينيا الجديدة، وكثيرًا ما يؤدّي التدهور البيئيّ الناجم عن هذه الأنشطة إلى تعطيل التوازن الدقيق للنظم الإيكولوجيّة المحلّيّة، ممّا يؤدّي إلى فقدان التنوّع البيولوجيّ وزيادة تعرّض المجتمعات المجاورة للكوارث الطبيعيّة.
ويمكن للشركات العابرة للقارّات أن تؤدّي إلى تفاقم عدم المساواة الاقتصاديّة داخل المجتمعات المحلّيّة، وفي حين أنّها تعدّ في كثير من الأحيان بالنموّ الاقتصاديّ وخلق فرص العمل كحوافز للبلدان المضيفة، فإنّ الواقع قد يكون مختلفًا تمامًا، حيث وجدت دراسة أجراها صندوق النقد الدوليّ (IMF) أنّه في بعض الحالات، يمكن أن يؤدّي وجود الشركات المتعدّدة الجنسيّات إلى زيادة عدم المساواة في الدخل داخل البلدان، وأحد أسباب هذا التفاوت هو التأثير المحدود للاستثمارات المتعدّدة الجنسيّات، إذ عادة، تعود الوظائف والأرباح الأعلى أجرًا الّتي تولّدها هذه الشركات بالنفع على نخبة صغيرة، في حين تظلّ غالبيّة السكّان في وظائف منخفضة الأجر وغير مستقرّة غالبًا، وهذا التوزيع غير العادل للثروة يمكن أن يؤدّي إلى توتّرات اجتماعيّة ويعيق تنمية المجتمعات المحلّيّة على المدى الطويل.
بالإضافة إلى ذلك، فإنّ قدرة الشركات العابرة للقارّات على استغلال الثغرات الضريبيّة والانخراط في ممارسات التهرّب الضريبيّ تزيد من حرمان البلدان المضيفة من الإيرادات الّتي تحتاجها بشدّة، فوفقًا لتقرير صادر عن منظّمة أوكسفام، اعتبارًا من عام 2020، تشير التقديرات إلى أنّ الشركات متعدّدة الجنسيّات تكلّف البلدان النامية أكثر من 100 مليار دولار سنويًّا من عائدات الضرائب المفقودة، ويمثّل هذا الرقم قدرًا كبيرًا من الموارد الّتي كان من الممكن استثمارها في التعليم والرعاية الصحّيّة والبنية التحتيّة، ممّا يعود بالنفع على المجتمعات المحلّيّة في نهاية المطاف.
يمتدّ تأثير هذه الشركات إلى ما هو أبعد من المجال الاقتصاديّ، ممّا يؤثّر على النسيج الثقافيّ للمجتمعات المحلّيّة، حيث غالبًا ما تعمل الشركات المتعدّدة الجنسيّات على الترويج لثقافة استهلاكيّة معولمة تعطي الأولويّة للمثل والقيم الغربيّة، ويمكن أن يؤدّي هذا التجانس الثقافيّ إلى تآكل التقاليد واللغات والعادات المحلّيّة.
وبحثت دراسة أجرتها جامعة كاليفورنيا، بيركلي، في تأثير سلاسل الوجبات السريعة مثل ماكدونالدز على الأنظمة الغذائيّة المحلّيّة في مختلف البلدان، ووجدت الدراسة أنّ وجود هذه الشركات العملاقة يمكن أن يؤدّي إلى تحوّل في التفضيلات الغذائيّة نحو الأطعمة المصنّعة وغير الصحّيّة، ممّا يساهم في ارتفاع معدّلات الأمراض المرتبطة بالنظام الغذائيّ مثل السمنة والسكّريّ، ولا يؤثّر هذا التحوّل الثقافيّ على الصحّة العامّة فحسب، بل يقوّض أيضًا تنوّع المأكولات المحلّيّة والتقاليد الغذائيّة.
ويسلّط تقرير صادر عن معهد أوكلاند الضوء على حالة نزوح الأراضي في إثيوبيا، حيث استحوذت الشركات المتعدّدة الجنسيّات على مساحات كبيرة من الأراضي لأغراض الزراعة الصناعيّة، وأدّى ذلك إلى نزوح مجتمعات السكّان الأصليّين الّذين كانوا يعتمدون على الأرض لأجيال عديدة، ولا يؤدّي هذا النزوح إلى تعطيل النسيج الاجتماعيّ لهذه المجتمعات فحسب، بل يؤدّي أيضًا إلى فقدان سبل العيش والوصول إلى الموارد.
المصدر: عرب 48