100 عام من البحث في فهم الحالة
مع دخولنا القرن الحادي والعشرين، كان هناك اعتراف متزايد بأنّ الصدمة لا تقتصر على المحاربين القدامى ولكنّها يمكن أن تؤثّر على أيّ شخص شهد أحداثًا مؤلمة، حيث ظهرت الرعاية المستنيرة للصدمات كنهج شموليّ يأخذ في الاعتبار تأثير الصدمة على الأفراد
على مدار القرن الماضي، تطوّرت معرفتنا بالصدمات النفسيّة وعلاجها بشكل كبير، وذلك بفضل الأبحاث الرائدة، حيث يعكس تاريخ الصدمات وعلاجها على مدى القرن الماضي رحلة طويلة من الاكتشاف والتقدّم؛ من التعرّف المبكّر على الصدمة العصبيّة إلى فهمنا المعاصر للصدمات المعقّدة والبيولوجيا العصبيّة، حيث قطع الباحثون شوطًا طويلًا، وكان البحث العلميّ بمثابة الضوء الذي ينير الطريق للتدخّلات الفعّالة.
وكانت السنوات الأولى من القرن العشرين بمثابة نقطة تحوّل مهمّة في فهم الصدمات وعلاجها، وخلال الحرب العالميّة الأولى، بدأ المجتمع الطبّيّ في إدراك التأثير النفسيّ العميق للحرب على الجنود، وتتميّز “صدمة القذيفة”، كما كانت تسمّى آنذاك، بأعراض مثل القلق ونوبات الهلع والرعشة، وكان يعتقد في البداية أنّها حالة جسديّة بحتة ناجمة عن موجات الصدمة الناتجة عن الانفجارات.
وفي خضمّ هذه الأزمة، قدّم المحلّل النفسيّ الرائد سيغموند فرويد مساهمات كبيرة في فهمنا للصدمة، حيث قدّم عمله على “العلاج بالكلام” وفكرة التنفيس الأساس لتطوير العلاج النفسيّ كعلاج للصدمات، ويعتقد فرويد أنّه من خلال الحديث عن تجاربهم المؤلمة، يمكن للأفراد إطلاق سراح المشاعر المكبوتة والعثور على الراحة من ضائقتهم النفسيّة.
وبعد الحرب العالميّة الثانية، تحوّل التركيز على الصدمات من “صدمة القذائف” إلى فهم أوسع لاضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، حيث بدأ باحثون مثل جون موني وأبرام كاردينر في دراسة التأثير النفسيّ للصدمة على المحاربين القدامى، والناجين من المحرقة، وضحايا الأحداث الكارثيّة الأخرى.
وفي عام 1952، أدرجت الجمعيّة الأمريكيّة للطبّ النفسيّ “ردّ فعل الإجهاد الإجماليّ” في طبعتها الأولى من الدليل التشخيصيّ والإحصائيّ (DSM)، والّذي وضع الأساس للاعتراف النهائيّ باضطراب ما بعد الصدمة كتشخيص، وكان هذا بمثابة علامة فارقة في الاعتراف الرسميّ بالصدمة باعتبارها مشكلة تتعلّق بالصحّة العقليّة، كما شهدت فترة الخمسينيّات والستّينيّات من القرن الماضي طفرة في الأبحاث حول الآثار النفسيّة للصدمة، حيث أجرى باحثون مثل ويليام مينينجر وبرونو بيتلهايم دراسات مكثّفة على الناجين من معسكرات الاعتقال النازيّة، وسلّطوا الضوء على العواقب النفسيّة طويلة المدى للصدمات الشديدة، ولعب هذا البحث دورًا حاسمًا في تشكيل فهمنا لاضطراب ما بعد الصدمة.
وتحسّن اضطراب ما بعد الصدمة كتشخيص سريريّ، وتطوّر بمعايير منظّمة لتشخيصه، حيث شهدت هذه الفترة تركيزًا متزايدًا على الصدمات خارج سياق الحرب، حيث أدرك الأطبّاء والباحثون أنّ الصدمة يمكن أن تنجم عن تجارب حياتيّة مختلفة.
ولعبت حرب فيتنام دورًا محوريًّا في جلب اضطراب ما بعد الصدمة إلى واجهة الوعي العامّ، أجرى الباحث مثل روبرت جاي ليفتون دراسات على قدامى المحاربين في فيتنام، وسلّطوا الضوء على التأثير العميق والدائم للصدمات المرتبطة بالحرب على الأفراد.
وخلال هذه الفترة، بدأت خيارات علاج الصدمات في التنوّع. ظهر العلاج السلوكيّ المعرفيّ (CBT)، بقيادة باحثين مثل دونالد ميشينباوم وآرون تي بيك، كنهج واعد لمساعدة الأفراد الّذين يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة، ويركّز العلاج السلوكيّ المعرفيّ على تحديد وتغيير أنماط التفكير والسلوكيّات السلبيّة المرتبطة بالصدمة.
وكشفت الدراسات الّتي أجراها جوزيف ليدوكس وآخرون عن الدور الحاسم الّذي تلعبه اللوزة الدماغيّة والحصين في معالجة وتخزين الذكريات المؤلمة، حيث عمقت هذه النتائج فهمنا لكيفيّة تأثير الصدمة على المراكز العاطفيّة والذاكرة في الدماغ، كما اكتشف باحثون مثل بيسل فان دير كولك ظاهرة الانفصال، حيث قد ينفصل الأفراد نفسيًّا عن الحدث الصادم. إنّ فهم الآليّات العصبيّة الحيويّة وراء الانفصال مهّد الطريق لتدخّلات علاجيّة أكثر استهدافًا.
ومع دخولنا القرن الحادي والعشرين، كان هناك اعتراف متزايد بأنّ الصدمة لا تقتصر على المحاربين القدامى ولكنّها يمكن أن تؤثّر على أيّ شخص شهد أحداثًا مؤلمة، حيث ظهرت الرعاية المستنيرة للصدمات كنهج شموليّ يأخذ في الاعتبار تأثير الصدمة على الأفراد والمجتمعات.
وأظهرت دراسة ACE، بقيادة فنسنت ج. فيليتي وروبرت ف. أندا، الآثار العميقة والطويلة الأمد لصدمات الطفولة على الصحّة البدنيّة والعقليّة، حيث سلّط هذا البحث الضوء على الحاجة إلى التدخّل المبكّر والدعم لأولئك الّذين عانوا من الشدائد في سنوات تكوينهم، وفي القرن الحادي والعشرين، اكتسبت العلاجات الّتي تركّز على الصدمات مثل إزالة حساسيّة حركة العين وإعادة المعالجة (EMDR) والعلاج النفسيّ الحسّيّ الحركيّ شعبيّة، إذ تهدف هذه العلاجات إلى معالجة الصدمات على مستويات متعدّدة، بما في ذلك المعرفيّة والعاطفيّة والفسيولوجيّة، وتسهيل الشفاء والمرونة.
وإدراكًا للأبعاد الثقافيّة للصدمات النفسيّة، يؤكّد الأطبّاء والباحثون بشكل متزايد على رعاية الصدمات ذات الكفاءة الثقافيّة، حيث يعترف هذا النهج بأنّ تجارب الصدمة وعمليّات الشفاء يمكن أن تختلف باختلاف الخلفيّات الثقافيّة.
المصدر: عرب 48