أتوا بعرّافةٍ لتقرأ مستقبل غزّة
يا ربّ، ها قد أرسلنا لك ’أحبابك‘
اعذرنا، لم يكن لدينا الوقت ولا المعرفة
لنضع كلّ ’شلوٍ‘ للجسد الّذي يتبع له
حين تصلك أشلاؤهم
لملمها بمعرفتك
*
عندما تنتهي الحرب
لن أبحث عن قبر حبيبتي
ولن أكتب شعرًا فيها
سأدّعي أنّني تركتها لأنّها لم تعجبني
سأنتقد تسريحة شعرها
وطريقتها في الكلام
وذبول عينيها حين تقول: أحبّك
سأقول إنّني لأجل هذا تركتها
فهاجرت إلى بلادٍ بعيدةٍ
وحين يسألني فضوليٌّ عن الكلام المكتوب على قبرها
سأقول: مجرّد تشابهٍ في الاسم والعمر لا أكثر
وسأهرب قبل أن يسألني
ماذا تفعل هنا إذن؟
*
حاول، إن كنت شاعرًا
أن تضع أسطوانة الغاز في قصيدةٍ
وحاول إن كنت شاعرًا أكثر
أن تجعلها تشتعل
لتغلي كأسًا واحدةً من الحليب
بحجم نصف زجاجة كوكا كولا
وحاول
أن تجعل أطفال غزّة يصدّقون
أنّ هذا العالم فيه أشياءُ أخرى
غير الموت، والبرد، والجوع
ونقص كلّ شيء
*
دعك منهم
أولئك الّذين يقشّرون الرمل عن أوطانهم
يزرعون أشجار الزينة في الحدائق العامّة
كي يغطّوا مشاهد حيطان البيوت الذابلة
دعك منهم واتبعني
فما زالت هناك بقعةٌ نقيّةٌ لم يلمسوها
وهي كلّ ما تبقّى
في هذا الخراب
*
حين يغادر الجنود المكان
لا تكترثي بكلّ تلك الأشجار المحروقة
ولا بكلّ تلك الأعمار المحروقة
أو بتلك الأماني المحروقة
بل اتّكئي على كتفي
وحاولي بقدمك الوحيدة
أن تسيري الخطوات العشرين
الّتي تفصل البيت
عن بائع الحلوى
*
إنّهم موجوعون
يخدشون حوافّ رغيفهم
بإبرة صمتٍ
كي يخدعوا أطفالهم
أعنابٌ ونخيلٌ في الذاكرة
[لكنّ الذاكرة لا تُشْبِعُ جائعًا يا أبي]كلّ هذا البحر، وكلّ هذا الاختصار
لا نريدنا موجَزين، ملخّصين كسطرٍ في التاريخ
نريدنا بحرّيّة العاصفة
بمجد القوارب الّتي علّقت تمائمها بأطراف الشِّباك
لا أحد يلوم الموت حين يأتي متمهّلًا
يقيس أعمارنا بتأنٍّ خجولٍ
لكنّه الآن عشوائيٌّ تمامًا
لا فرصةَ لبيت عزاءٍ فرديّ
لا نائحاتٍ يعرفن الأغاني الحزينة كلّها
إنّنا نقيم المدينة على المآقي
نرتّلها ونحمّمها بأكفٍّ من حنين
افتحوا بوّابات النار إذن
إمّا لنخرج
أو لنحترق
*
الأرض تهرب مِنْ تحت أقدامنا، الأولاد المراهقون صاروا مقاتلين، وما زلنا نخضّ ماء الكلام كأنّه يُقال للمرّة الأولى… لم ننتصر بعد يا حبيبي كي نرى، كلّ مَنْ لم ينتصر سيحدّد أعداؤه رؤاه، ولو ظنّ أنّ هذا المشهد صنيعة عينيه، وكي تنتصر عليك أن تكون – على الأقلّ – مؤمنًا بأنّ ما هو لك هو لك، لا يُقسّم ولا يُجتزأ، ولا يُساوَمُ عليه، فارقٌ كبيرٌ بين رؤيةٍ لا تمكّنك الظروف من تحقيقها، ورؤيةٍ تتنازل فيها عن كتفيك، فكيف ستحمل بلادًا بلا كتفين؟ وماذا ستقول حين تسألك الجبال والبحار عن عَرَقِ أجدادك الّذي جَفَّفْتَه وأنت تجلس مطمئنًّا؟ مَنْ يريد الانتصار لا يطمئنّ، الاطمئنان نقيض المعركة، عليك أن تكون أكثر قلقًا كي تكون، المطمئنّ لا يكون، ولن يكون… فلم أرَ مِنْ قبلُ ثائرًا مطمئنًّا.
*
تلك البيوت الّتي هدموها
لم تكن مئةً
كلّ ما في الأمر
أنّني وقتها كنت في الخامسة
وهذا ما كنت أستطيع عدّه
*
قبل آلاف السنوات، أتوا بعرّافةٍ مئويّةٍ، لتقرأ لغزّة مستقبل رملها، وتعطيها أمنيةً لتصبح مدينةً مثل باقي المدن، ولأنّ غزّة وُلِدَتْ فقيرةً، فلم تهتمّ العرّافة بها كثيرًا، فلم تلبس ثوبها الّذي تلبسه عادةً في ولادة المدن الفخمة والكبيرة، وجهّزت أدعيتها ورقيّاتها، لكنّ أمرًا غير متوقّع حدث فيما العرّافة تنحني على وجه الطفلة غزّة لتقبّلها، حرّكتْ غزّة يدها فجأةً بعنف، فقلعتْ عين العرّافة.
شاعر فلسطينيّ وكاتب للأطفال يقيم برام الله. يعمل محرّرًا للشأن الثقافيّ في وكالة “وفا”. له تسعة إصدارات شعريّة، وعشرون إصدارًا في أدب الأطفال، وأعدّ مجموعة من المسرحيّات، كما كتب أكثر من 100 أغنية لحّنها أهمّ الملحّنين الفلسطينيّين. تُرْجِمَتْ أعماله إلى لغات عالميّة عديدة.
المصدر: عرب 48