حصار بلا غلاف
الحصار ليس فكرة مجرّدة
ليس الحصار فكرة مجرّدة، إنّه فيزياء؛ جغرافيا وديموغرافيا واقتصاد وأجهزة إداريّة وعسكريّة تشرف عليه وتثبّته، مجتمع له نظام ونَسَق. المنطقة المسمّاة إسرائيليًّا «غلاف غزّة»، كانت تمثّل البنية التحتيّة المباشرة للحصار المفروض على القطاع منذ 16 عامًا. أقول كانت، لأنّها وفق محلّلين عديدين، ومن ضمنهم إسرائيليّون، ربّما تكون انتهت تمامًا، أو شبه انتهت، أو لن تعود أبدًا إلى ما كانت عليه مبنًى سوسيولوجيًّا محدّد الوظيفة؛ أن تكون، بكلّ ما فيها، عازلًا وتدير حصارًا، كما تعيق إقامة دولة فلسطينيّة ضمن خطوط هدنة 1949، الّتي باتت معروفةً في المعجم الدوليّ الرسميّ بأنّها حدود السابع من حزيران 1967.
إنّ استهداف منطقة «غلاف غزّة» في العمليّة العسكريّة الّتي أطلقتها فصائل مقاومة غزّة يوم 07 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023، والّتي اقتحم خلالها قرابة 1200 مقاتل غزّيّ المنطقة، وسيطروا – وإن لساعات أو لأيّام – على عشرات المواقع فيها، يقع ضمن هذا المنظور، الغزّيّ على الأقلّ؛ منظور ضحايا حصار القطاع المباشرين، بصفتها البنية التحتيّة المباشرة له والمركزيّة في صناعته.
الحصار بصفته سياسات عزل وإقصاء وتحديد وتضييق، إجراء عسكريّ معمول به منذ إعلان الحركة الصهيونيّة لدولتها، إسرائيل، إن كان على القطاع أو غيره من معازل أبرتهايديّة في عموم الجغرافيا الفلسطينيّة. ألم تكن ’الجيتوهات‘ الّتي حُبِسَ فيها الفلسطينيّون الباقون في المدن بعد النكبة 1947-1949، وكذلك الحكم العسكريّ الّذي فُرِضَ على عموم فلسطينيّي أراضي 48 المُجَنَّسين إسرائيليًّا حتّى عام 1968، تنويعات مختلفة من الحصار/ السجن، مستمرّة المفاعيل والأثر؟ إن لم يكن كذلك، فما هو الحصار إذن؟ وما هو مثلًا حشر قرابة 3.3 مليون فلسطينيّ داخل جدار في الضفّة الغربيّة، بل في بقع مقطّعة ومشرذمة منها، ضمن نظام سيطرة محكم البنية العسكريّة والرقابيّة، يشتمل على شبكة كثيفة من الحواجز والطرق الالتفافيّة والمستوطنات والمنشآت العسكريّة؟ أليس حصارًا؟
إنّ الحصار حالة فلسطينيّة جمعيّة التجربة والإدراك، مألوفة وذات ديمومة في ظلّ الاستعمار الإسرائيليّ، ومن قبله البريطانيّ، كما أنّ مقاومة هذه الحالة أمر جمعيّ التجربة والإدراك، مألوف وذو ديمومة.
يكتب محمود درويش في «مجلّة الكرمل» وصفه لحصار بيروت الثمانينات، ما بين 14 حزيران (يونيو) حتّى 21 آب (أغسطس) 1982، والّذي انتهى بنفي «منظّمة التحرير الفلسطينيّة» إلى أصقاع مختلفة مِنَ العالَم، دون أن تنتهي قدرتها على العمل السياسيّ والعسكريّ: “استطعنا، واستطاع أطفالنا [يقصد مقاتلي المقاومة] أن يتّخذوا آلة السلاح الحديث، أو الأحداث، الّتي يدّثّر بها الفكر الميّت، وأن يوجعوا، حتّى البكاء، جنرالات الظلام البشريّ – أو الحيوانيّ – في أطول حصار عرفه تاريخنا المعاصر، حتّى نقلوا وعي الحرّيّة الفلسطينيّة إلى داخل البيت الإسرائيليّ – بيتنا سابقًا – وإلى داخل الفكر الصهيونيّ الّذي اضطرّ للانقسام على نفسه بين: وعي زائف ووعي شقيّ. فهل كنّا نعلم أنّ أحدًا لن يتحرّك، ليس من أجل تحسين شروط الصمود، بل من أجل إقناع واشنطن بتوسّل تل أبيب أن تفرج، لمدّة ساعة واحدة في الأسبوع، عن مياه بيروت المعتقلة؟ وهل كنّا نفتقر إلى حاسّة انتباه أكثر يقظة لما استطاع النظام العربيّ الواحد… نعم الواحد، أن يحدثه من دون شرخ بين الناس وبين توثّبهم إلى حرّيّتهم الّتي صار دمنا أحد معاييرها؟”.
أمّا في حالة قطاع غزّة، فإنّ مكانة وجدانيّة جمعيّة خاصّة تشكّلت تجاه حالتها الحصاريّة، جعلت منها تكثيفًا شديدًا لفلسطين وناسها، حيث مع الحصار ثمّة اللجوء، والدمار، والإبادة، والتهجير، والفقر، والحرمان، والتكالب الغربيّ، والتآمر الرسميّ الفلسطينيّ والعربيّ، والاستخدام الإقليميّ… ومع ذلك ثمّة شيء أطلقت عليه البشريّة لفظ ’المعجزة‘، متى يعجز العقل المصنوع والمُدَرَّب معرفيًّا على تفسيره بأدواته الإدراكيّة المتاحة. إنّها معجزة في الصمود والنهوض والرفض والمقاومة سعيًا للخلاص، وكذلك في الإبداع على كلّ صعيد. لا ينقطع القطاع عن كشف تجارب إبداعيّة في الأدب والفنون التشكيليّة والسينما والتنظيم الثقافيّ وغيرها، ذات خصوصيّة لافتة ومثيرة، رغم ظروف الحرمان والعوز، حيث القلّة تفجّر كثرة يصعب شرحها. هل هو الردّ على المحو بكثافة البقاء؟
بنية الحصار التحتيّة
سكن «غلاف غزّة» حتّى تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023، قرابة 70 ألف يهوديّ إسرائيليّ على الأقلّ، موزّعين على 58 مستوطنة وفق سجلّات الضرائب الإسرائيليّة، علمًا أنّ النظام الإسرائيليّ لا يحدّد على نحو واضح ما المقصود رسميًّا بهذه المنطقة، أي في وثائق الدولة وقوانينها وقراراتها؛ فمكانتها الرسميّة واسمها بدآ بالتبلور عبر قوانين وإجراءات حكوميّة خلال عامي 2006-2007، وتحديدًا من خلال وزارة الماليّة الإسرائيليّة، أي مع سيطرة «حركة المقاومة الإسلاميّة – حَماس» على القطاع وفرض الحصار عليه إسرائيليًّا/ غربيًّا/ عربيًّا.
بناءً على ذلك، فإنّ مساحة هذه المنطقة، وديموغرافيّتها، وعدد التجمّعات الاستيطانيّة فيها غير ثابت، يتغيّر بالأساس وفق تغيّر المدى الّذي يمكن لقذائف وصواريخ فصائل المقاومة أن تبلغه. هذا اللّاوضوح واللّاثبات، وفحصًا لتصريحات وزاريّة حول مضاعفة عدد سكّان «غلاف غزّة»، دعا موقع «جلوبس» الاقتصاديّ الإسرائيليّ مثلًا، إلى نشر تحرٍّ حول معنى هذه المنطقة في الوثائق الرسميّة، وتحديدًا تلك الاقتصاديّة، ليذهب إلى أنّ المستوطنات الّتي تضمّها هذه المنطقة بمعناها الواسع، قد يبلغ عددها 82، يسكنها ما يزيد عن 120 ألفًا.
يظهر من السياسات الاستيطانيّة والعسكريّة الاستعماريّة المتراكمة، أنّ النظام الإسرائيليّ عمل منذ انسحابه من القطاع عام 2005، وتفكيك مستوطناته في المنطقة الّتي أسماها «غوش قطيف»، تطبيقًا «لقانون فكّ الارتباط»، وتحت وطأة المقاومة، عمل على استخدام الديموغرافيا اليهوديّة في «غلاف غزّة» وظيفيًّا، من أجل صناعة الحصار وتثبيته وإدارته، والحيلولة دون اتّصال جغرافيّ من نوع ما، يمكّن من إقامة دولة فلسطينيّة ضمن خطوط هدنة عام 1949، أو المناطق المحتلّة عام 1967، حيث تعيق منطقة «غلاف غزّة» إمكانيّة وَصْل القطاع مع جنوب الضفّة الغربيّة.
هذا يوضح كيف أنّ إسرائيل تستخدم مواطنيها، مدنيّيهم وعسكريّيهم، الفاعلين منهم أو الكامنين انتظارًا لاستدعائهم في حالات الحرب كما هو الحاصل الآن، حيث يشارك في حربها المعلنة على قطاع غزّة تحت اسم «سيوف حديديّة» ما يزيد عن 536 ألف جنديّ، لتُهَنْدِسَ الأبرتهايد ديموغرافيًّا وجغرافيًّا، وتضمن ديمومته، حيث السيادة فيه للجماعة اليهوديّة، والهامشيّة للجماعة الفلسطينيّة الّتي تُمَوْضِعُها في مكانة خادم السيّد.
يُرَجَّح أنّ العمليّة العسكريّة المسمّاة «طوفان الأقصى» غزّيًّا، ستؤدّي إلى إنهاء الاستيطان اليهوديّ في منطقة «غلاف غزّة»، أو على الأقلّ الإضرار به على نحو كبير، ما يعني توجيه ضربة موجعة لبنية الحصار التحتيّة. هذا إن حدث، قد يعني توسعة قدرة فصائل المقاومة على العمل في الجغرافيا المتاخمة للقطاع، حيث القدرة على مراقبتها ستغدو أقلّ إلى حين ترميم إسرائيل لوجودها فيها، وهذا سيستغرق زمنًا طويلًا على ما يبدو وفق محلّلين، ولا سيّما أنّ كثيرًا مِنْ مستوطني المنطقة يصرّحون عبر وسائل الإعلام، أو في لقاءات تُنَظَّم معهم، إلى أنّهم لن يعودوا ثانيةً إليها، ويشترطون لذلك “إنهاء حماس” أو “تسطيح غزّة”، وهي مهمّة عسيرة جدًّا في ضوء المعطيات الراهنة، وقياسًا على ما كان من حروب ومعارك سابقة بين فصائل مقاومة غزّة وإسرائيل.
وفقًا لهذا السيناريو، الّذي يعني اتّساع جغرافيا فصائل المقاومة وضيق جغرافيا النظام الاستعماريّ، يذهب كثيرون من صنّاع الخطاب الفلسطينيّ ومناصريهم إلى أنّ ما حصل “تحرير” لأراضٍ فلسطينيّة سيطرت عليها الميليشيات الصهيونيّة خلال النكبة، أو على الأقلّ محاولة “تحرير” لا يُعْرَف القادم بعدها.
توصف منطقة «غلاف غزّة» بأنّها “حظيرة الخضار الإسرائيليّة”، فهي توفّر قرابة 75% من الخضراوات المُسْتَهْلَكَة في فلسطين، من قبل العرب واليهود، والمصدّرة، وكذلك 20% من الفواكه، و6.5% من الحليب، وغير ذلك من الموارد الزراعيّة والحيوانيّة. فقط زراعة الأفوكادو تقع على قرابة 15 ألف دونم من أراضي المنطقة. مع إخلاء هذه المنطقة، وتعرّض ديموغرافيّتها التشغيليّة وعمّالها وبنيتها التحتيّة إلى ضربة خلال عمليّة «طوفان الأقصى»، فإنّ القطاع الزراعيّ سيواجه أزمة كبيرة، تؤدّي إلى رفع الأسعار والإثقال على مجمل الديموغرافيا في فلسطين، وربّما التسبّب بتهديد للأمن الغذائيّ الإسرائيليّ إن طال أمد الحرب كما تشير تصريحات مجلس الحرب الإسرائيليّ (الكابينت).
خوف واشنطن على مشروعها
يمكن لهذه القراءة أن تساهم في تفسير حجم الخطر الكبير، حدّ الهلع، الّذي استشعرته الولايات المتّحدة الأمريكيّة على مشروعها الاستعماريّ النفوذيّ الأهمّ في العالَم، إسرائيل، وقد صرفت عليه منذ عام 1948 حتّى الآن، وفق تقارير، قرابة 160 مليار دولار من الاستثمار في الجوانب العسكريّة وحدها )تبلغ 260 مليار دولار مع احتساب معدّل التضخّم وفق بيانات أبحاث الكونغرس)، وقد بلغ الاستثمار العسكريّ للولايات المتّحدة في إسرائيل عام 2021، نسبة 59% من مجمل برنامجها للتمويل العسكريّ الخارجيّ الأمريكيّ، بينما ذهبت نسبة 41% منه إلى باقي دول العالَم. هذا غير الاستثمار اللّاعسكريّ الحكوميّ، وأيضًا اللّاحكوميّ، وفوقه استثمارات غربيّة ضخمة أخرى.
لقد استدعى هذا الخطر، مثلًا، تحريك واشنطن إلى شرق المتوسّط حاملتي طائرات، «جيرالد فورد» و«آيزنهاور»، اللّتين تضمّان معًا مئات الطائرات وآلاف الجنود والطيّارين وأنظمة تكنولوجيّة هائلة التدمير، وكذلك تحريك الحكومة البريطانيّة سفينتين حربيّتين، وغير ذلك من إجراءات عسكريّة لدول مختلفة، ترقى إلى مستوى الاستعداد لحروب كبرى.
ليس الأمر محصورًا في قطاع غزّة الصغير بالتأكيد، ولا بالفلسطينيّين، وإن كان كلّ هذا السلاح الإمبراطوريّ يُجَرَّب عليهم، على أجسادهم، على حساب أن يكونوا أحرارًا ومستقلّين في وطنهم.
خلال أيّام، سيزور الرئيس الأمريكيّ، جو بايدن، فلسطين المستعمَرة، متفقّدًا النظام الّذي يموّل جيشه من مال مواطنيه، قلقًا على مصيره، باحثًا، ربّما، عن سبب للخلل الّذي أنتج صدمة يوم السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر)، بينما عيناه تنظران نحو شرقٍ فيه إيران، ومعها الصين وروسيا.
المصدر: عرب 48