شرق أوسط جديد!
لا أحد يملك اليقين إزاء ما هو قادم، خلال وبعد حرب الإبادة الجارية في قطاع غزّة وكيف يمكن أن تنتهي، كما يؤكّد غالبيّة المحلّلين والخبراء، ولكنّ إسرائيل والتحالف الإمبرياليّ-الغربيّ الّذي اصطفّ وراءها بصورة عمياء وبطريقة غير مسبوقة، يعدون أنفسهم، وبطريقة بلهاء، بشرق أوسط جديد. والمقدّمة طبعًا لهذا الجديد الموعود، الّذي يبشّر به الصهيوني بايدن وبنيامين نتانياهو، هي المذبحة الكبرى الرهيبة الّتي تنفذ بحقّ بؤساء مدن ومخيّمات غزّة على مدار الساعة. إذا نفّذت إسرائيل وهذا التحالف الدوليّ، عن سبق إصرار، وبدون مواربة أو خجل، أو ذرّة ضمير، هذه المذبحة البشريّة، وفق تصوّر قادم، بحيث بتنا أمام نظام عالميّ يديرونه برابرة ومجرمو حرب، يذكّر الناس بالحقب المظلمة من الإنسانيّة.
لا أحد يعرف ماذا يقصدون بشرق أوسط جديد، وما هي حدوده، وطبيعته، ولمن يخطّط، وما إذا كان لاعبون أو وكلاء جدد، محلّيّون، أو عرب، أو دوليّون، قد هيّأوا لهذه “الجنّة” الموعودة الّتي ترسم الآن عبر طائراتهم وصواريخهم الّتي تفتك بالأطفال والرضّع بأعداد مهولة. هذا المصطلح، ” شرق أوسط جديد”، أو هذا المخطّط لشرق أوسط جديد، ليس جديدًا، فقد ظهر على لسان هؤلاء منذ الثمانينات، ولم نشهد من تطبيقاته إلّا غزو دول عربيّة وإسلاميّة، وتدميرها، وتخريب ثورات شعوبها، وتعزيز علاقات التبعيّة مع أنظمة عربيّة ودفعها إلى التطبيع مع نظام الأبرتهايد في فلسطين، وتوفير حماية لنظام الأبرتهايد وجرائمه الّتي لم تتوقّف منذ ٧٥ عامًا، والدوس على حقوق شعب يبذل الغالي والرخيص منذ أكثر من مائة عام من أجل استرداد هذه الحقوق. أمّا إسرائيليًّا، فقد فهمنا من تصريح شمعون بيرس، المتغطرس، في أثناء انعقاد المؤتمر الاقتصاديّ في دولة المغرب العربيّ عام ١٩٩٤، أنّه يتمثّل في رغبة إسرائيل بقيادة العالم العربيّ بعد أن فشل العرب في إدارة بلادهم حسب قوله. كان ذلك المـؤتمر من مشتقّات اتّفاقيّة أوسلو الكارثيّة الّتي منحت شرعيّة لنظام استعماريّ استيطانيّ، رفض وسعى لقتل كلّ حلّ لقضيّة فلسطين، حتّى هذا الاتّفاق الكارثيّ-الباتوستانيّ.
الأمر الوحيد الّذي أوضحوه، هدفهم الرئيسيّ المعلن، اجتثاث حركة حماس. وتحضيرًا لذلك تجري شيطنتها بصورة منهجيّة وربطها بحركة داعش مع أنّهم يدركون أنّ ذلك ليس صحيحًا. واجتثاث حركة حماس، وفق تصوّرهم، لا تتمّ إلّا من خلال عقيدتهم الكولونياليّة، أي إبادة البيئة الشعبيّة، إمّا من خلال القتل وتسوية البنايات السكنيّة والبنية التحتيّة، والمرافق الصحّيّة، بالأرض، أو من خلال طرد السكّان أو الاثنين معًا. وهذا ما يجري الآن. وكان مخطّطهم الأصليّ الأكثر جهنّميّة، نقل أو تهجير كلّ سكّان غزّة، مليونين ونصف، إلى شبه جزيرة سيناء، بحيث يعاد إسكانهم هناك، في إطار تصفية قضيّة فلسطين. ولكنّ مقاومة نظام عبد الفتّاح السيسي لهذا المخطّط لما يشكّله من خطر على استقرار نظامه حال دون ذلك، وهذا هو السبب الوحيد، وليس عطفًا أو تضامنًا مع مأساة شعب فلسطين أو مساندة لكفاحه الشرعيّ، الأسطوريّ، من أجل استرداد حقوقه المسلوبة. والسيسي أو نظامه لا يهمّه اجتثاث حركة حماس أو أيّ فصيل فلسطينيّ آخر، من قطاع غزّة، كما صرّح، فلم يعد لهذا النظام أو غالبيّة الأنظمة العربيّة أيّ صلة عروبيّة أو إنسانيّة بقضيّة فلسطين، سوى أنّها مشكلة مزعجة يبحثون عن علاج لها.
وفي خطّتهم هذه يستدعي أقطاب التحالف الإمبرياليّ جريمة الغزو الإسرائيليّ للبنان عام ١٩٨٢، وإجبار منظّمة التحرير الفلسطينيّة ومعها آلاف المقاتلين على الرحيل عن بيروت والتشتّت في منافي أخرى. وضمن هذا المخطّط، تستدعي إسرائيل اجتياحها لمناطق السلطة الفلسطينيّة عام 2002، بعد أن تمرّد الفلسطينيّون على إفرازات أوسلو، والتوسّع الاستيطانيّ الكثيف، وقمعها الوحشيّ للانتفاضة الثانية. كان ذلك الاجتثاث موجّهًا ضدّ حركة وطنيّة علمانيّة، وليس حركة دينيّة، هي منظّمة التحرير الفلسطينيّة، بقيادة حركة فتح ومعها فصائل يساريّة وقوميّة. وهي الحركة الّتي عقدت اتّفاقًا مع إسرائيل.
ولكن، رغم كلّ تلك الحروب الإسرائيليّة والاغتيالات والاعتقالات، والحصار، ظلّت القضيّة الفلسطينيّة حاضرة، والتعطّش للحرّيّة والتحرّر يتعاظم، وبعد كلّ منعطف نهضت أجيال جديدة تستأنف المسيرة التحرّريّة عبر رسم استراتيجيّات مبتكرة، واعتماد أشكال نضاليّة متنوّعة وخلّاقة. وهذا التحالف الإمبرياليّ الكولونياليّ لا يتعلّم من التاريخ، ولا يتخلّى عن فوقيّته وعنصريّته ضدّ الشعوب الأخرى، ولا يريد أن يهضم حقيقة قدرة كلّ شعب مظلوم على تجديد نهضته واستيلاد حركته المقاومة للظلم. وأحيانًا تكون القوى الجديدة أكثر شراسة وأكثر تجربة في المقاومة؛ فالهمجيّة الّتي تتجلّى الآن، وحجم الفقدان، والفظاعات الّتي ترتكب، ستولّد مزيدًا من الحقد والكراهية ضدّ إسرائيل وضدّ عالم أوغل في لا إنسانيّته وبربريّته.
حتّى لو تمكّن المستعمر من هزيمتها أو إخراجها من قطاع غزّة، فستظلّ قضيّة فلسطين حيّة، وسينهض جيل بعد جيل حاملًا للراية، معوّلين على قواهم الذاتيّة، وعلى الشعوب العربيّة الناهضة مجدّدًا، وعلى أحرار العالم الّذين يزدادون عددًا، في ضوء انهيار الأساطير والأكاذيب الصهيونيّة. فالنضال الفلسطينيّ، الّذي بدأ سلميًّا، والذي ووجه بالعنف وارتكاب المجازر والتشريد قبل أن يتطوّر هذا النضال إلى المقاومة العنيفة، بدأ منذ أوائل القرن الماضي، بدأ كنضال من أجل العدالة والحرّيّة.
المصدر: عرب 48