أنزح من القصف إلى مخيّم لاجئين
نساء فلسطينيّات نازحات إلى خان يونس نجاةً من القصف الإسرائيليّ، 20/10/2023 | محمّد الزعنون، Getty.
لم يَعُدْ في سماء غزّة متّسع لريشة طائر إلّا للنار والطائرات، تلك الّتي تفقأ الأحلام وتفجّرها، فتعلق في فم السماء؛ لتمطر بعدها أحلامًا تبني المدينة من جديد. هذا سرّ نهوضها الملحميّ؛ تلك الطائرات الّتي تتتبّع الشهداء حتّى يُدْفَنوا؛ لعلّها تعرف سرّ عودتنا من الأرض كالمستحيل.
ونحن ندفن الشهداء، لا نعرف مَنِ التالي، ولا حتّى الطائرة فوقنا، تلك الّتي وقودها الناس والحجارة.
هذا الموت خلّاق جدًّا، يكشف عورة العالم، ويجعل مِنْ تلك المجالس الدوليّة محض خدعة، ومِنَ اتّفاقيّاتهم مسرحيّة ساذجة، ومِنَ الليل مقصلةً كبيرةً تخلع الرؤوس، وتقطع أقدام الجميلات، تضع خاتمتها الدامية لرقصاتهنّ، وتزرع فينا الأسئلة: ما اسم الحال الّذي نحن عليه الآن؟ ما اسم هذا الّذي يقع بين الحياة والموت؟ فنحن لسنا أحياء، وفي الوقت ذاته، لمّا نمت بعد.
“لا تكتبوا وصاياكم”، هكذا علّقتْ صديقةٌ على قصيدةٍ لي عن الحرب… ربّما لا تعرف أنّ كلّ طفلٍ في هذه المدينة تولَد وصيّته قبله؛ كلّ ولادةٍ فيها فرصةٌ سانحةٌ للموت، خطوةٌ جادّةٌ نحو البلاد، كلّ البلاد… في الحرب، كلّ ولادةٍ تعني وطنًا كبيرًا، وهم يقتلون الرقصات أيضًا.
لم تَعُدْ لغتي في الحرب هي ذاتها الّتي كنت أستخدمها قبل ذلك؛ تعرّت مِنَ الرمز والمجاز والكنايات، وبتّ أضع المشهد مجرّدًا مِنْ أيّ شيء. لا حاجة للسرياليّة، هي هنا الآن. نحن التراجيديا ذاتها، نعيش تفاصيل الموت ولا نموت.
فلتنثروا قلبي للعصافير؛ ليبنوا منه أعشاشًا لأحلامٍ مهشّمةٍ تحت الركام، ولا توجزوا الكلام؛ فالمجاز في حضرة هذا الموت خيانة.
أسئلةٌ كثيرةٌ بدأت تنخر رأسي وقتما نزحت مِنْ بيتي نحو ’المنطقة الآمنة‘، الّتي اختلقها العدوّ في جنوب وادي غزّة… أن تكرّر الخطأ القديم في النزوح عن الأرض، مجبرًا تحت دموع الأمّهات والأطفال. “لا تقوليها يا أمّي، لا تقوليها”، قلت لنفسي حين قالت: “بْنِطْلَع وبعد كم من يوم حسب الوضع بنرجع”، وهو ما قاله الأجداد حين نزوحهم، لكنّهم لم يعودوا طيلة خمس وسبعين سنة.
نزحنا إلى النصيرات، وأيّ نزوح هذا؟ أن تنزح إلى مخيّم للّاجئين، كيف أصبح هذا المخيّم ’الطارئ‘ على الأرض الفلسطينيّة ملجأ لي؟
أنا اليوم في بيتي، بعد أن نجونا غير مرّة من موت محقّق في ’منطقة آمنة‘ يفتعلها القاتل. لقد عدنا، لذا صدّقوا أمّي حين تقول: “الرجعة قرّبت يا ولاد”.
*
أحلامنا بسيطة جدًّا
أريد أن تمشوا في جنازتي
أن تُلْقوا على وجهي الزهور
هذا لأنّني أريد وجهي
أريد وجهي
ولأنّني لا أحبّ الانتظار
أريد مِنْ غرفتي
الّتي اتّسعت لأحلامي الكبيرة
ألّا تخنقني
لا أريد انتظار الموت تحت
الركام
فإنّي – مرّةً أخرى – لا أحبّ
الانتظار
وقبل هذا الموت
أريد أن أكون إنسانًا لآخر مرّة
أن أرشف التوت
في ليلة الرقص الطويل
وأعبر نقيًّا
إليك يا الله
إليك يا الله
*
كنت سأضع لقمة العدس في فمي
حين اقترب صاروخٌ مِنْ حارتنا
مغلقًا نافذة الشمس بكومة تراب
ولأنّني شاعرٌ
كنت سأموت حتمًا
أبي يضمّ إخوتي وأمّي
بين ذراعيه
في زاوية
وأنا أقف تحت ألواح الزينكو
والشظايا
أرصد هذا المشهد
لأكتبه
هرولت نحو الشارع
طفلًا
حتّى وضع جارنا كفّ طفلةٍ على الرصيف قبالتي
فلم أُزِحْ وجهي
فعرفت أنّني كبرت
عدت إلى البيت
كان غبار الجريمة قد احتلّ كلّ شيء
وعلى طاولة الغداء
خمس صحون
وأربع ملاعق
ومِنْ فوقي سقفٌ مخزوق
لم أجد ملعقتي
*
وقلبي لَمْ يزلْ يحلم
أنّه سيزيح ستارته للشمس يومًا
ويعدّ فطوره مع القليل مِنَ
السكينة
أنْ يُخرج الماءَ من الصنوبر
ويغتسل
ويخرج للجامعة بعدها
يبحث عن ذاته
ويدور
كاتب من غزّة. محرّر ثقافيّ في «صحيفة اليمامة»، وعضو تحرير فريق «يراعات» (مؤسّسة تامر للتعليم المجتمعيّ). يدرس آداب اللغة الإنجليزيّة في «الجامعة الإسلاميّة» بغزّة.
المصدر: عرب 48