«الدارة» ومشروع الأزياء التقليدية
ومصدر غبطتي أن هذا المشروع يلفت انتباهنا جميعا إلى جزئية مهمة في سجلنا التاريخي والحضاري والثقافي، التي قلّما نلتفت إليها بفعل حركة الحياة اليومية، والتي فرضت علينا نمطاً من اللباس؛ هو في محصلته النهائية محاولة لمجاراة الواقع، سواء على سبيل المحاكاة والتقليد، أو على سبيل البحث عمّا يتواءم مع وظائفنا وضرورة مسايرة العالم أجمع بما يتوافق ومتغيراته الكثيرة، ليأتي هذا المشروع ويردنا إلى جذور مهمة، وذوق تراكم عبر السنين والحقب، وشكّل نمطاً من الأزياء البديعة، التي ذهبت أو كادت تنطوي في زحمة الحياة، إلا من ظهور متقطع في المناسبات التاريخية، والأيام التراثية، والاحتفالات والمعارض التي تقام لأجل هذا النوع من العرض، الذي غالباً ما ينتهي بانتهاء المناسبة، ولا يعود إلى الظهور إلا في المواسم والمناسبات الشبيهة، وهو أمر لا يتّسق مع جمال هذه الأزياء التي عرفتها المملكة في القديم، ولا يتناسب مع هذا الإرث التاريخي التالد، الذي يتوجّب علينا أن نجعله حاضراً في ذاكرة الأجيال، وفاعلاً ومتفاعلاً مع حركة حياتنا اليومية، بكل ما يملكه من مقومات جمالية، ومرونة في التعامل، ومواكبة الواقع.
متى ما أحسنا التعامل معه، وطوعناه بغير تحريف أو تشويه ليواكب حركة الحياة في حاضرنا، وهو عين ما نعوّل عليه من دارة الملك عبدالعزيز من خلال هذا المشروع الرائد.. والذي استهلته بالمنطقة الوسطى من خلال الإصدار الذي دشّنته، وبشّرت في ثنايا الاحتفال بتواصل المشروع في بقية مناطق المملكة، وهي بشرى خير، تدفعني إلى الإسهام في هذا المشروع الطموح بتقديم جملة من الاقتراحات؛ التي آمل أن تجد القبول والنظر من قبل الدارة.
أولاً: أن يكون التركيز في هذا المشروع على الأطفال والناشئة من الجنسين؛ بحيث نغرس فيهم الوعي بتراثهم والتأكيد على الالتزام في مظهرهم بمفردات تراثنا الوطني، بما يعصمهم من مزالق الذوبان في الحضارات الأخرى، بخاصة وأن كل المتاجر بلا استثناء تعرض أزياء الماركات العالمية، وبعضها يحمل عبارات ورسومات ذات مدلولات ثقافية غاية في التأثير على الأطفال والصبية والشباب من الجنسين.
ثانياً: أن يكون لهذا المشروع جانب عملي واقتصادي مربح، بإنشاء مراكز إنتاج وترويج للأزياء التقليدية السعودية، بما يتناسب مع كافة الأعمار والمستويات، وتكون حاضرة في سوق الأزياء، وهذا يتطلب التجويد في الصناعة، وملاءمة الأذواق، مع الأسعار التفضيلية، وتكثيف الجرعات الإعلامية والترويجية لضمان النجاح، فمن المؤسف حقاً أن تجد في أسواقنا متاجر متخصصة للأزياء التقليدية للجاليات الأجنبية التي تعيش بيننا، بينما لا تجد متاجر متخصصة لأزيائنا التقليدية، على تنوعها، حتى كاد يسود اعتقاد لدى الجميع مثلاً أن «العباءة السوداء» هي اللباس التقليدي الوحيد للمرأة السعودية، وهو خطأ تاريخي شائع بين الناس في حاضرنا، فهذه العباءة دخيلة علينا لا تمت لنا بصلة.
ثالثاً: تعد «الدارة» منهجاً دراسياً متكاملاً ومتدرجاً بالتعاون مع وزارة التعليم، لكل المراحل الدراسية، بحيث يكون حاضراً في مدارسنا، وبخاصة لدى قطاع الفتيات، بما يتيح لهن المعرفة الموثوقة بالأزياء التقليدية، ويتقن حياكتها، ويبدعن في تطويرها بغير تشويه أو مساس بأصول صنعتها.
رابعاً: تنظم دارة الملك عبدالعزيز مسابقات موسمية في فن الأزياء التقليدية وتمنح الفائزين فيها جوائز مميزة ومغرية بحيث تضمن انتشار هذه الثقافة في كافة قطاعات المجتمع، وبالصورة التي تجعل من الأزياء ثقافة مجتمع وليست قطاعات بعينها.
خامساً: استنفار كافة الباحثين والباحثات، واستنطاق كبار السن وكل من بقيت في ذاكرته صورة ولمحة من أزيائنا القديمة، وطرق حياكتها، ومناسبات استخدامها، وتضمين كل ذلك في مشاريع التوثيق المقبلة، على أن يسبق ذلك إعلان مكثف للمنطقة المراد التوثيق لها، وحشد الطاقات والجهود، وإشاعة جو من الاهتمام عبر قوافل تجوب القرى والمحافظات لضمان الوصول لأقصى درجات الموثوقية في هذا الجانب.
هذه بعض المقترحات التي أضعها بين يدي إدارة دارة الملك عبدالعزيز والقائمين على هذا المشروع الكبير والطموح، والذي برأيي يتفق مع مرامي ومستهدفات رؤية المملكة 2030، التي تسعى بجانب انطلاقتها المباركة نحو الآفاق البعيدة، أن تحافظ في المقابل على موروثنا الحاضري والثقافي، وتردنا إلى ماضينا الجميل، ولا شك أن الأزياء ومظهرنا العام جزء أصيل من هذا الماضي الذي نعتز به ونفاخر.
وبهذه المناسبة، فما زالت الذاكرة تستحضر جدتي (بهية رحمها الله) وهي بكامل لباسها الحجازي الجميل والذي يتكون من السديرية البيضاء مزينة بصف طويل من ازارير ذهبية تجمعها سلسلة في أعلى الرقبة تتدلى أطرافها إلى الأسفل بإغراء وعلى رأسها تضع المحرمة والمدورة في لفة جميلة تزينها دبابيس برأس لؤلؤي جميل مع فستان طويل موديل البرنسيسة صدره مفتوح ليظهر جمال السديرية وأزاريرها في صورة جميلة ولا أبهى.
الصور كثيرة وجميلة كلها بهاء وحسن وزينة.
والله أسأل التوفيق لـ«الدارة» في هذا المشروع المهم.