كيف تفرض إسرائيل روايتها بعربدة القانون؟
يتربّع كليشيه “التاريخ يكتبه المنتصرون” عرش أكثر الكليشيهات استعمالًا، لا سيّما في فترات الحروب، لكن هل هذا صحيح؟ أغلب الظنّ لا، فهناك الكثير ممّن هزموا أو لم ينتصروا على الأقلّ، وفرضوا روايتهم بالقوّة وعربدة السلطات الرسميّة، سواء من خلال سنّ قوانين صارمة أو تعليمات تصبح فيما بعد في نطاق المفهوم ضمنًا، ومن ضمن هذه الأمثلة إسرائيل الرسميّة في أكثر من محطّة عبر التاريخ، تارة من خلال فرض روايتها وأخرى من خلال من سرد أو تبنّي أيّ رواية أخرى.
ما الّذي يوحّد الشعوب؟ الأرض؟ اللغة؟ الجيوش؟ ربّما تساهم هذه العوامل في بناء الشعوب، لكنّ ركيزتها الأساسيّة هي الذاكرة المشتركة والرواية التاريخيّة، من يستطيع هزيمة رواية يرويها ملايين الأشخاص؟ لا أحد، لذلك من أجل أن تروّج إسرائيل روايتها تعمل على مستويين أساسيّين، فرض روايتها بالقوّة وعربدة القانون من جهة، ومنع نشر أيّ رواية من جهة أخرى. وهذه الحرب خير مثال على ذلك:
عرض مكتب الناطق بلسان الجيش شريطًا لأحداث السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر، وأسماه توثيق الفظائع، ومن ضمن المجموعات المخصّصة الّتي عرض أمامها الفيلم كانت مجموعة من أعضاء الكنيست، بعد أيّام من عرض الشريط قالت النائبة إيمان ياسين خطيب من القائمة العربيّة الموحّدة إنّه “بحسب الفيلم لم يكن هناك ذبح للأطفال ولا اغتصاب للنساء ولا قطع رؤوس، ما حدث فظيع، ولا أقلّل من فظاعته وأنا كامرأة مسلمة أقول إنّ ما حدث يتعارض مع قيم الإسلام وتعاليمه في وقت الحرب”، لتبدأ بعدها جوقة تحريض متعدّدة الجبهات من كلّ أطياف المجتمع الإسرائيليّ وسياسيّيه، ومن ضمنهم رئيس حزبها النائب منصور عبّاس، على الرغم من اعترافها بقسم كبير من الرواية الإسرائيليّة. وحتّى لا تتكرّر هذه الرواية، صرّح وزير القضاء ياريف ليفين وعضو حزب يسرائيل بيتينو عوديد فورير، كلّ على حدى، إنّهما ينويان تقديم مشروع قانون بموجبه يتمّ فرض عقوبة على كلّ من ينكر أحداث السابع من أكتوبر، أو يقلّل منها، قد تصل حدّ السجن، بمعنى آخر إمّا أن تكرّر ما تقوله إسرائيل الرسميّة وإمّا أن تعاقب.
ومن الجدير بالذكر أنّ النائبة عن الموحّدة لم تكن أوّل من قال هذه الرواية، إذ نقلت عدّة وسائل إعلام، منها I24 news و CNN خبرًا مفاده أنّه تمّ العثور على جثث مقطوعة الرأس، ليدحض الناطق بلسان الجيش الإسرائيليّ الخبر، ويقول إنّه لا تأكيد لديهم على حدوث مثل ذلك، لتعتذر مراسلة CNN لاحقًا عن النشر. وكذلك في مقابلات مع من اختبؤوا أو هربوا أو أمسكوا كرهائن في مستوطنات غلاف غزّة قالوا إنّ مقاتلي القسّام عاملوهم جيّدًا، ومنحوهم المياه والأمان، وأنّ عددًا ممّن قتلوا هناك قتلوا بسبب تبادل إطلاق النار.
هذه ليست المرّة الأولى، إذ اعتمدت إسرائيل سياسة فرض الرواية بعربدة القانون منذ قيامها، وأبرزها كان قانون منع إنكار المحرقة، الّذي ينصّ بشكل واضح على أنّ كلّ من ينكر حدوث المحرقة، أو يقلّل من جرائم النازيّة، أو يشكّك في حجم ما حدث وعدد القتلى يقدّم للمحاكمة. ويمكن أن تصل عقوبته إلى خمس سنوات سجن فعليّ. ولم يقتصر الأمر على داخل إسرائيل، بل استغلّت علاقاتها في العالم وعداوة الدول للنازيّين من أجل تمرير مثل هذا القانون في العديد من دول العالم.
منع رواية تاريخ الفلسطينيّين
لا تقتصر أدوات فرض إسرائيل روايتها بالقانون فقط من خلال إجبار الناس على ترديدها، بل من خلال منعهم من كشف أيّ رواية أخرى، فمنذ النكبة، أعلنت إسرائيل الحرب القانونيّة على العلم الفلسطينيّ من خلال منع رفعه وفق البند 4(خ) من قانون منع الإرهاب عام 1948 باعتباره يمثّل منظّمة التحرير المحظورة قانونيًّا في حينه، وتلاه في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة بعد حرب الأيّام الستّة، ليمتدّ المنع بعد ذلك إلى الداخل، ووصلت عقوبة من يرفعه إلى السجن على أقصى تقدير أو الضرب العنيف من قبل قوّات الأمن في التقدير البسيط.
ووصل الخوف من الرواية الفلسطينيّة حدّ إصدار منع استخدام ألوان العلم الأربعة في الأعمال الفنّيّة والرسومات في العام 1980، واستمرّ هذا المنوال حتّى العام 1993، وبدء المفاوضات بين إسرائيل ومنظّمة التحرير، إذ تغيّر وضع المنظّمة بعد اتّفاق أوسلو، وفي العام 1994 قام المستشار القضائيّ للحكومة بتوجيه السلطات بعدم فتح ملفّ جنائيّ لمن يرفع العلم الفلسطينيّ. مع تشكيل الحكومة الأخيرة وتولّي إيتمار بن غفير وزارة الأمن الداخليّ وتغيير اسمها لوزارة الأمن القوميّ. أصدر في البداية تعليمات بمنع رفع العلم الفلسطينيّ في المساحات العامّة، ومن ثمّ في المظاهرات أمر بمصادرته واعتقال من يرفعه، ليقدّم مشروع قانون صودق عليه بالقراءة التمهيديّة في أيّار 2023 مشروع قانون يجرّم كلّ من يرفعه وتصل عقوبته حدّ السجن الفعليّ.
ومن ضمن حرب إسرائيل على الرواية الفلسطينيّة ومحاولة طمسها ومحوها من صفحات التاريخ، ومن ذاكرة الفلسطينيّين نفسهم، حاولت إسرائيل منع ذكر النكبة الفلسطينيّة في المؤسّسات العامّة والرسميّة والحكوميّة، وعلى رأسها المدارس، إذ قدّمت مشروع قانون يفرض عقوبات تصل حدّ السجن على من يأتي على ذكر النكبة في هذه المؤسّسات، أو يحيي ذكرى “استقلال إسرائيل” كيوم حدّاد ويوم نكبة، إضافة إلى إغلاق المؤسّسة ومنع تمويلها، لكن بعد ضغوطات شعبيّة صادقت الكنيست على نسخة مخفّفة من مشروع القانون عام 2011. بموجبها يقطع التمويل عن المؤسّسات الّتي تحيي ذكرى النكبة، وعلى رأسها المدارس والمسارح.
هذا مجرّد غيض من فيض، فرغم كلّ المحاولات لم تنجح إسرائيل في فرض روايتها على الفلسطينيّين، وعلى العالم كاملًا، وستبقى الحرب على الرواية مفتوحة، رغم محاولات حسمها بالقوّة وعربدة القانون.
المصدر: عرب 48