شهر على بدء المذبحة
مرّ شهرٌ على المذبحة المستمرة في غزة والتي يُطلق عليها “حرب”. ما يزيد عن عشرة آلاف شهيد، معظمهم أطفال ونساء، وعشرات آلاف الجرحى غير الذين قضوا تحت الردم ولم يجرِ انتشالهم، وهناك مفقودون كذلك، ومئات آلاف النازحين قسرا من شمال القطاع إلى جنوبه، بعد أن جرى تركيم بيوتهم ومساكنهم إلى سَكن ورماد. لم تترك إسرائيل معلما من معالم حياة الغزيين إلا واستهدفته؛ المستشفيات والمدارس، والمساجد والكنائس، والملاجئ والمقرّات، والمخابز وخزّانات مياه الشرب، وكل ما يمتّ للحياة بصلة.
ليس قتلا أعمى ينمُّ عن فشلٍ في تحقيق الأهداف، بقدر ما أنه انتقام مفتوحة عيناه على شهوة الدم، فذبح غزة هدفٌ بذاته لا تعويض عنه. وبالتالي، فإن هدف القضاء على حماس الفضفاض، المُعلَن إسرائيليًّا، مُستبطن في أوضح وأوحش حالاته بلحم أطفال ونساء غزة وعموم القطاع، بلا انقطاع. وذلك كله، في ظل ضوء أميركي وشبه أوروبي أخضر لإسرائيل في ذهابها نحو ما أمكن من إراقة لحم الغزيين، لا دمهم فقط هذه المرة.
بينما الصمت العربي الرسمي عن المذبحة، يتراوح بين عجز بعضه وتواطئ بعضه الآخر، فيما الشعوب العربية مغلوبٌ على أمر بعضها، ومخدَّر بعضها الآخر، يعتمله كبر حرج اختبار الدم. أما حلفاء السلاح على تقدُّم موقفهم من طهران إلى بيروت، فقد آثروا الانحياز لغزة على شكل “جبهة تضامن” تظل مفتوحة على خيارات اللحاق بغبار السلاح، دون أي ضمانات له.
تنتفض الضفة الغربية على شكل أنفاس منتفضة متقطّعة، بما تيسّر لها وتبقّى فيها من روح التمرّد على الرغم من مسعى تجويف وتجريف مقوّمات الرّفض الجاري فيها منذ سنوات، فهذا هو الشكل الذي بات عليه الانتفاض في الضفة ، حيث ما يزيد عن 150 شهيدا ارتقوا منذ بدء مذبحة غزة. بينما سكوت فلسطينيي الداخل في الأراضي المحتلة عام 1948، يجري هندسته بالتوعُّد والترهيب والملاحقة، لمجرّد نشر صورة أو منشور يعبّر عن موقفٍ متضامن عبر شبكات التواصل.
تنحاز دول غرب أوروبا بحكوماتها وإعلامها الرسميّ للرواية الصهيونية في مذبحتها بشكلٍ سافر ومنحطّ، فيستعيض بعضنا عن عجزه بزفّ خبر زيْف قيَم التنوير والحداثة الغربيين. علما بأن انحياز دول أوروبا الغربية لإسرائيل وروايتها ليس اكتشافا، والتنوير وُلد والسكين بين أسنانه، فما الجديد؟ ومع ذلك، ما تزال شوارع عواصم تلك الدول مثل: لندن وباريس وبرلين وروما وحتى في بعض الولايات الأميركية قادرة على حشد عشرات ومئات آلاف المناهضين للمذبحة، كما تستنفر بعض دول أميركا اللاتينية دبلوماسيًّا إلى حدِّ طرد سفراء إسرائيل منها.
فيما مصر سوء الجوار عاجزة إلا عن إدخال أكفان الموت للقطاع، أو ما يمكن أن تأذن به إسرائيل. الزيف والنفاق ليسا أوروبيين، بل باتا كونيين وينخران نفوس المتجبرين والمُستضعفين معا، إلا من رحم ربي، فغزة تعرّينا نحن قبل أن تعرّي قيَم الأمم وإنسانيتها. ومن صفّق أو صمَت عن يوم لم يجد أهالي اليرموك القطط والكلاب ليأكلوها في حصار مخيّمهم، لا يحق له استجواب الشعوب والدول في صمتها عن حصار القطاع ومذبحته اليوم.
نحو تحسين شروط المذبحة
“وقف مؤقّت لإطلاق النار يخدم الحرب ويُطيل أمدها”؛ هذا ما قاله بلينكن وزير خارجية الولايات المتحدة، أكثر وأكبر طرف متاح يمكنه الضغط على الإسرائيليين من أجل إقناعهم بهدنة إنسانية مؤقتة، ليس رأفة بأطفال ونساء غزة، إنما من أجل تسهيل الإفراج عن الرهائن الأميركيين أولا، وإسرائيل ترفض ذلك طبعا، فإما هدنة مؤقتة مقابل الإفراج عن جميع الأسرى والرهائن الإسرائيليين لدى حماس في غزة، أو المضيّ في الحرب قدُما بوتيرة وحشية متصاعدة جوا وبرا وبحرا.
لا يريد الإسرائيليون منح حماس أي فرصة لالتقاط أنفاسها، ولا تحقيقها إنجازا سياسيًّا متّصلا بتسليم أسرى مقابل تحرير الأسرى في سجون الاحتلال. كما أن وقفا مؤقتا لإطلاق النار لبضعة أيام، يضع نتنياهو وجهًا لوجه أمام مجتمعه، وهو الأمر الذي يحاول نتنياهو تفاديه عبر جعل صوت ضجيج ماكينة الحرب يعلو على أي صوت آخر، فضلا عن أن هدنة مؤقتة تُفضي للإفراج عن الرهائن الأميركيين والأجانب فقط، ستزيد في الأيام التي تليها من الضغط الأميركي والأوروبي على إسرائيل من أجل وقف الحرب، أو تحديد إطارها الزمني على الأقل في ظل تصاعد وتيرة الاحتجاجات الشعبية المناهضة للحرب في أوروبا والولايات المتحدة والرأي العام العالمي.
إن قول الأميركيين بهدنة إنسانية من أجل نجاعة الحرب وإطالتها، يعني تدخُّلا من أجل تحسين شروط المذبحة القائمة، وليس إنهاءها. وحتى في دعم ومدّ الولايات المتحدة إسرائيل بسلاحٍ أكثر تطورا ودقة مؤخرا، من أجل التقليل من أعداد الضحايا المدنيين في الحرب على غزة؛ محاولة تصبّ في الشرط ذاته، وبخاصة بعد أن صار فائض موت المدنيين في غزة يؤلّب الشعوب الغربية على حكوماتها وإسرائيل معا. ومع ذلك، ترى إسرائيل أن “من يمدّ السلاح عليه تبرير استخدامه”، كما ستظل أميركا على استدراكها وفق قاعدة “قد تُخطئ إسرائيل، ولكن من حقّها أن تُخطئ أيضا”.
أخيرًا
إن كل ما أنجزته إسرائيل بعد شهرٍ من حربها على غزة، هو قتل المدنيين وتركيم مساكنهم وبناهم التحتية في نزعة انتقامية يصطفّ خلفها كل من الدولة والمجتمع الإسرائيليين معا. وهدف الحرب في “القضاء على حماس” بات أكثر ضبابية مؤخَّرا مما كان عليه في بداية الحرب، إذ لم يُعد الإسرائيليون قادرين على تعريف هدفهم بالقضاء على حماس، إن كان يعني القضاء على القدرات العسكرية لدى هذه الأخيرة، أو تصفية قياداتها، أو إخراجهم من غزة، أو إنهاء وجود الحركة كلها في غزة.
كما فشلت إسرائيل على مدار شهرِ حربها في نزع عملية “طوفان الأقصى”، والردّ عليها من السياق التاريخي للصراع، عبر محاولتها شيطنة حماس ودعشنتها. فقد أعاد هجوم السابع من أكتوبر وحرب الرد عليه، القضية الفلسطينية إلى الواجهة إقليميا ودوليا، بعد كل مساعي تصفيتها في السنوات الأخيرة. لذا، يرى الإسرائيليون أن أي نتيجة لهذه الحرب لا تتضمن إنهاء حركة حماس في غزة، هو انتصار لهذه الأخيرة بالتأكيد وفشل لإسرائيل.
إن الحراك الدائر إقليميا ودوليا في الأيام الأخيرة يأتي تحت عنوان: “يوم ما بعد الحرب، أو من يحكم غزة بعد الحرب” فعوضا عن أبعاده النفسية والمعنوية في محاولة خلق مناخ هزيمة حماس. فإنه يعني أيضا إطالة أمد الحرب وثبات الموقف الغربي في دعم إسرائيل حتى تحقيق هدفها، ما يعني مزيدا من ذبح وقتل المدنيين في غزة. فالمذبحة هدف غير معلن تُحقق الانتقام أولا، وتظل ورقة ضغط قائمة على حماس ثانيا، كما لا يمكن تهجير شمال قطاع غزة من أهله والسيطرة عليه من أجل تحويله لمنطقة عازلة ما بين غزة ومستوطنات الغلاف، إلا بمذبحة مستمرة يدفع فيها الفزع من تبقى من سكان شمال القطاع النزوح إلى جنوبه، وهذا هو هدف الحرب الذي تراه إسرائيل ممكنا.
المصدر: عرب 48