أنصار الاستئصال يستعجلون الاستثمار
بعد أن أحبط مخطّط التهجير والتطهير العرقيّ إلى سيناء، الّذي كان معدًّا سلفًا في أدراج حكومة نتنياهو – بن غفير – سموترتش، وكان فقط ينتظر فرصة مواتية لتنفيذه، عدّلت القوى الدوليّة وعلى رأسها الإمبرياليّة الأميركيّة، ومعها أنظمة عربيّة متحالفة مع إسرائيل، خطّتها التطهيريّة الإجراميّة لما بعد الحرب في غزّة، في الوقت الّذي تقوم به الأخيرة بتعديل خطّة التهجير لتصبح داخل القطاع، أي في جنوبه.
وتتصرّف هذه القوى كالضباع الّتي تحوم حول الضحيّة ريثما ينتهي الوحش من صرعها، أو شلّ قواها بحيث تصبح غير قادرة على مقاومة المخطّط التصفويّ الّذي يحمل عنوان حلّ الدولتين بالنسخة الأميركيّة. وهذه النسخة الّتي حاولت الإدارة الديمقراطيّة فرضها على ياسر عرفات عام 2000، أدّت إلى تفجير الانتفاضة الثانية وراح ضحيّتها آلاف الفلسطينيّين والإسرائيليّين. ومن يومها، يستخدم شعار الدولتين كغطاء لاستكمال المشروع الكولونياليّ الاستيطانيّ في الضفّة الغربيّة والقدس. ومنذ سنوات بات العداء لهذا الحلّ حتّى بنسخته الهزيلة صريحًا وسافرا.
منذ الأيّام الأولى للحرب، بدأت هذه القوى وتحديدًا الإدارة الأميركيّة تطرح أفكارها أو مشاريعها حول الحلول السياسيّة، الّتي تحفظ أمن إسرائيل والمصالح الأميركيّة والغربيّة في المنطقة، وتعلن أن لا عودة إلى الأمر الواقع الّذي كان مسكوتًا عنه قبل 7 أكتوبر، وهي في ذهنها أنّ الطريق بعد أن تلقّت إسرائيل الضربة الإستراتيجيّة غير المسبوقة في تاريخها، وهزيمة حماس المفترضة، ستكون ممهّدة أمام إعادة إحياء المسار السياسيّ الّذي كانت حكومة نتنياهو أغلقته بالكامل.
وبما أنّ حركة حماس والفصائل الفلسطينيّة الأخرى تواصل القتال، وأنّه لم يشاهد مقاتلًا واحدًا يرفع الراية البيضاء حتّى الآن، واصلت الإدارة الأميركيّة منح الغطاء لإسرائيل للمضيّ في ارتكاب المجازر المروّعة بهدف استئصال الحركة والبيئة الشعبيّة الّتي توجد فيها، مع أنّ محلّلين وخبراء أميركيّين في حرب المدن تحدّثوا عن عدم واقعيّة هذا الهدف. ومع ذلك تحثّ الإدارة الأميركيّة علانية على مواصلة اعتماد منطق الاستئصال مع دعوة إلى تجنّب المسّ بالمدنيّين، وهي ضريبة كلاميّة مغموسة بنكهة استعماريّة إحلاليّة مستمدّة من التاريخ الكولونياليّ الإباديّ.
أمّا الأنظمة العربيّة، خصوصًا تلك المتحالفة والمطبعة مع إسرائيل، فإنّها تفتعل التعاطف مع أهالي غزّة، أمّا في الخفاء، فهم يحثون المستعمر الّذي بات حليفهم، على مواصلة حرب الإبادة مع تجنّب ما يمكن أن يحرجهم أمام شعوبهم المنتفضة الّتي أصبحت أكثر احتقارًا لهم.
وليست تلك “الفزعة” العربيّة من دولتين جارتين في التصدّي للتهجير والتطهير العرقيّ سوى حسابات وجوديّة للأنظمة أو الطبقة الحاكمة، وتحت ضغط الحشود الشعبيّة المتصاعدة. وكان السيسي قد أوضح عن موقفه ببلاهة عرف بها، في الأيّام الأولى للمذبحة الصهيونيّة، فقد اقترح على حكّام إسرائيل نقل أهل غزّة إلى النقب، ومن ثمّ إعادتهم إلى مخيّمات اللجوء داخل القطاع بعد القضاء على “الفصائل المسلّحة”. ولم تسعفه فطرته السياسيّة في قول كلام آخر مثل أن أعيدوا هؤلاء إلى قراهم وبلداتهم الواقعة على كيلومترات قريبة من السياج، إذا أردتم حلّ المشكلة.
لقد دلّت التجارب السياسيّة الدوليّة في ساحة الصراع على فلسطين في العقود الأخيرة، على عقمها، بسبّ انحياز الراعي الأميركيّ الّذي احتكر الإشراف على ما يسمّى بعمليّة السلام؛ فالولايات المتّحدة الّتي نصبت نفسها راعيًا لهذه المسرحيّة على مدار عقود، ورفضت الاستناد إلى الشرعيّة الدوليّة، وحمت إسرائيل في مجلس الأمن، تتحمّل المسؤوليّة عن كلّ الحروب الإسرائيليّة العدوانيّة وعن توسّع المشروع الاستيطانيّ، وقتل “حلّ الدولتين”.
بديهيّ، بعد أن حشدت أميركا كلّ هذه الأساطيل لمنع توسّع الحرب في الشمال، وأعطت إسرائيل رخصة مفتوحة لحربها الإباديّة، في ما يقال إنّه تحرّك لإنقاذ لإسرائيل من جنونها، ومن سقوطها كلّيًّا إذا ما توسّعت الحرب مع حزب اللّه في الشمال، أن تبدأ بالضغط عليها لقبول التفاوض على حلّ الدولتين.
من زاوية نظر فلسطينيّة وعربيّة، فإنّ إعادة طرح القضيّة الفلسطينيّة بعد أن كانت تتعرّض لعمليّة تصفية وحصار وإهمال لصالح مصالح دوليّة في أماكن أخرى، وخضوعًا لرغبة إسرائيل، هو تطوّر مهمّ، وأحد نتائج عمليّة 7 أكتوبر.
وتبني أميركا تحرّكها على التقدير الّذي بات عليه إجماع بانتهاء الحياة السياسيّة لبنيامين نتنياهو، وأنّ المعارضة الّتي قادت الاحتجاج ضدّ الإصلاحات القضائيّة ستفوز في انتخابات مقبلة. ولكنّ تلك المعارضة لا تختلف جوهريًّا، سياسيًّا، ولا تقلّ دمويّة عن حكومة نتنياهو، بل أكثر دمويّة.
وإذا أخذنا بالاعتبار تعاظم واتّساع الكراهية والنزعة الفاشيّة داخل المجتمع الإسرائيليّ ضدّ الشعب الفلسطينيّ، فإنّ هذه المبادرات للحلول ستواجه تحدّيًا حقيقيًّا ومزيدًا من الرفض من قبل هذا المجتمع المعبّأ أصلًا، خصوصًا أنّنا نعرف أنّ أميركا، ومن خلال التجربة التاريخيّة، لا تمارس ضغطًا حقيقيًّا على إسرائيل، بل تحميها من أيّ عقوبات.
لا يعنى أنّ ميل معسكر بني غانتس – لبيد للتعاون مع سلطة أوسلو أنّ هذا المعسكر مستعدّ حاليًّا أو في المستقبل بقبول الحدّ الأدنى للحقوق الفلسطينيّة. لن يكون ذلك إلّا بضغط من الداخل ومن الخارج. ولذلك، فإنّ استئصال حركة فلسطينيّة كبيرة لها امتداد شعبيّ، ليس من شأنه تسهيل الانتقال إلى الحلول العادلة بل سيكون مستحيلًا.
يحتاج الشعب المستعمر لتعديل ميزان القوى حتّى ينتزع حقوقه أو حلحلة في الموقف الإسرائيليّ، وهذا التوازن يتحقّق إمّا بمقاومة داخليّة طويلة، أو بضغط حقيقيّ خارجيّ، أو الاثنين معًا.
إنّ حركة حماس الّتي باتت في نظر غالبيّة الفلسطينيّين تتحمّل القسط الأكبر من عبء مقاومة الاحتلال والحصار، بحاجة إلى مراجعة وتعديل خطابها، وللتواصل مع كافّة القوى الفاعلة في الساحة الفلسطينيّة، ليصبح خطابًا تحرّريًّا ديمقراطيًّا صريحًا، ليس فقط تكيّفًا مع قواعد العصر وقيمه وخطابه، بل أساسًا للداخل، الداخل الفلسطينيّ، الّذي يحتاج إلى حركة تحرّريّة وطنيّة وديمقراطيّة وموحّدة، غير مجزّأة، تخاطب العالم وشعوبه الّتي تدعم النضال الفلسطينيّ من أجل العدالة، وتحقيق نظام مدنيّ ديمقراطيّ في الكيان السياسيّ الحرّ المستقبليّ، سواء في إطار دولة مستقلّة في الضفّة والقطاع أو دولة واحدة بين البحر والنهر. فالمعركة السياسيّة بعد هذه الحرب، والّتي بدأت مبكّرًا، ستكون صعبة ومركّبة وطويلة، وتحمل أخطار حقيقيّة إذا لم تتوفّر شروط القوّة الفلسطينيّة الداخليّة، والتحالفات الصديقة الخارجيّة.
إنّ الطوفان الشعبيّ العالميّ غير المسبوق لصالح الحقّ الفلسطينيّ، الّذي نشهده في الأسابيع الأخيرة يحمل أهمّيّة إستراتيجيّة للنضال الفلسطينيّ، وفي مواجهة المعركة السياسيّة الّتي ستسعى القوى المعادية، وغير الصديقة، لاحتكارها.
ولهذا ينتظر الشعب الفلسطينيّ وشعوب العالم وشعوب الوطن العربيّ، من الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة، وحدة وطنيّة صلبة وخطابًا تحرّريًّا إنسانيًّا مساواتي واضحًا في مواجهة الخطاب الصهيونيّ العنصريّ الاستئصاليّ المناهض لفكرة المساواة. وإنّ معالم هذا الخطاب آخذة في التشكّل والتبلور والانتشار، ولهذا يشعر نظام الأبرتهايد بالقلق الشديد، لما يشكّله هذا الخطاب من تهديد لخطابه الاستئصاليّ غير الإنسانيّ.
المصدر: عرب 48