من النهر إلى البحر: الوعد الّذي لا يموت…
تظاهرة ضدّ الإبادة في قطاع غزّة، كولورادو | جيسون كونولي (Getty).
العنوان الأصليّ: From the River to the Sea: The undying promise of Palestinian liberation in the face of genocide.
المصدر: Mondoweiss.
ترجمة: علاء سلامة – فُسْحَة.
على مدى الأسابيع الخمسة الماضية، شهدنا تحرّك الملايين، بل المليارات، من الناس حول العالم دعمًا لفلسطين. في الرابع من تشرين الثاني (نوفمبر)، سُجِّلَ حدث تاريخيّ في قلب الإمبراطوريّة الأمريكيّة، أكبر مسيرة لفلسطين في تاريخ الولايات المتّحدة. وفي الحادي عشر من تشرين الثاني (نوفمبر)، خرج أكثر من مليون شخص إلى شوارع لندن في مسيرة قياسيّة أخرى. كما شهدنا تنظيم احتجاجات بشكل منتظم في جميع أنحاء العالم. تهدف هذه المظاهرات إلى الاحتجاج على إبادة الكيان الصهيونيّ، الّتي أخذت خلال شهر واحد أرواح أكثر من 11,000 فلسطينيّ، أكثر من نصفهم من الأطفال. وفي خضمّ هذه الإبادة الجماعيّة، وبناء حركة عالميّة تاريخيّة داعمة للشعب الفلسطينيّ، هاجمت المؤسّسات الصهيونيّة والدول الغربيّة الّتي تموّل بربريّة إسرائيل شعارًا وهتافًا مركزيًا يُسْمَع في هذه الاحتجاجات التاريخيّة: «من النهر إلى البحر، فلسطين ستتحرّر».
من خلال هذا الهجوم، تحاول قوى الصهيونيّة والإمبرياليّة تشويه حركة التحرّر الوطنيّ الفلسطينيّة، وصرف الانتباه عن الإبادة الجماعيّة الّتي تقوم بها إسرائيل. تأتي محاولات تشويه وتجريم هذا الهتاف ضمن جهود أوسع للنيل من الحركة المناهضة للصهيونيّة، ولإسكات النداءات المطالبة بحرّيّة فلسطين، الّتي يمكن سماعها في كلّ ركن من أركان العالم. إنّ آلاف الأشخاص الّذين ينضمّون إلى الحركة يوميًا دليل حيّ على أنّ جهود تقويض دعواتنا للحرّيّة تفشل وأنّنا، وأنصارنا، سنظلّ ثابتين في رؤيتنا لتحرير فلسطين من النهر إلى البحر.
يُشَوَّه هذا الهتاف للحرّيّة حاليًّا على أنّه خطاب كراهية أو تحريض على العنف. جرت مساءلة النائبة الأمريكيّة رشيدة طليب لترديدها ذلك الشعار. استنكر رئيس «جامعة هارفارد» استخدام العبارة من قبل الطلّاب الناشطين، معلنًا عن إنشاء مجموعة استشاريّة لمكافحة اللاساميّة ردًّا على ذلك. وجّهت الشرطة الاتّهام لناشط فلسطينيّ في كالغاري، كندا، لقيادته الهتاف خلال احتجاج. في بريطانيا، كتبت وزيرة الداخليّة السابقة سويلا برافرمان، رسالة إلى شرطة العاصمة تشجّعها على “النظر فيما إذا كان ينبغي فهم هتافات مثل ‘من النهر إلى البحر، فلسطين ستتحرّرّ’ كتعبير عن رغبة عنيفة”، وحتّى ألمحت إلى تجريم الهتاف. قدّمت وسائل الإعلام الرئيسيّة الشعار بطريقة مماثلة، إمّا بالإيحاء بأنّه يدعو إلى إبادة اليهود، أو بمحاولة تقديم تاريخ الدعوة لتحرير فلسطين على أنّه ’معقّد‘. في المقابل، دافع البعض عن العبارة بإخراجها من سياق ارتباطها بكفاح التحرّر الوطنيّ، مقترحين أنّها “دعوة لإسرائيل لتمديد الجنسيّة والمساواة القانونيّة والسياسيّة لكلّ إنسان يقيم ضمن حدودها الحاليّة”. ما يفشل هذا التحليل في فهمه أنّ الفلسطينيّين لا يردّدون هذه العبارة توسّلًا للحصول على الجنسيّة، ضمن دولة بُنِيَتْ على أساس إبادتهم، بل مطالبةً بالتحرّر الوطنيّ والحرّيّة.
بالطبع، بالنسبة للصهيونيّة، تُعَدّ الحرّيّة الفلسطينيّة تهديدًا وجوديًّا لمشروع إنشاء دولة استعماريّة عرقيّة على أرض فلسطين. هذه دولة ليس لها حدود رسميّة، وقد احتلّت، على مدى الـ 75 عامًا الماضية، أراضي مصريّة وسوريّة ولبنانيّة، وتواصل انتهاك سيادة سوريا ولبنان. عرض نتنياهو، قبل شهرين في «الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة»، خريطة ’الشرق الأوسط الجديد‘. هذا التخيّل الجغرافيّ الصهيونيّ ألغى وجود فلسطين من المنطقة، وضمّ هضبة الجولان السوريّة المحتلّة، ممّا يعكس ميثاق حزب «الليكود» الّذي يسرق دعوتنا للحرّيّة، ويطالب بأنّ “ما بين البحر والأردنّ لن يكون هناك سوى السيادة الإسرائيليّة”.
الواقع أنّ العنف الوحشيّ الصهيونيّ ضدّ الشعب الفلسطينيّ يمتدّ عبر كلّ فلسطين التاريخيّة: من نهر الأردنّ في الضفّة الغربيّة إلى بحر غزّة. لا تُعَدّ أيّ حياة فلسطينيّة مقدّسة في ظلّ الحصار الإباديّ، وفي ظلّ وجود مستوطنات إسرائيل وحواجزها، ولا داخل جدران سجونها، حيث يُحْتَجَز ويُعَذَّب الآلاف من الفلسطينيّين، ويُحْتَجَز 2.3 مليون من سكّان غزّة رهائن. تتطلّب الحرّيّة الفلسطينيّة التحرير الكامل: ليس فقط من النهر إلى البحر، ولكن أيضًا خارج حدود فلسطين التاريخيّة، حيث ينتظر الملايين من الفلسطينيّين العودة. يتطلّب التحرير الفلسطينيّ التحرّر من الصهيونيّة.
لكن لماذا ثمّة محاولة متزايدة الآن لمعادلة الدعوات الفلسطينيّة للتحرير مع خطاب الكراهيّة الإباديّ؟ ثمّة إبادة جماعيّة فعليّة يقوم بها النظام الإسرائيليّ وداعموه الغربيّون بين النهر والبحر. هذه الحملة التشويهيّة إستراتيجيّة تعمل على إبقاء الحركة الفلسطينيّة في موقف دفاعيّ، بينما نحاول إيقاف إبادة جماعيّة يوافق عليها ويموّلها الغرب. تهدف هذه الإستراتيجيّة إلى صرف الانتباه عن الإبادة الجماعيّة الّتي تتكشّف، وترويج الشكّ والخوف بين أعداد متزايدة من الناس الّذين يزدادون وعيًا بتواطؤ مؤسّساتهم وحكوماتهم فيها. تهدف إلى إخفاء مسألة العنف: جعل العنف مرتبطًا بالمحتلّين، وتقليل شأن العنف الّذي يرتكبه المحتلّ في إبادته الجماعيّة.
في مواجهة هذه الادّعاءات، يضطرّ الفلسطينيّون في الدول الغربيّة ومَنْ يقف معهم، إلى قضاء وقتهم في شرح معنى “من النهر إلى البحر”، في أحسن الأحوال، أو في أسوأ الأحوال، الدفاع عن أنفسهم ضدّ ردود الفعل العكسيّة والتعليقات والقمع لاستخدام العبارة. إنّ التركيز على الخطاب وتدقيق هتافاتنا، يهدف إلى زرع الشكّ في قلوب وعقول الجدد في الحركة، مع توفير أدوات جديدة للمؤسّسات مثل الجامعات ووسائل الإعلام وأماكن العمل لمواصلة تبرير القمع.
تجعل مثل هذه الإستراتيجيّات ما يحدث في فلسطين غير مرئيّ، ألا وهو: قتل أكثر من 11,000 فلسطينيّ بالقنابل المموّلة من قوى استعماريّة مثل الولايات المتّحدة وكندا وبريطانيا؛ قتل مرضى في وحدة العناية المركّزة بـ «مستشفى الشفاء»، بسبب انقطاع التيّار الكهربائيّ؛ جمع الأطفال الماء من الشوارع من أجل شربها؛ قتل الناس بسبب نقص الغذاء والرعاية الطبّيّة والماء؛ انهيار المستشفيات؛ احتجاز 10,000 فلسطينيّ رهائن في السجون الإسرائيليّة، وتعذيبهم حتّى الموت؛ قتل مئات الفلسطينيّين في الضفّة الغربيّة؛ واعتقال مئات الفلسطينيّين الحاصلين على الجنسيّة الإسرائيليّة في الأراضي المحتلّة عام 1948 منذ 7 تشرين الأوّل (أكتوبر). لا يمكن حتّى توثيق الجرائم المروّعة لإسرائيل بشكل كامل لأنّهم قطعوا بنية الاتّصالات في غزّة، وقتلوا أكثر من 40 صحافيًّا وعاملًا في مجال الإعلام الفلسطينيّ. إلى جانب ذلك، هناك أدلّة خطابيّة واضحة على طموحات إسرائيل في غزّة: دعا سياسيّون ومسؤولون وشخصيّات إعلاميّة مرارًا وتكرارًا إلى إبادة غزّة. حتّى الأطبّاء الإسرائيليّون، الّذين أقسموا القسم الطبّيّ الأخلاقيّ، وافقوا على قصف مستشفيات غزّة. هذه هي الحقائق المادّيّة للإبادة الجماعيّة الجارية على الأرض.
كيف يُعْقَل لأيّ شخص أن يصدّق، وسط إبادة جماعيّة أودت بحياة أكثر من 11,000 فلسطينيّ، أنّ هتافًا من أجل الحرّيّة هو ما يحرّض على العنف؟ كيف يجرؤ أحدهم على الخوف من نداء التحرير الّذي تردّده الجماهير بدلًا من القنابل المتساقطة على غزّة؟ هذا بالضبط ما يهدف إليه هذا التركيز على الخطاب: وسيلة لتعزيز مشاريع الصهيونيّة والإمبرياليّة الغربيّة. ومع ذلك، حقيقيّ أنّ الصهاينة يدركون جيّدًا أنّ الصهيونيّة لا تتوافق مع الحياة الفلسطينيّة، وأنّ أساسها يقوم على الطرد والاستغلال والتطهير العرقيّ للشعب الفلسطينيّ. هذا هو بالضبط سبب مواجهة هتاف من أجل الحرّيّة الفلسطينيّة، والتحرّر الوطنيّ بهذا الهياج والقمع. وهذا واضح بشكل خاصّ في لحظة تنمو فيها مسيرة الحرّيّة الفلسطينيّة بقوّة، مع انضمام الملايين حول العالم إلى نضالنا. في جميع أنحاء أمريكا الشماليّة وأوروبّا، يستيقظ الناس على دور حكوماتهم في هذه الإبادة الجماعيّة. من المظاهرات إلى عرقلة نقل الأسلحة وإغلاق وسائل الإعلام والمكاتب السياسيّة، يدعو الجماهير ليس فقط إلى وقف إطلاق النار، ولكن إلى إنهاء الحصار على غزّة ووقف المساعدات والأسلحة للدولة الصهيونيّة.
لأكثر من 75 عامًا، هدف المشروع الصهيونيّ إلى تدمير الشعب الفلسطينيّ والقضاء عليه، وعلى مدى 75 عامًا، واصل الشعب الفلسطينيّ الحفاظ على وجوده ونضاله للبقاء والعودة إلى أراضيه.
“من النهر إلى البحر”، ليست مجرّد شعار – إنّها وعد لا يموت. يومًا بعد يوم، تزداد الثورة الفلسطينيّة قوّة، وتعلو أصوات الدعوات للحرّيّة، ونصبح أقرب بيوم إلى التحرير الكامل: من النهر إلى البحر.
من النهر إلى البحر، ستتحرّر فلسطين. من البحر إلى النهر، ستعيش فلسطين إلى الأبد.
روزَنَة: إطلالة على الثقافة الفلسطينيّة في المنابر العالميّة، من خلال ترجمة موادّ من لغات مختلفة إلى العربيّة وإتاحتها لقرّاء فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة. موادّ روزَنَة لا تعبّر بالضرورة عن مبادئ وتوجّهات فُسْحَة، الّتي ترصدها وتنقلها للوقوف على كيفيّة حضور الثقافة الفلسطينيّة وتناولها عالميًّا.
المصدر: عرب 48