أنا وغالب… العلاج النفسيّ في المصحّة الإسرائيليّة
تقدّم هذه الورقة قراءة تحليليّة لتجربتي الشخصيّة معالجةً نفسيّة فلسطينيّة متدرّبة في منظومة الصحّة النفسيّة الإسرائيليّة. ستُقْرَأ هذه التجربة من خلال عرض بعض النماذج وتحليلها من علاج نفسيّ لمتعالج فلسطينيّ، عالجته في عيادة الصحّة النفسيّة العصبيّة في مستشفًى إسرائيليّ في القدس. تناقش هذه المقاتلة الواقع الاستعماريّ المفروض في المؤسّسة الإسرائيليّة للصحّة النفسيّة، والصور المختلفة الّتي يتّخذها هذا الواقع في التحالف العلاجيّ بين معالِجة ومتعالج فلسطينيّين داخل هذه المؤسّسة.
تتناول المقالة بعض الأدبيّات المؤسِّسة بشأن هذه المواضيع، محاولةً من خلال التبصّر في هذه الأدبيّات التحليل والفهم للنماذج المختلفة الّتي تمرّر تجربتي معالِجةً نفسيّة فلسطينيّة متدرّبة في منظومة الصحّة النفسيّة الاستعماريّة. إنّ التجربة المطروحة تجربة شخصيّة، لكنّها تحاكي تجارب زملاء فلسطينيّين آخرين يعملون في علاج أبناء شعبهم داخل منظومة الصحّة الاستعماريّة.
أهدف من هذه القراءة إلى توسيع فهم التجربة الشخصيّة، ومعاينتها على أنّها معايشة لأزمة نفسيّة قابعة في واقع سياسيّ وعلاقة قوًى يكونان فيها منشأ الأزمة، وإن كانا غير ذلك فهما معيقان لتطوّر صحّيّ ويرسّخان الأزمة ويصعّدانها.
مَنْ غالب؟
غالب – اسم مستعار – رجل أعزب في الخمسين من عمره، يسكن في إحدى القرى الفلسطينيّة ’العائمة‘ التابعة إداريًّا لحكومة الاستعمار الإسرائيليّ، قضاء القدس. وُلِد غالب لعائلة فلسطينيّة متوسّطة الحال، مكوّنة من عدد كبير من الأفراد. في سنّ الرابعة عشرة، اختبر غالب للمرّة الأولى نوبةَ صرع، ومنذ ذلك الوقت لم تفارقه هذه النوبات قطّ.
بالرغم من الوجود الصارخ والجليّ لهذه النوبات، إلّا أنّ أحدًا من محيطه لم يُعِرْ لها اهتمامًا، حتّى بلغ غالب سنّ التاسعة عشرة، وأثناء فترة محكوميّته الأولى في أحد السجون الجنائيّة الإسرائيليّة، شُخِّصت هذه النوبات على أنّها نوبات صرعيّة، وبدأ حينذاك سيرورة طويلة من الفحوصات والعلاج>
عُرِف غالب بافتعاله المشاكل طيلة حياته؛ الأمر الّذي تسبّب له في الكثير من الصعوبات أثناء دراسته، إلى جانب قدراته الذهنيّة المنخفضة؛ فقرّر إنهاء هذه المعاناة، وتسرّب من المدرسة في سنّ الخامسة عشرة؛ ليعمل في بسطة صغيرة أقامها أمام مدخل المدرسة، يبيع فيها بعض المسلّيات والألعاب. بعد فترة وجيزة خرج للعمل في ورشات بناء مع إخوته في القدس، إلى يوم افتعل فيه شجارًا عنيفًا مع عمّال آخرين في الورشة، على إثره سُجِن 18 شهرًا في أحد السجون الاستعماريّة الإسرائيليّة بتهمة جنائيّة.
شُخِّص غالب على أنّه يعاني اكتئابًا واضطراب القلق المُعمّم، على إثره أُحِيل لتلقّي علاج نفسيّ في المستشفى…
أثناء مكوثه في السجن، فُجِع غالب بخبر وفاة والده إثر نوبة قلبيّة. بعد إطلاق سراحه لم يلتقِ أحدًا من معارفه، وهجر البيت، وأصحابه، ومعارفه جميعًا. تسكّع وعَمِل في أعمال متاحة مختلفة؛ كأعمال البناء، والعتالة، وغسل الأواني، وغيرها. قال لي غالب مرّة: “طلعت من السجن لأرجع إليه”، فبعد فترة وجيزة من خروجه للمرّة الأولى، عاد غالب للسجن بسبب تهمة سرقة وقيادة بلا رخصة، وبعدها سُجِن مرّتين بتهم مشابهة. بعد انقطاع عشرة أعوام، يعود غالب ليسكن مع والدته في ذات المنزل، مريضًا أعرج، مصحوبًا بنوباته.
يتلقّى غالب علاجه ومتابعة لحالته الصحّيّة في عيادة الأعصاب في مستشفًى إسرائيليّ في القدس. هناك جرى تشخيص دقيق للنوبات الّتي يعاني منها، على أنّها نوبات صرعيّة يوميّة مختلفة المصدر والمظهر. بعض هذه النوبات يكون نوبات صرعيّة توتّريّة رمعيّة (Tonic Clonic Seizures)، وبعضها نوبات صرعيّة بؤريّة (Focal Seizures)، مع ضعف في الوعي، يتخلّلها صراخ، وشتائم، أو حركات جسديّة عنيفة غير إراديّة مثل الضرب، وبعضها الآخر نوبات نفسيّة غير صرعيّة (Psychogenic Non-Epileptic Seizures).
جرّب غالب العديد من الأدوية المضادّة للصرع، لكنّ أيًّا منها لم يكن له تأثير؛ الأمر الّذي أتى بالأطبّاء لبدء سيرورة طويلة ومعقّدة من الفحوصات والصور الدماغيّة، آملين تحديد دقيق للبؤر الصرعيّة لإزالتها جراحيًّا حلًّا أخيرًا. خلال هذه السيرورة، شُخِّص غالب على أنّه يعاني اكتئابًا واضطراب القلق المعمّم، على إثره أُحيل لتلقّي علاج نفسيّ في المستشفى.
الاستعمار يخلع الباب ويجتاح الغرفة
كان تأخير غالب عن الحضور بالموعد للجلسات أمرًا ثابتًا، أستاء من نفسي إزاء ذلك موبّخة إيّاها على أنّها لم تنجح في بناء ’تحالف علاجيّ‘ واضح وثابت معه. في كلّ مرّة، يدخل الغرفة مستشاطًا ومستنزفًا ليخبرني أنّه تأخّر بسبب حاجز التفتيش الّذي عليه عبوره. دون أن أُعيره اهتمامًا كافيًا، كنت أُعيد توضيح أهمّيّة حضوره عند الوقت المحدّد، ومن ثَمّ ننتقل إلى الحديث عن موضوع آخر.
مع مرور الوقت، وجدتُ نفسي محاصرةً بـ ’حواجز‘ من النظريّات التحليليّة الغربيّة الّتي تعلّمتُها خلال دراستي، ومن الأدوات العلاجيّة الّتي أتلقّاها في جلست الإشراف المختلفة داخل العيادة، لا أستطيع وصول ما هو أبعد؛ ما هو وراء هذه ’الحواجز‘ لألتقي غالبًا حقًّا؛ غالبًا الّذي كان يتخطّى الحواجز، ويأتيني مثقلًا موجوعًا.
في يوم من أيّام حزيران (يونيو) 2022، جالسة في الغرفة أنتظر غالبًا الّذي تأخّر كالمعتاد. أتلقّى اتّصالًا منه وأسمعه بصوت غاضب وذليل يصرخ: “هذول الأمن تبع المستشفى مش راضيين يدخلوني، دفشوني ووقعت، خبط راسي بالأرض، مش قايم ولا قادر أقوم، تعالي، قبل ما أكسّر المستشفى على روسهم…”. مهرولة متوتّرة وغاضبة، خرجتُ للبحث عن غالب، لا أرى أمامي سوى صورته ملقًى على الأرض بعد أن ’صفّوا دمه‘، أحبس دموعي وأطرد خوفي.
ها هو هناك وحيدًا ملقًى على جانب الطريق أمام مدخل المستشفى، يتصبّب عرقًا، يتنهّد، وذراعه تلفّ رأسه، تحجب عن عينيه أشعّة الشمس. ذهبت إليه مسرعة، وكنت قد تعرّيت من ثوب المعالجة، وبصوت قلق سألته: “ماذا حدث؟”؛ ليخبرني أنّ عند مروره بباب المستشفى استوقفه رجال الأمن على غير عادة، سائلين إيّاه عن سبب قدومه المستشفى، وطلبوا منه أن يريهم بطاقة هويّته. عندما أجابهم دفعوه إلى الوراء ليمنعوا منه العبور، فَفَقَد توازنه وارتطم رأسه بالأرض. لحظات قصيرة كانت لهذا ’التعرّي‘ انتهت عند اقتراب أحد رجال الأمن ليسألني مَنْ أكون، وقَدْ دارت المحادثة التالية باللغة العبريّة:
أنا: “أنا المعالجة النفسيّة لغالب، وبشتغل هون في عيادة الصحّة النفسيّة العصبيّة”.
رجل الأمن مستهزئًا: “طلع مجنون!”
أنا: “لا! شويّة احترام، غالب عنده موعد معي بهاي الساعة.”
رجل الأمن: “هو قال إنّه جاي يتجوّل بالمستشفى.”
غالب صارخًا: “شو بدّي آجي أعمل بالمستشفى؟ أكيد بكون عندي موعد، يعني بدّي آجي أغيّر جوّ هون!”
لم ينسَ رجل الأمن أن يرتدي القفّازات بعد أن ألزمتُهُ بمعاونتي على رفع غالب عن الأرض. انتقلت جلسة العلاج إلى الخارج بجانب مدخل المستشفى، مع رجال الأمن والشرطة، فقد استدعى غالب الأخير ليقدّم شكوى ضدّ رجال الأمن الّذين تعرّضوا له وأهانوه.
إنّ الحرب الكبرى الّتي يشنّها الاستعمار على المستعمَر هي الحرب على الوعي؛ إذ أنّ الاستعمار يحقّق انتصارًا في كلّ مرّة ينجح فيها بطمس الوعي لدى المستعمَر وصهر هويّته…
هذه الحادثة كانت بمنزلة مجابهة فعليّة حقيقيّة للعالم الخارجيّ، وكأنّ غالبًا لم يحتمل أكثر عدم سماعي لنجدته الّتي نادى بها مرارًا في لقاءاتنا السابقة؛ فهوى أرضًا طالبًا على الملأ أن أساعده؛ فإنّ “الاستعمار جعله مجنونًا”. إنّ الحرب الكبرى الّتي يشنّها الاستعمار على المستعمَر هي الحرب على الوعي؛ إذ أنّ الاستعمار يحقّق انتصارًا في كلّ مرّة ينجح فيها بطمس الوعي لدى المستعمَر وصهر هويّته. هذا الواقع يُلزم المعالج والمتعالج الفلسطينيّين، اللذين يقبعان داخل المؤسّسة الاستعماريّة، على أن يكونا دائمًا على اطّلاع ووعي بما يحدث في خارج غرفة العلاج النفسيّ، فإنّ الوعي سلاحهم الوحيد في هذه الحرب.
إنّ المحافظة على الوعي تتطلّب ملامسة فعليّة حقيقيّة لهذا الخارج، وفي العادة تكون هذه الملامسة منفصلة. كلٌّ من الطرفين، المعالج والمتعالج، يقوم بها على بطريقته. إنّ تكوين الوعي بشكل منفصل لكلٍّ من الطرفين، يجعل كلًّا منهما يعتقد أنّ الهويّة الوطنيّة للآخر تختلف عن تلك الّتي له؛ الأمر الّذي يؤخّر ظهورها الصريح والواضح في الغرفة العلاجيّة.
في الحادثة الّتي ذُكِرَت أعلاه، التقينا أنا وغالب بصورة جليّة بــ ’الأمّ‘ الّتي مثّلتُها، وأيقنت عندها أنّ هذه الأمّ ستكون حاضرة أكثر بعد اليوم، لكن ما شغلني هو أيّ أمّ ستكون؛ لربّما كنت في تلك الحادثة أمًّا متفانية (Devoted Mother) خافت على ابنها بشكل مفرط، وهرعت لتحميه؛ ممّا طوّر لدى غالب ارتباطًا مفرطًا يحدّ من قبوله لي بصورة أخرى، وأدّى إلى بروز ما يسمّيه وينكوت بــ ’النفس الكاذبة‘ (False Self)، وتبلوره، وبهذا أحدّ من قدرته على التعبير عن مشاعره وغضبه، ورؤيتهما على أنّهما حقيقة وذَوا شرعيّة.
أستوقف تدفّق الأفكار هذا باسترجاعي صورة الأمّ الفلسطينيّة، الّتي تسرع خائفة قلقة تحمي صغارها بذراعيها، بعد أن اقتحم جنود إسرائيليّون منزلهم؛ لأعيد التفكير في صورة الأمّ الّتي مثّلتُها، فلربّما كانت أمًّا جيّدة كفاية (Good Enough Mother) في هذا الواقع المجنون.
المعتدي هو أم أنا؟
تحاول الشعوب المستعمَرة إزاء تعرّضها للاعتداء، والقمع أو الإهانة، حماية نفسها بالمقاومة والثورة. قد تغيب في بعض الأحيان روح الوحدة والحاضنة الجماعيّة عن هذه الشعوب، عندئذٍ تبثّ السلطة القاهرة للمعتدي في أبناء الشعب المقهور، الخوف الشديد. هذا الخوف يقود الفرد إلى الاستسلام والخضوع للمعتدي، حتّى أنّه يتماثل معه أحيانًا. وفي ظلّ هذا تتشكّل لدى الفرد هويّة مهانة، وصورة سلبيّة عن الذات، تقوم النفس غير واعية بتفعيل آليّات دفاع مختلفة تمكّنه من التكيّف مع هذا الواقع.
قدّمت آنا فرويد (1895 – 1982) مصطلح ’التماهي مع المعتدي‘ لوصف آليّة دفاع غير واعية يتماثل الفرد من خلالِها مع المعتدي، ويقلّد سلوكه وينسب نفسه إليه، وحتّى تمجيده وتقديسه. إنّ هذه الآليّة لا تمنح الفرد فرصة التكيّف مع هذا الواقع فقط، بل تمنحه، واهمًا، شعورًا بأنّه استعاد شيئًا من اعتباره الذاتيّ المهدور.
إنّني هنا واحدة من بنات هذا الشعب المقهور وأبنائه؛ إذ كنت قد نجحت في الماضي في أن أعيش في هذا الواقع دون الحاجة إلى التماهي مع المعتدي، إلّا أنّه يبدو لي أنّ الأمر أصبح يُلزمني تفعيل هذه الآليّة بشكل غير واعٍ، لاشعوريّ. إنّ العمل معالِجة نفسيّة فلسطينيّة وحيدة في عيادة إسرائيليّة استعماريّة، جعلني أُحاصَر بالآخر؛ المعتدي، فأنا أتلقّى إشرافي من مشرف يهوديّ إسرائيليّ، وأخوض التدريبات المختلفة برفقة زملاء إسرائيليّين. إضافة إلى أنّ العلاقات القائمة مع الآخر في هذا المكان علاقات غير متكافئة، هرميّة، متسلّطة، أكون في معظمها الطرف الأضعف، ويكون تقدّمي متعلّقًا ومرهونًا بإرضاء هذا الآخر.
في هذه الديناميكيّات المختلفة القابعة تحت الاستعمار، الآخر هو المعتدي. إنّ وجود هذه العوامل في آن ومكان واحد مُثْقِل ومُهْدِم. اللقاء مع متعالج فلسطينيّ في وسط هذا المكان يضعني في حالة حيرة، يجعلني متردّدة، ويحرّك في داخلي مشاعر الذنب، والإنكار والتشكيك في هويّتي؛ لهذا كلّه أصبحت آليّة التماهي مع المعتدي، مثلها مثل آليّة الفصل (Splitting)، أمرًا ضروريًّا لبقائي ولتكيّفي مع هذا الواقع حتّى إنهاء فترة تدريبي.
إنّ العمل معالِجة نفسيّة فلسطينيّة وحيدة في عيادة إسرائيليّة استعماريّة، جعلني أُحاصَر بالآخر؛ المعتدي، فأنا أتلقّى إشرافي من مشرف يهوديّ إسرائيليّ…
يُطْرَق الباب، ويدخل غالب، يسبق قولي “تفضّل”؛ ليجلس منهكًا غاضبًا على الكرسيّ، ويصوّب عينيه باتّجاه الحائط. ناولني ورقة الختم وهو يقول غاضبًا: “هاي الهبلة اللّي حاطّينها برّا – ويقصد هنا السكرتيرة الإسرائيليّة المسؤولة عن الختم في القسم – كمان مرّة بتتساكع، وع أقلّ من مهلها، مش هاممها الدور لوين بوصل، وكمان جنود عالحاجز بتسلّوا بالعالم، وبسكروا الحاجز لنفقع ونطقّ عالطريق، ونوصل متأخّرين – صمت – معلش وصلتك متأخّر كمان اليوم”. يُطْرَق الباب مرّة أخرى، تدخل سكرتيرة الغرفة، وتُعْلِم غالبًا أنّ السكرتيرة المسؤولة عن الختم أعطته ورقة غير صحيحة، طالبةً استرجاعها لتعديلها. أناولها الورقة؛ فيخطفها غالب من يد السكرتيرة، ويمزّقها بعنف قائلًا: “قُليلها خلص فرطناها”. تخرج السكرتيرة خائفة، متوجّهة إلى مشرفي شاكية الوضع لتقول: “لنا بالغرفة مع رجل خطير”.
في هذه الأثناء يعمّ الصمت الغرفة، أقول لغالب: “شايفة وشاعرة بغضبك”. موجة صمت أخرى، يقف غالب يتناول عكّازه، ويقول مرهقًا: “مش قادر أظلّ قاعد، سامحيني بدّي أطلع”، ويخرج من الغرفة على الفور. أصوات تعلو في صالة العيادة، صوت غالب منهم. أخرج لأتفقّد ماذا يجري، وإذ بغالب والسكرتيرة يتشاجران، وقد خرج آخرون من غرفهم لتفحّص ماذا يجري، من بينهم مشرفي والطبيب النفسيّ. أتدخّل لتهدئة الوضع، أطلب من السكرتيرة الابتعاد والسماح لنا بالبقاء وحدنا، يهدأ غالب. لحظات معدودة حتّى أجد نفسي أقف في الوسط، غالب على يميني، والمشرف والطبيب على شمالي، أترجم وأمرّر ما يقولانه لغالب. “غالب، أنا قلتلّك من قبل إنّه شعورك بالغضب بأوضاع مثل الأوضاع اللّي عم تمرقها هو مفهوم وحقيقي، بالرغم من هيك أنت مسؤول عن كيف هذا الشعور بِفَعّلَك وبخلّيك تتصرّف، هذا التصرّف والسلوك المتكرّر غير مقبول هون بالعيادة، وبجبرنا نعيد النظر بإستحقاقيّتك لجلسات العلاج، والدكتور عم بقترح عليك تعيين موعد معه ليساعدك”، أقول هذا وغالب يرمقني بنظرات ممزوجة بمشاعر الخذلان، والاستغراب، والخنقة، والغضب، تُسقط عليّ شعور التماهي الآثم مع المعتدي.
المشهد أعلاه يصوّر جزئيّة من اللقاء غير المتكافئ بيني وبين غالب. أنا أعي أنّ وجود علاقة غير متكافئة لصالح المعالج في التحالف العلاجيّ (Therapeutic Alliance)، هي بالأمر السليم والصحّيّ، إلّا أنّ الأمر يتّخذ طابعًا آخر، عندما نتحدّث عن تحالف علاجيّ بين فلسطينيّين قابعين معًا تحت ذات المنظومة الاستعماريّة الإسرائيليّة.
الوجود الرمزيّ أو الحقيقيّ للمعتدي – كما هو الأمر في هذا المشهد – يعكّر بناء التحالف العلاجيّ، ويجعل المعالج يأخذ دور المعتدي، ويلطّخ منظومة القوى غير المتكافئة بين المعالج والمتعالج الفلسطينيّين؛ الأمر الّذي يؤدّي بي إلى التساؤل حول ما إذا كانت هناك فرصة لمعالجة حقيقيّة ناجحة لغالب في هذا ’المكان‘.
خاتمة
إنّها لمسألة وجود؛ وجودي أنا؛ المعالجة الفلسطينيّة، وجود غالب؛ المتعالج الفلسطينيّ، ووجود هذا الحيّز العلاجيّ بيننا، النابض بالحياة والأمل، في داخل المؤسّسة الاستعماريّة الإسرائيليّة، هو عمل مقاوم يتحدّى العدوّ، ويخلق مساحة حياة في وسط القهر والذلّ.
إنّ المعالج الفلسطينيّ يعلم أنّ وجود الوعي لديه أمر ضروريّ في داخل العلاج، ولتطوّره المهنيّ معالِجًا. وعي كامل ثابت يمنحه القدرة على قراءة عميقة للسياق ولنفسه. هذا الوجود ليس بالأمر السهل في منظومة استعماريّة، يكون بها هو الأقلّيّة؛ فإذ به يجد نفسه مُثْقَلًا، منغمسًا بشعور الاغتراب واللابيتيّة. يدفع أثمانًا باهظة مقابل وجوده الواعي، ويحتاج إلى دعم داخليّ من قيم ذاتيّة ناضجة وواضحة، وإلى دعم خارجيّ من الإشراف والزمالة والحاضنة الجماعيّة الفلسطينيّة؛ للثبات والصمود.
إحالات
[1] Frantz Fanon. The Wretched of the Earth. 1961. Trans. Richard Philcox. (New York: Grove Press, 2004), p. 6.
[2] Sheehi, L., & Sheehi, S. Psychoanalysis under occupation: Practicing resistance in Palestine, (Routledge, 2021).
[3] Winnicott, D. W. Primary maternal preoccupation. The maternal lineage: Identification, desire, and transgenerational issues, 1956, p, 59-66.
[4] Ibid, p 59-66.
[5] Anna freud, The ego and the mechanisms of defence, 1936, p. 117-131.
[6] مصطفى حجازي، التخلّف الاجتماعيّ مدخل إلى سيكولوجيّة الإنسان المقهور، (بيروت، المركز الثقافيّ العربيّ، 2005).
[7] Watson, P. J., & Biderman, M. D. Narcissistic Personality Inventory factors, splitting, and self-consciousness. Journal of personality assessment, (1993) 61(1), 41-57.
[8] Horvath, A. O., & Luborsky, L. The role of the therapeutic alliance in psychotherapy. Journal of consulting and clinical psychology, (1993), 61(4), 561.
[9] مصطفى حجازي، إطلاق طاقات الحياة: قراءات في علم النفس الإيجابيّ، (بيروت، دار التنوير، 2012).
[10] Freud, S., Strachey, J., Cixous, H., & Dennomé, R. Fiction and its phantoms: a reading of Freud’s Das Unheimliche (The” uncanny”). New Literary History, (1976) 7(3), 525-645.
فنّانة وأخصّائيّة نفسيّة تأهيليّة، حاصلة على ماجستير في علم النفس العصبيّ التأهيليّ في «الجامعة العبريّة»، وتعمل مستشارة أكاديميّة في الجامعة نفسها.
المصدر: عرب 48