إسرائيل بين إخفاق 7 أكتوبر ومأزق الحرب البرية
استأنفت حكومة الطوارئ الإسرائيلية، برئاسة بنيامين نتنياهو، عدوانها على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة من النقطة نفسها، التي توقفت عندها قبل التوصل إلى هدنة استمرت سبعة أيام؛ أي لجأت إلى حرب الإبادة والتهجير والعقوبات الجماعية غير آبهة بنصائح شريكتها الإدارة الأميركية التي منحتها الضوء الأخضر لأسابيع عدة، ولكن مع تقليل أعداد القتلى من المدنيين.
ومثلما لم تلتزم حكومة العدوان بهذه النصائح قد لا تلتزم بمدة الأسابيع التي طرحها أنتوني بلينكن، وزير الخارجية الأميركي، وتسير على خطة يوآف غالانت، وزير الحرب الإسرائيلي، التي تتضمن استمرار الحرب لأشهر عدة، وربما تصل إلى عام، إذا استطاعت أن تحقق القوات المحتلة أو تقدمت على طريق تحقيق أهدافها.
ارتقى خلال الأيام الثلاثة بعد الهدنة أكثر من ألف شهيد، وأضعافهم من الجرحى، وواصلت حكومة الحرب عملية التدمير الشامل، ولكن هذه المرة مع ادعاءات أكبر بعدم استهداف المدنيين، معلنة عن مناطق آمنة لم تستثنها من القصف؛ لأنها تستهدف المدنيين الذين يشكلون الحاضنة الشعبية للمقاومة في محاولة لإحداث فتنة بين المقاومة وشعبها، ومن أجل دفع أكبر عدد من الفلسطينيين إلى الهجرة، فالتهجير كان ولا يزال أحد الأهداف التي تعلن حينًا وتضمر حينًا آخر، وهو مرافق لفكر الحركة الصهيونية وسياستها منذ البداية، ويطل برأسه كلما وُجد الظرف مناسبًا.
الملاحظ أن الإدارة الأميركية تعارض التهجير القسري، وهذا يعني ضمنًا أنها لا تعارض “التهجير الطوعي”، بل سبق أن طالب في بداية العدوان أكثر من مسؤول أميركي بفتح معبر رفح للأجانب ولمن يرغب في السفر. كما أن هناك مشروعًا متداولًا في الكونغرس الأميركي يتضمن تهجير شعبنا في قطاع غزة (مليون لمصر ونصف مليون لتركيا ونصف مليون للعراق والأردن).
أحذر من أن بقاء الوضع كما هو عليه لجهة جمع معظم أهل قطاع غزة في جنوب القطاع واستهدافهم، مع استمرار الحديث الكاذب عن المناطق الآمنة، ومن دون بنية تحتية وخدمات عامة ولا تمكين أهل الشمال المهجرين من العودة إلى بيوتهم التي لا تزال صالحة للسكن، وتهجير المزيد منهم كما تطالب المنشورات الإسرائيلية، ومن دون أعمال ولا دراسة ولا طعام وماء ودواء، وفي ظل عدم السماح بتدفق المساعدات الإنسانية أو دخولها بالقطارة؛ سيؤدي إلى هجرة قسرية تسمى “طوعية” عاجلًا أم آجلًا، خصوصًا أن هناك مناطق واسعة في القطاع لم تعد صالحة للاستخدام الآدمي، ولن تكون صالحة حتى لو توقف العدوان وشرع في الإعمار لسنوات قادمة.
تحقيق الأهداف الإسرائيلية مستحيل
مع أن أركان الحرب، وعلى رأسهم نتنياهو، كرروا الأهداف نفسها بعد استئناف الحرب، ولكنهم يدركون أكثر وأكثر أن قدرة جيش الاحتلال على تحقيقها في الوقت المتاح معدومة، وذلك بسبب الصمود الشعبي والمقاومة الباسلة وفتح الجبهة الشمالية والجبهات اليمنية والعراقية والسورية التي تستهدف القوات الإسرائيلية، وتبقي الباب مفتوحًا للحرب الإقليمية التي لا يريدها أحد سوى نتنياهو وغالانت وصقور البنتاغون، وبسبب الضغوط التي تمارس على إسرائيل من الولايات المتحدة وأوروبا وكندا نتيجة الانتفاضة الشعبية العالمية ومحاولة لإنقاذ إسرائيل من نفسها ومن بقائها أسيرة أهداف غير قابلة للتحقيق.
لذلك، حكومة نتنياهو في سباق مع الزمن في محاولة ميؤوسة لتحقيق انتصار، ولو صورة انتصار عبر اغتيال بعض قيادات المقاومة السياسية والعسكرية، أو تحقيق إنجاز نوعي بتدمير مساحات كبيرة من مدينة الأنفاق والسيطرة الفعلية وليست المدعاة على مساحات واسعة، وقتل عدد كبير من رجال المقاومة، بما يوقف أو يحد من إطلاق الصواريخ وتنفيذ عمليات مقاومة تلحق أفدح الخسائر بقوات الاحتلال.
الحرب السياسية أخطر من العسكرية
تواصل القوات الغازية ارتكاب أكبر عدد ممكن من المجازر، وتدمير أكثر ما يمكن من البيوت والمؤسسات العامة والأهلية والخاصة والبنية التحتية، حتى تجعل الكثير من مناطق القطاع غير قابلة للحياة، وحتى تصبح أعباء إعادة الإعمار لما يمكن تعميره، وبناء ما تم هدمه كليًا، عملية مكلفة جدًا وطويلة جدًا، ولن تتم إلا بشروط تسمح باستمرار السعي إلى تحقيق أهداف الحرب بالسياسة والاقتصاد والفتن الداخلية ونشر الفوضى والفلتان الأمني وتعدد السلطات ومراكز القرار، حتى تحقق إسرائيل بالسياسة ما لم تتمكن من تحقيقه بالحرب والعدوان والمجازر.
في هذا السياق، نضع تركيز نتنياهو الآن على إقامة مناطق عازلة أكثر من أي شيء آخر، فهو أدرك أن القضاء على المقاومة، وتحديدًا حركة حماس، مستحيل، كما قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي سبق أن طالب بإقامة تحالف دولي ضد “حماس”، على غرار التحالف الذي أقيم ضد داعش. وأضاف ماكرون أن القضاء على “حماس” سيستغرق عشر سنوات، ولا تستطيع إسرائيل أن تخوض حربًا طوال هذه المدة.
كما صرح لويد أوستن، وزير الدفاع الأميركي، تصريحًا بدا لافتًا، جاء فيه أن الإدارة الأميركية لن تسمح بانتصار “حماس” وأن إسرائيل ستهزم هزيمة إستراتيجية إذا استمرت تقاتل بهذه الطريقة العمياء، وطبعًا التصريح متناقض مع نفسه، ولكن من الملاحظ أنه بعد أن كانت إدارة البيت الأبيض تسعى إلى انتصار إسرائيل باتت تعمل لمنع انتصار “حماس”، وهذا يعني بداية نزول عن رأس الشجرة، وأن دروس الحرب قبل الهدنة كشفت استحالة هزيمة المقاومة، أو على الأقل أنها مكلفة جدًا وصعبة جدًا؛ ما جعل المطلوب الآن منع انتصار “حماس”.
برنياع: إسرائيل لن تنتصر لو سلّم السنوار نفسه
حتى ندرك مغزى تصريح أوستن نورد ما كتبه ناحوم برنياع، المحلل والكاتب الإسرائيلي المشهور والقريب من أجهزة الأمن الإسرائيلية، في صحيفة يديعوت أحرونوت، بالنص: “قال لي أحد وزراء اليمين حتى لو خرج يحيى السنوار من النفق رافعًا يديه، وسار وراءه كل المخطوفين في صف واحد. لن تنتهي هذه الحرب بالنصر”.
وكتب بن درور يميني، وهو كاتب إسرائيلي يميني، في صحيفة يديعوت أحرونوت، مقالًا بعنوان “فشل إستراتيجية المطرقة”، جاء فيه: “من الأفضل أن نعترف، لم تحقق إسرائيل كثيرًا، وبالتأكيد لم تحقق تحولًا. من المحتمل أن 5000 إرهابي من “حماس” قتلوا. جزء فقط من الأنفاق تم كشفها وتحييدها. أما معظم الأنفاق فلا يزال تحت سيطرة “حماس”، حوالي 10% من مباني غزة دمرت، وربما أكثر، ليس واضحًا إن كان هذا الأمر بحد ذاته إنجازًا، لكن “حماس” والجهاد أحياء وموجودون، ولا يزالون حكام القطاع”.
ما يمكن استنتاجه مما كتبه برنياع أن ما حدث في السابع من أكتوبر ألحق أضرارًا بمكانة إسرائيل الإستراتيجية وقوة ردعها، ولا يمكن علاجها مهما تكن نتيجة الحرب، أما ما كتبه بن درور فيؤكد أن سير الحرب، وتحديدًا إستراتيجية المطرقة، التي تعني شن غارات عنيفة قاتلة، وتخلق دمارًا كبيرًا، لم تحقق إلا نتائج قليلة جدًا. ويضيف: “إسرائيل فشلت لأنها لا تسيطر على شمالي القطاع ولا على مدينة غزة، إنما تسيطر فقط على جزء من شمالي القطاع، وهي بعيدة عن السيطرة على مدينة الأنفاق التي لا تزال تحت سيطرة المنظمات الإرهابية”، ويتابع: “بالكاد انتهى وقف إطلاق النار، حتى بدأت “حماس” بإطلاق الصواريخ، صباح الجمعة، وليس من جنوبي القطاع وإنما من شماله”.
يظهر المأزق الذي تعاني منه الحكومة الإسرائيلية من ازدياد المطالبين باستقالة نتنياهو ومحاسبته، والخلافات بين أركان الحرب، كما بدا واضحًا في عدم ظهور نتنياهو ووزير حربه في مؤتمر صحافي مشترك، مع أن نتنياهو طلب من غالانت – كما قال – أن يعقدا مؤتمرًا صحفيًا مشتركًا، لكن الأخير رفض وعقد مؤتمرًا وحده، هذا على الرغم من أن الاثنين في مركب واحد، فهما يتحملان معًا مسؤولية الإخفاق الإستراتيجي الذي حدث في السابع من أكتوبر أكثر من غيرهما، ومع ذلك يبحثان عن النجاة من نتائج التحقيق عبر إلقاء كل منهما المسؤولية على الآخر.
من مصلحة نتنياهو وغالانت إطالة الحرب بحثًا عن نصر لن يتحقق، على الرغم من الألم الفلسطيني الكبير، جراء كل هذه الخسائر البشرية؛ إذ خلفت الحرب نحو 65 ألف شهيد وجريح ومفقود تحت الأنقاض، فضلًا عن أكثر من مليون نازح خارج بيته بلا مأوى آمن ولا طعام ولا ماء ولا علاج، ولا ضمان بعدم التعرض للقصف والموت في أي لحظة.
إن مثل هذه الحرب، يخرج منها الكل خاسرًا، أو ضمن معادلة لا غالب ولا مغلوب، وهذا يحسب لصالح الطرف الضعيف الذي صمد ولم يمكن الطرف القوي من تحقيق أهدافه، فإسرائيل لم تحقق أيًا من أهدافها، فلم تقض على المقاومة، ولا أطلقت سراح الأسرى، ولا تضمن ألا يشكل قطاع غزة تهديدًا لها في المستقبل، وخسرت حتى الآن حوالي 1400 قتيل، من ضمنهم 401 جندي وضابط، منهم 77 منذ الحرب البرية، وآلاف الجرحى، المئات منهم جراحهم خطيرة، وأضعافهم، وأكثر من 240 أسيرًا أطلق سراح عدد منهم في صفقة التبادل، وتشرد مئات الآلاف من الإسرائيليين من بيوتهم من غلاف قطاع غزة ومستوطنات الحدود الشمالية، إضافة إلى خسارة إسرائيل أكثر من 50 مليار دولار في أقل التقديرات، فضلًا عن سفر أكثر من نصف مليون إسرائيلي أثناء الحرب، بقصد الحصول على الأمان أو طلبًا للهجرة.
كما بات الإسرائيليون الآن أكثر شعورًا بالقلق على مصيرهم ومصير دولتهم ومستقبلها في المنطقة، خصوصًا بعد أن أصبحت القضية الفلسطينية أكثر حضورًا من ذي قبل، بعد أن كانت قبل السابع من أكتوبر مهمشة ومنسية، وكان يتصور ويروج أنه يمكن القفز عنها وإيجاد شرق أوسط جديد على حسابها.
أما فلسطين فلم تحقق، مع أهمية ما أنجز وفي ظل الكارثة الإنسانية المفتوحة على المزيد والمعاناة الهائلة، أهداف المقاومة المعلنة حتى الآن والمتمثلة في تحرير الأسرى، ورفع الحصار، ووقف الاعتداءات على الأقصى، ولكنها جعلت الكثير من الناس من الأصدقاء والأعداء على قناعة بأن إسرائيل ليست دولة لا تقهر ولا تهزم، بل يمكن هزيمتها، وأنها من دون الدعم الأميركي المطلق إلى حد الشراكة، هزمت هزيمة لن تقف على أقدامها بعدها.
تبقى الكلمة الأخيرة للميدان، وهو الذي سيحدد من المنتصر والمهزوم، ولو بقيت المقاومة واقفة على رجليها فهذا يكفي لمواصلة الكفاح جولة وراء جولة حتى تحقيق الانتصار. وفي ضوء نتيجة المعركة الحالية سترسم معالم الشرق الأوسط الجديد، وسيتحدد من يحكم غزة الأبية، ومن يستغل غازها، ومن يربح أو يخسر من نجاح أو فشل مشروع قناة بن غوريون ومشروع الممر الاقتصادي الهندي وغيرهما.
المصدر: عرب 48