عن أذرع الرقابة وأذناب الإعلام في إسرائيل
باعتراف حتى هيئات إسرائيلية مختصّة بدرس الإعلام، على غرار الموقع الإلكتروني “العين السابعة”، فإن إسرائيل الوحيدة من بين الدول التي تعتبر نفسها ديمقراطية، لا تزال فيها رقابةٌ عسكريةُ تمارس دورًا صارمًا في تقنين (وتعقيم) كل التقارير والأنباء التي تمتّ بصلة للأمن، وتُنشر على الملأ في وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئيّة. وقد شدّدت من قبضتها على نحوٍ غير مسبوق خلال الحرب الحالية ضد قطاع غزّة المستمرّة منذ يوم 7 أكتوبر.
ومعروفٌ أن الرقابة العسكرية الإسرائيلية أقيمت مع قيام إسرائيل عام 1948، استمرارا لهيئة الرقابة على الصحف التي أسّسها الانتداب البريطاني في فلسطين، استنادًا إلى أنظمة الدفاع لساعات الطوارئ من عام 1945. وهي تُعدّ وحدة تابعة لشعبة الاستخبارات العسكرية (أمان) في الجيش الإسرائيلي، يرأسها ضابط برتبة رفيعة يعينّه وزير الدفاع، ولكنه يكون خاضعًا لتعليمات المؤسّسة الأمنيّة.
خلال الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن العشرين الفائت، كانت سيطرة الرقابة العسكرية الإسرائيلية على الخطاب الأمني مطلقة. وبرزت حالاتٌ عديدةٌ حاولت فيها هذه الرقابة فرض صلاحياتها على الأعضاء المنتخبين في الكنيست. كما أنها كانت تمارس الرقابة على المكالمات الهاتفية، بما في ذلك التي تجريها مختلف وسائل الإعلام، وعلى الرسائل البريدية إلى الخارج ومنه.
ومع تقدّم الوسائل التكنولوجيّة، وأكثر فأكثر مع اتّساع دور وسائل التواصل الاجتماعي، تآكلت سلطتها. وبمرور الأعوام، تقلصت كذلك قائمة المواضيع التي تُلزم وسائل الإعلام بإخضاعها للرقابة سلفًا قبل تعميمها على الملأ.
لا تعتبر هذه الوحدة الذراع الوحيدة لممارسة رقابة الدولة على المعلومات المرتبطة بالشؤون الأمنية، فقبل نحو عقدين، جرى تخويل “المسؤول عن الأمن في المؤسسة الأمنية” D.S.D.E (رئيس مديرية في وزارة الدفاع مسؤولة عن أمن الوزارة، وعن الصناعات والمؤسّسات العسكرية الإسرائيلية في كل ما هو متعلّق بالتعامل مع تطوير أسلحة الدمار الشامل وإنتاجها، ومراكز الدفاع، مثل مركز الأبحاث النووي والمعهد الإسرائيلي للبحوث البيولوجية، والوحدات العسكرية الناشطة في هذه المجالات) ممارسة رقابته على نشر “قضايا أمنيّة ذات حساسية تخصّ الأمن القومي”.
كذلك، لا تردّ المحاكم الإسرائيلية أي طلبٍ للمؤسّسة الأمنيّة لإصدار أوامر حظر نشر معلومات أو وقائع تنطوي على مسّ بـ”أمن الدولة”، بما في ذلك على سبيل المثال نشر معلومات أو وقائع كهذه ظهرت في وسائل إعلام أجنبيّة. وفي ضوء ذلك، تحوّلت المحاكم أيضًا إلى ذراعٍ أخرى من أذرع الرقابة العسكريّة.
ولكن بموازاة كل هذه الأذرع وربما فوقها، تقف ذراع “الرقابة الذاتية” التي تلتزم بها وسائل الإعلام الإسرائيلية نفسها، مثلما يُستدّل من أدائها في الحرب الحالية، وكلها تصطفّ في أوقات الحروب وراء شعار “لا صوت يعلو على صوت الأمن”. الأمن نفسه الذي هو ديانة أخرى إلى جانب الديانة اليهودية لمعظم الإسرائيليين، كما صرّح قبل فترة وجيزة محلّل الشؤون الأمنية الإسرائيلي، يوسي ميلمان، الذي خاض ولا يزال معارك عدّة ضد الرقابة.
وهذا غير جديد كل الجدة، فقبل عدة أعوام، أشادت رئيسة الرقابة العسكرية الإسرائيلية، سيما فاكنين ـ غيل، لدى إنهاء مهمّات منصبها عام 2015 بعد أن شغلته عشرة أعوام وقعت خلالها الحرب الإسرائيلية الثانية على لبنان (2006) وعدّة حروب ضد قطاع غزّة (بدءًا من 2007)، بالصحافيين الإسرائيليين وخصوصًا العسكريين، وبوسائل الإعلام الإسرائيلية عمومًا، وقالت إنها كانت تحمل رأيًا مختلفًا تماما قبل إشغال منصبها، ولكن هذا الرأي تحوّل بمقدار 180 درجة، واكتشفت أنّ الذين يبدون مسؤولية أكبر هم الصحافيون بالذات، لا القائمون على المعلومات التي يجب حفظها طيّ السريّة، فقد حدَث أكثر من مرّة أن قيّمين على معلوماتٍ سرّية هم الذين سرّبوها من دون أن ينتبهوا إلى ما ينطوي عليه هذا من مسٍّ بأمن الدولة، وإلى احتمال وصول هذه المعلومات إلى “جهاتٍ معادية”!. وفي هذا السياق، خصّت صحيفة هآرتس تحديدًا بالمديح.
المصدر: عرب 48