ماذا لو نجحت الثورات العربيّة؟
بات السؤال عن غياب الشارع العربيّ في ميادين التضامن مع غزّة وقضيّة فلسطين، باستثناء اليمن والأردنّ، في وقت تعجّ شوارع عواصم ومدن العالم بالجماهير المتفاعلة والمتضامنة بمستويات غير مسبوقة، محيّرًا للكثيرين ومحلّ عتب وجدل.
وقبل أن يكون سؤالًا تطرحه النخب والناس عامّة، فهو بالنسبة لمن يتعرّضون لمجزرة العصر داخل سجن غزّة المفتوح والمرعب، بمثابة خيبة أمل مريرة. إنّه سؤال المحاصرين والمقاومين والصامدين، الّذي بات، خاصّة بالنسبة للمدنيّين، الأطفال والنساء والشيوخ، رجاء بالبقاء على قيد الحياة، في ظلّ الإصرار الأميركيّ الصهيونيّ على مواصلة حرب الإبادة الهمجيّة.
أمّا من هم موضوع السؤال، أي جماهير الوطن العربيّ أو تحديدًا قواها السياسيّة والشعبيّة، فلا بدّ من فهم ومقاربة واقعهم ليس من باب القصور أو الخمول، إنّما في سياق ما أفرزه تحطّم ثوراتهم، متمثّلًا في عودة الاستبداد وأنظمة التجويع والإفقار، والتبعيّة المشينة.
لا شكّ أن تفوق الحراك الشعبيّ العالميّ، خصوصًا في الغرب، على الحراك الشعبيّ العربيّ، وبمستويات غير مسبوقة، فاجأ الجميع. ففي الوقت الّذي سكت الحراك الّذي بدأ في الأسبوعين الأوّلين من الحرب، في معظم الدول العربيّة، تطوّر الحراك الشعبيّ العالميّ بوتائر عالية، إلى ما يشبه الطوفان.
بل إنّ هذا التفوّق المبهر ومستوى الإبداع في أشكال التضامن الشعبيّ العالميّ، حرف أنظار الكثيرين منّا عن الانشغال بالسؤال عن تأخّر وغياب الحراك الشعبيّ العربيّ، وكأنّه تعويض كاف عن هذا الغياب، أو أكثر دقّة، يأسًا كاملًا من النظام العربيّ الرسميّ، بما فيه نظام أوسلو الفلسطينيّ، الموغل في فجوره وتهافته.
لا شكّ أنّ قضيّة فلسطين هي في قلب وعقل الأغلبيّة الساحقة من جماهير الأمّة العربيّة، ولا جدال في ذلك. ويتجلّى هذا الموقف في الاستطلاعات، وفي الكتابات على السوشال ميديا، وفي أشكال أخرى من التعبير، حيث العواطف جيّاشة، والغضب في ذروته، والاعتزاز بصمود شعب فلسطين في أوضح صورة.
وهنا يلحّ السؤال أكثر حول عدم ترجمة هذا الموقف المتعاطف الجارف إلى فعل شعبيّ ميدانيّ، وسياسيّ، يجبر الأنظمة العربيّة على اتّخاذ خطوات فعليّة لوقف المجزرة ولمساندة الصمود الفلسطينيّ.
ليس وجود الظلم وحتّى الوعي به كافيين لإطلاق ثورة أو حراك شعبيّ عارم. الخبراء والمختصّون يذكروننا دائمًا أنّ هناك مجموعة من العوامل مطلوب توفّرها لحدوث هذا التفاعل؛ اجتماعيّة ثقافيّة وتنظيميّة، موضوعيّة وذاتيّة. نعم، هناك ثورات تتفجّر دون توقّع توقيتها، كما حصل في ثورات الربيع العربيّ المغدورة، بحيث تتشكّل بعد انفجارها، وفي خضمّها لجان تنسيقيّة وقيادات مشتركة، وربّما جبهة شعبيّة موحّدة عريضة واسعة ذات قيادة موحّدة، وإن كانت لا تلاقي النجاح دائمًا في الحفاظ على الوحدة المتشكّلة تحت ضغط اللحظة الثوريّة، أو في الرؤية والإستراتيجيّة وأساليب العمل، فتتعثّر وتخفق أهدافها.
لكن هناك حراكات يمكن التحضير لها وتنظيمها وتوجيهها، عندما تكون قوى منظّمة فاعلة في المجتمع، مثل الأحزاب، أو الحركات، أو النقابات، أو هيئات شعبيّة، وهذا ما نراه في دول العالم المنتفضة شعوبها لصالح قضيّة فلسطين والعدالة. وهذا أيضًا ما شهدناه في الأشهر الأولى لمعظم الثورات العربيّة قبل أكثر من عقد، قبل أن تتعثّر وتنتهي بكوارث لأسباب تتعلّق بوحشيّة الأنظمة، وبالمؤامرات وبالتدخّلات التدميريّة الخارجيّة، وبقصور وخلل في العامل الذاتيّ الّذي حرّك الثورة، أو من التحق بها لينطق باسمها.
لقد جاء حدث 7 أكتوبر الفلسطينيّ في ظرف كانت أنظمة الاستبداد العربيّ وأنظمة الثورات المضادّة، قد تمكّنت مرّة أخرى من سحق المجتمع وتجريف الحياة السياسيّة، وتعبيراته السياسيّة الصاعدة والمتجدّدة، فلم تتح لها بأن تنمو وتزدهر وتتحوّل إلى بديل إنسانيّ تحرّريّ، وتنمويّ مستقلّ.
ويغرينا السؤال التالي، ماذا لو نجحت الثورات العربيّة، كيف سيكون وجه العالم العربيّ، وكيف كانت ستنعكس على الموقف من فلسطين. ألم يكن لو نجحت الثورات العربيّة في إطاحة النظام القائم، ومن إعادة تنظيم المجتمعات والمؤسّسات العربيّة، على أسس ديمقراطيّة، وعلى قاعدة التنمية الاقتصاديّة المستقلّة، وتبنّي المساواة والعدالة الاجتماعيّة، أن تعيد فلسطين إلى خانتها الأولى كقضيّة عربيّة مركزيّة، وقضيّة تحرّر وطنيّ من نظام كولونياليّ؟ وهل كانت إسرائيل ستستفرد بأهلنا في غزّة، وتقف أنظمة العار، أنظمة الثورات المضادّة متفرّجة على المذبحة، وبعضها ينتظر القضاء على المقاومة؟ بل هل كانت حركة حماس ستحتاج إلى تلك العمليّة الصاعقة، وتضطرّ إلى التضحية بالمئات، وربّما بالآلاف من مقاتليها، وتدفع إسرائيل إلى الردّ بوحشيّة وهمجيّة منتهزة الفرصة لمحاولة تفعيل خطّة قديمة تتمثّل بالتهجير والاقتلاع، وقتل وجرح عشرات الألوف، انسجامًا مع مشروعها الاستعماريّ الإحلاليّ والفاشي.
ها هي الجماهير العربيّة، مرّة أخرى تجد نفسها حائرة أو مرتدعة عن التظاهر من أجل حقوقها اليوميّة، الحياتيّة والسياسيّة، وعن نقل غضبها العارم على حرب الإبادة الصهيونيّة، والتفاعل الشعبيّ والميدانيّ الواسع مع المقاومة الفلسطينيّة. أي أنّها تجد نفسها أمام الأسباب ذاتها الّتي فجّرت ثوراتها قبل 12 عامًا، إخفاق الأنظمة ببناء دولة مؤسّسات حديثة وإنسانيّة، تصون كرامة الإنسان العربيّ، والإخفاق بردع العدوان.
والآن، وهي تشهد الشعب العربيّ الفلسطينيّ غارقًا في محنته ومنشغلًا في صنع ملحمته، بالتأكيد تتفاعل هذه الجماهير وجدانيًّا مع معاني هذا التراجيديا الكبرى، وربّما تستعيد ذاكرتها لدروس الثورات العربيّة الّتي زلزلت الوطن العربيّ وشدّت أنظار العالم. بل إنّ هذه الجماهير تكتشف وهي ترى أسطورة صمود غزّة، أصغر وأفقر منطقة في العالم، زيف ادّعاءات هذه الأنظمة المرتبطة باتّفاقات استسلام، بأنّها غير قادرة على الدفاع عن فلسطين، وعن سيادة الدول العربيّة المنتهكة من الخارج.
ليس كلّ ما تقدّم تبريرًا لهذا القصور والغياب للتفاعل الشعبيّ الميدانيّ، بل هو محاولة لتحليل وفهم الظاهرة. ويتطلّع الإنسان الفلسطينيّ إلى أن تتمكّن القوى والشخصيّات والهيئات الوطنيّة والديمقراطيّة واليساريّة، الدينيّة والمدنيّة، من الانشغال مجدّدًا في كيفيّة التغلّب على العوائق، وأهمّها أخطرها ذلك القمع والتخويف الّذي تمارسه سلطات الأنظمة العربيّة، خاصّة تلك المطبعة، وتلك المتصهينة قولًا وفعلًا، وتبادر إلى حراكات شعبيّة مستدامة للضغط على الأنظمة.
قضيّة فلسطين هي قضيّة فلسطينيّة وطنيّة وإنسانيّة عادلة، وهي قضيّة عربيّة تحرّريّة، مرتبطة رمزيًّا بتحرّر الوطن العربيّ من أنظمة الاستبداد، ومن التبعيّة للإمبرياليّة والصهيونيّة. والمستجدّ الأهمّ، وهو في غاية الأهمّيّة، أنّ فلسطين باتت قضيّة عالميّة ترى فيها شعوب العالم رمزًا للظلم العالميّ، ورمزًا للتحرّر الإنسانيّ، وليس فقط للفلسطينيّين واليهود، من نظام استعماريّ إباديّ، مرتبط عضويًّا بنظام عالميّ كولونياليّ. وهذا يفرض على وكلاء التغيير والمنخرطين في الفعل النضاليّ الفلسطينيّ ملاءمة خطابهم السياسيّ ليكون أكثر وضوحًا ودقّة في بعده التحرّريّ الإنسانيّ الشامل، كنقيض للعقليّة الإباديّة والعنصريّة، واستعدادًا لمواصلة المعركة العالميّة الشاملة من أجل العدالة والإنسانيّة.
المصدر: عرب 48