“تعطيل الحريات بذريعة الحرب أثبت أننا أمام ديمقراطية عرجاء لليهود فقط”
قامت دولة إسرائيل منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الذي صادف إعلان الحرب على غزة، بتعطيل مطلق لجميع الحريات الديمقراطية المتمثلة بحرية التعبير عن الرأي وحرية العمل والتعبير السياسي بكافة أشكاله، وهو ما تمثل بقمع واعتقال كل من مارس هذه الحريات ميدانيا من خلال التظاهر أو المشاركة في وقفات احتجاجية على الحرب، أو من خلال التعبير عن رأيه المعارض عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
تغطية متواصلة على قناة موقع “عرب 48” في تلغرام
وتضافرت جهود مؤسسات الدولة من شرطة ونيابة عامة ومحاكم، في فرض هذا الإجراء غير المسبوق على المواطنين الفلسطينيين في الداخل وفي القدس، عبر استعمال قبضة حديدية ترجمت بقمع واعتقال المشاركين في تظاهرات أو وقفات احتجاجية على قلتها، وناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي، أعربوا عن رأيهم المناوئ للحرب والمتضامن مع شعبنا الفلسطيني في غزة، حتى لو كان ذلك من خلال صورة أو آية قرانية أو حديث نبوي جرى نشره بشكل مباشر أو مشاركته أو حتى تسجيل إعجاب به.
وقد رصد مركز “عدالة” في الفترة الواقعة بين السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، و13 تشرين الثاني/ نوفمبر، أكثر من 251 حالة اعتقال أو تحقيق أو تحذير، 121 منها بسبب نشر على مواقع التواصل الاجتماعي و31 بسبب التظاهر، قدمت من بينها 76 لائحة اتهام وجرى تمديد 70 حالة اعتقال حتى انتهاء الإجراءات القانونية.
كما ساهمت المؤسسات العامة الرسمية شبه الرسمية، خاصة أماكن العمل والتعليم وفي مقدمتها المستشفيات والجامعات، في المشاركة بفرض حالة الترهيب تلك، حيث قامت بفصل وإبعاد وملاحقة المئات من العمال والطلاب العرب لمجرد التعبير عن رأيهم من الحرب، بينهم أطباء ومحاضرين كبار.
وتفيد اللجان الطلابية العربية بأن الجامعات والكليات اتخذت ما تسمى بـ”إجراءات تأديبية” ضد 160 طالبة وطالبا عربيا، بينما أفاد تقرير لمركز “عدالة” صدر في 30 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، بأنه تلقى حتى 25 من الشهر ذاته، توجهات من 113 طالبا وطالبة من 33 مؤسسة أكاديمية، اتخذت ضدهم إجراءات تأديبية على خلفية نشر منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي، يمثل عدالة 93 منهم أمام محاكم الطاعة التابعة للجامعات والمعاهد العليا.
وبعد مرور أكثر من شهرين على الحرب، ما زالت المحكمة العليا الإسرائيلية تصر على إسباغ الشرعية على هذا الواقع، بتأييدها لتوجه الشرطة مصادرة حق التظاهر والاحتجاج الذي فرضته قواتها بقمع مظاهرة أم الفحم واعتقال العشرات من المشاركين، ولاحقا بمنع “وقفة القيادات” في الناصرة، واقتياد المشاركين فيها للتحقيق، وهو ما ترجمته العليا مؤخرا برفض التماس لجنة المتابعة تنظيم وقفة احتجاجية على الحرب في مدينة الناصرة، وقد كانت الاقتراحات البديلة التي سوغت فيها المحكمة رفضها، “مضحكة” بتعبير مدير مركز “عدالة”، حسن جبارين، حيث اقترحت تنظيم النشاط في أحد أحراش الناصرة أو في أحد أيام الأحد الذي يصادف عطلة المدينة، وهو ما اضطر المتابعة إلى سحب الالتماس.
حول هذه الممارسات وانعكاساتها على مجتمعنا الفلسطيني في الواقع السياسي الإسرائيلي وتداعياتها المستقبلية، كان هذا الحوار مع المحامي المختص في القانون الدستوري، محمد دحلة:
“عرب 48”: دعنا نتوقف عند الأسباب التي كثيرا ما يتم توظيفها للتخفيف من قسوة النتائج وتعزية النفس بعض الشيء، خاصة وأننا نواجه ربما وضعا غير مسبوق في علاقتنا مع الدولة، يعيدنا إلى نقطة البداية وهي فترة الحكم العسكري…
دحلة: هناك سببان مركزيان يمكن الإشارة إليهما في هذا السياق، الأول قرب المسافة الزمنية بين الحرب الحالية وبين “هبة الكرامة” التي حدثت في أيار/ مايو 2021، خلال معركة “سيف القدس” أو ما يسمى إسرائيليا بـ”حارس الأسوار”، وتجسدت فيها المقولة التي عرفت بـ”وحدة الساحات”، وجرى خلالها تصنيف الداخل الفلسطيني كجبهة مواجهة في أي صدام مع غزة أو مع أي طرف فلسطيني، ونحن نذكر أن من يعرف بوزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، كان يتحدث ويتنبأ ويستعد عبر تسليح المجتمع الإسرائيلي لـ “حارس أسوار 2” منذ فترة طويلة.
السبب الثاني، يرتبط بالشعور بالهزيمة والفشل العميق الذي أحدثه السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، والذي وقع على أرضية الخوف المعشش لدى صناع القرار الإسرائيليين من “حارس أسوار 2″، ولذلك استعملوا كل “الأسلحة التي بجعبتهم للقيام بوأد أي ردة فعل شعبية مساندة أو متضامنة مع غزة في الداخل”.
“عرب 48”: تريد القول إن “العتمة جاءت على قد إيد الحرامي” على حد تعبير مثلنا الشعبي، وإن الحرب خلقت ظروفا مناسبة لبن غفير لتحقيق حلمه وتطبيق سياسته ضد المجتمع الفلسطيني في الداخل بأبشع صورها؟
دحلة: بالتأكيد أن وجود مثل هذا الشخص في مثل هذا المفصل الهام كمسؤول عن قوى الأمن الداخلي، له دور كبير في قمع الحريات، ولكن الشعور بالعجز والخوف الوجودي، كما عبر عنه بنيامين نتنياهو، سرى من الحكومة ووزرائها إلى مختلف مفاصل الدولة وصولا إلى الجهاز القضائي والمحاكم بمختلف درجاتها.
وقد ترجم ذلك بإعلان حالة طوارئ خاصة، وتغيير الكثير من القوانين للحد من الحريات، وذلك بادعاء التخوف من انزلاق الوضع في الداخل وفي الأراضي المحتلة منذ عام 67، وهناك، كما تعلم، يستطيعون تغيير البنية القانونية بجرة قلم، فقد قاموا على سبيل المثال بتحديد الحد الأدنى للعقوبة على منشور في الفيسبوك لمدة عام، وحتى تعطيل المحاكم في الفترة الأولى للحرب يمكن أن ينظر إليه كنوع من أنواع تعطيل الحريات، كون اللجوء إلى المحاكم هو من أهم الحقوق التي يتمتع بها المواطن في النظام الديمقراطي.
وعلى مستوى التعامل مع الأحداث التي تندرج في إطار الحريات، سواء مظاهرات، حشودات ووقفات احتجاجية، بالإضافة إلى النشر على وسائل التواصل الاجتماعي، استعملت يد من حديد، وكان هناك توجيه واضح من المستتشارة القضائية ومن المدعي العام، ناهيك عن الوزير والقائد العام للشرطة، الذي صرح بأن “كل من يتظاهر سنحمله في حافلة ونرسله إلى غزة”.
“عرب 48”: ولكن الأمر وصل إلى المحاكم التي استقامت مع سياسة الحكومة وشرطتها القمعية التي يقودها بن غفير، وأخذت تمدد الاعتقالات حتى انتهاء الإجراءات القانونية على منشور أو حتى على مشاركة أو إبداء إعجاب على فيسبوك؟
دحلة: المحاكم أيضا وصلتها حالة الهلع الأولية التي أصابت كل مواطن يهودي، وكانت مدفوعة أيضا بموقف النيابة العامة الحاسم بضرورة ملاحقة كل شخص يحاول أن يحتج على الحرب أو فسرت أقواله على أنها داعمة للمقاومة، وهذا كان ظاهرا للعيان، دون حاجة إلى اللجوء لنظرية المؤامرة بأن “الشاباك” يتدخل، عنددما ترى أن كل محامي النيابة يأتون إلى المحاكم ويطلبوا الاعتقال حتى انتهاء الإجراءات القانونية في كل ملف سواء كان لمواطن عادي او لممثلة وفنانة على غرار ميساء عبد الهادي ودلال أبو آمنة، أو لمحامي على غرار أحمد خليفة وساري خورية.
كما أن الطلب يذيل بتعبير “بإيعاز من المدعي العام للدولة” وهو ما يعني أن هناك سياسة يتم التعبير عنها صراحة بالقول “إننا نريد في كل ملف أن يكون المتهم خلف القضبان”، وهذه السياسة تصل إلى المحكمة وتفرض نفسها على القضاة، خاصة أن بعض القضاة الذين حاولوا الاستمرار في العمل وفق النظام القضائي المعتاد كانوا يهاجمون من داخل أروقة المحكمة بالاستئنافات، ومن خارجها بالتهجم عليهم من قبل السياسيين وعلى رأسهم الوزير بن غفير.
“عرب 48”: هذا الوضع حول المحاكم بما يفترض أنها تمثله من سلطة قضائية مستقلة، إلى مجرد أداة في أيدي السلطة التنفيذية، وحول القضاة إلى مجرد ختم مطاطي بأيدي النيابة العامة والشرطة؟
دحلة: يجب ألا ننسى أن المحاكم هي بالتالي جزء من المؤسسة، ولكن حتى الحيز المتاح عندما تكون مقاضاة بين الشرطة والدولة وبين المواطن، فإن قدرة المحكمة على حماية المواطن قد تضاءلت إلى أبعد الحدود وتماهت المحكمة مع الدولة وفقدت حياديتها واستقلاليتها وجرأتها المتوقعة من أجل حماية المواطنين البسطاء، لأن الإنسان العادي أمام هذه الآلة الكبيرة المسماة دولة، تمتلك شرطة ونيابة عامة وسلاحا، يلجأ إلى المحكمة كملاذ يفترض أن يوفر له الحماية عن طريق قواعد اللعبة الديمقراطية والقانون.
والمؤسف أن الموضوع لم يقتصر على الملفات الجنائية كما نعرف، ولم يقتصر أيضا على المحاكم الدنيا فقط، بل وصل إلى المحكمة العليا التي رفضت التماسات للتظاهر قدمت ضد الشرطة وجبنت أمام “هول الحدث” وأمام الرغبة بتطبيق المقولة العبرية: “اصمتوا إنهم يطلقون النار”، وتذرعوا بأنه لا تتوفر قوات شرطة كافية لحماية مثل هذه التظاهرات، أو التخوف من انزلاقها وتوسعها، علما بأن الهدف كان واضحا وهو وأد أي محاولة من عرب الداخل للخروج إلى الميدان.
وقد رأوا أن الميدان هذه المرة لا يقتصر على المظاهرات والعمل الشعبي فقط، كما كان عام 2021، بل يتعداه إلى وسائل التواصل الاجتماعي، وإن كانوا لم يذهبوا حد منع “فيسبوك” و”تيك توك” وغيرها من المنصات، فإنهم وضعوا حدودا ضيقة جدا جعلت الناس تخاف من كتابة أي شيء عن الحرب.
“عرب 48”: إجراءات القمع لم تقتصر على المستوى الجنائي بواسطة الشرطة والمحاكم، بل تعدتها إلى ما تسمى بـ”إجراءات تأديبية” في أماكن العمل ومؤسسات التعليم العالي، تمثلت بالفصل والإبعاد والتوبيخ وغيرها، التي طاولت المئات وربما الآلاف من العمال والطلاب في الورش والمصانع والمستشفيات والجامعات…
دحلة: صحيح، التضييق على الحريات طاول عدة مستويات وأهمها أماكن التعليم والعمل والملاحقة على لقمة العيش ومقعد الدراسة، وإن كنا نعرف عن 200 – 250 طالبا وطالبة تم فصلهم من المعاهد العليا فإننا لم نرصد مئات الحالات للفصل من العمل لأتفه الأسباب مثل كتابة آية قرانية أو حديث نبوي على وسائل التواصل الاجتماعي.
“عرب 48”: اللافت في هذا المجال أيضا أن النقابات التي من المفترض أن تحمي العمال والأطباء والمحامين والطلاب وقفت ضدهم أيضا…
دحلة: هذا جزء من الحالة العبثية التي خلقت، ويكفي الإشارة في هذا الصدد إلى عشرات الشكاوي التي قدمت لـ”لجان السلوك” في نقابة المحامين ضد محامين عرب، وهو نهج اتبع في مهن أخرى أيضا مثل الطب والتمريض، ناهيك عن الجبهة غير الرسمية المتمثلة بالمجموعات التي بدأت تهاجم المواطنين العرب عن طريق الذباب الإلكتروني على مواقع التواصل الاجتماعي، ومحاولات “تلطيخ السمعة”.
“عرب 48”: ما هي تداعيات ما نشأ على وضعية العرب في الداخل بعد الحرب؟
دحلة: بالعادة النفوس “تروق” والمؤسسة تهدأ، وربما يكون محاسبة للنفس، ونحن نعرف أن الحيز الديمقراطي في هذه الدولة كان يتوسع عندما يشعرون أنهم منتصرون، بمعنى أن الموضوع ليس حقوقا في نظام ديمقراطي، بل من باب القوي المقتدر والعفو عند المقدرة، لذلك إذا انتهت الحرب وظلوا بشعور الهزيمة والفشل فإنه سيأخذ بعض الوقت لعودة الأوضاع لما كانت عليه، هذا علما بأن هناك الكثير من العقلاء الذين يعرفون أن الضغط يولد الانفجار وهم يتعاملوا بهذا المنطق حتى مع الضفة وغزة، وأعتقد أن لديهم مؤسسات يمكن ان تستنتج العبر.
“عرب 48”: النتيجة أن ديمقراطيتهم ظهرت عارية؟
دحلة: نحن نعرف أنها ديمقراطية عرجاء ولليهود فقط وقد توجت ذلك بتشريع قانون القومية العنصري.
“عرب 48“: ماذا تقول عن النقاش الذي أخذ صبغة قانونية حول إدراج أسيرات الداخل في صفقة تبادل الأسرى؟
دحلة: لقد كان موقفي مختلفا عن الموقف الذي أعلنه رئيس لجنة المتابعة، محمد بركة، ومدير عام “عدالة”، حسن جبارين، وقد عبرت عنه على الملأ، ولم أرَ أي إشكال قانوني في إدراج أسيرات الداخل ضمن الصفقة، لجملة أسباب، أولها يتعلق بموضوع معاملة الأسرى والسجناء والمعتقلين والتي لم نشهد لها مثيل في الماضي من الضرب والتنكيل والإهانات، في ظل تعتيم وصمت كامل.
والثاني أن خروج المعتقلات والأسيرات لم يقترن بتوقيع أي مستند أو ورقة يشير إلى الخروج بصفقة تبادل مع حماس أو أنهم يتماثلون مع حماس أو يدعمونها، خاصة وأن حماس طالبت بإطلاق سراح أسرى جميع الفصائل وغير المنتمين، وأن الأسماء رشحتها مصلحة السجون ووافقت عليها حماس.
ثالثا، أنه من ناحية قانونية فإن طريقة إطلاق سراح المعتقلات والأسيرات كانت عن طريق إما إلغاء لائحة الاتهام أو العفو أو تخفيض المحكومية من قبل رئيس الدولة، ما يعني إغلاق الملف، ومعروف أنه في حال العفو فإن الملف يشطب من السجل الجنائي، كما أنه لم يطلب من المحررين توقيع أي مستند أو تعهد، كما جرى في صفقة “وفاء الأحرار” التي أعيد اعتقال بعض محرريها بحجة خرق شروط إطلاق السراح وإعادتهم لمواصلة محكوميتهم.
“عرب 48”: وماذا بشأن التخوفات، التي جرى الحديث عنها، من سحب المواطنة؟
دحلة: موضوع سحب المواطنة هو تخوف في غير مكانه لأن القانون الموجود اليوم الذي يعطي إمكانية الشروع بسحب المواطنة هو قانون واضح جدا ومعقد وضيق جدا أيضا، ويضع شروطا صعبة على سحب المواطنة منها وجود مواطنة ثانية، لأن المواطنة هي مقدمة كل الحقوق، وبالتالي فإن سحب المواطنة مسألة غير واردة.
الموضوع الآخر المتعلق بالوصمة لهؤلاء المعتقلات وتأثيرها على أماكن العمل والتعليم، هو تخوف مفهوم ولكن لا يمكن استعماله ضدهن وإذا حدث ذلك فبالإمكان تفنيده قانونيا خاصة أن بعضهن لم يتم إدانتهن والبعض الآخر شطبت لوائح الاتهام التي قدمت ضدهن، كما أن دخولهن للصفقة يعني شطب لوائح الاتهام من السجل الجنائي وبالتالي هذا التخوف غير وارد، وعلى العكس من ذلك، فإن إدانتهن في المحكمة هو ما سيبقي هذه الوصمة موثقة في السجل الجنائي.
المصدر: عرب 48