ضياع للمعنى لا يمكن إيقافه
هنا المجموعة الثانية من النصوص النثريّة والشعريّة الّتي وصلتني من كاتبات وكتّاب فرنسيّين، أو فرنكفونيّين يكتبون بالفرنسيّة، استجابوا لدعوة الكتابة الّتي أطلقتُها على صفحة فيسبوك؛ من أجل الكتابة عن قطاع غزّة في سياق الحرب الإسرائيليّة الّتي تُشَنّ على بشره وحجره منذ السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر).
تأتي ضرورة هذه المبادرة الأدبيّة نتيجة قلّة أصوات المثقّفين الّتي علت في فرنسا؛ للتعبير عن موقفها ممّا يحدث من فظائع في فلسطين، لا سيّما في بداية الحرب على القطاع. حتّى أنّ بعض المثقّفين العرب في فرنسا عبّروا عن استنكارهم لهذا الصمت لدى المثقّفين الفرنسيّين؛ فقد صمت العديد منهم رغم أنّ شوارع العواصم الأوروبّيّة امتلأت بالصراخ والتنديد. تكشف هذه النصوص عن وجود مثقّفين فرنسيّين وفرنكفونيّين، لم يتوانوا عن التعبير عن موقفهم الإنسانيّ الصلب والمتواصل، واستنكارهم الصارخ، الّذي لا غموض فيه، للجرائم الّتي تحدث في فلسطين.
بعض هذه النصوص كُتِب خصوصًا لهذه المناسبة، القليل منها كُتِب قبل السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر)، وهذا السياق يشكّل فرصة ومناسبة لنشرها. تمتاز النصوص بما امتازت به المجموعة الأولى من النصوص الّتي نُشِرَت في فُسْحَة- ثقافيّة فلسطينيّة الشهر الماضي؛ فقد كتبها كتّاب وشعراء يعون فداحة الألم الإنسانيّ الّذي يعيشه قطاع غزّة أمام عيون العالم؛ هذا المكان الّذي فشل أمامه نظام حقوق الإنسان، وقوانين الحرب، ومبادئ الصحّة العالميّة، والمعاهدات الدوليّة، لكن لم تفشل أمامه النصوص، رغم عجزها عن نجدة طفل جريح، فلها على الأقلّ جدواها الأخلاقيّة، الّتي عادةً ما نفتقدها في لحظات عصيبة كهذه.
ستيفان جورانيك
Stéphane Jurancis
إلى رولاند نوريي
تكملة فلسطينيّة
قَطْعًا قبل كلّ شيء ذلك اليوم
خارج الحدود
الّتي ظلّتْ تضيق باستمرار
حزامًا من الأسمنت
ومن الخوف
ذلك اليوم
في السهل الدخانيّ
والروائح القرمزيّة
حيث لا يمكن أن تقرأ
إلّا النبوءة السحيقة
لضياعٍ للمعنى لا يمكن إيقافه
شيء ما حصل
ليس له اسم
لكن هنا
على طول الشاطئ
وفي الأمس أيضًا
الصيّادون في عودتهم
من هذا الشريط الضيّق من البحر
رستْ قواربهم
محمّلةً بحمولة هشّة من الأحلام
تحت عين البحر اللامبالية
حيث يحرث المزارعون
حقولًا نحيفة من الأرض
ملأتْها أيدٍ عارية
بحفنة قليلة من صناديق الأمل
تحت تهديد البرق
نعم هنا
في هذه المدينة
المحاصرة بالتاريخ
في جغرافيّتها الساحليّة
حيث ظلال الأحياء
رقصتْ أحيانًا
على الجدران الرمليّة
بعلامات من رذاذ
هي الآن من الموتى
المزدحمين من ساعة إلى أخرى
تحت أنقاض المباني
ينهضون إلى ما لا نهاية
على حصى السماء.
عائلات بأكملها
دمها يغرق
في اللحظة المجمّدة
حيث ينقلب العقل
عند كلّ حدّ تمّ تجاوزه
عبر قسوة العقائد
الّتي تخنق الأرض.
*
سعاد لعبيز
Souad Labbize
(1)
أجلس في البار
وأتحدّث عن فلسطين
لا تظنّي أنّني لا أتقن الحديث
عن الحبّ
تفيض البيرة
على أطراف كأسكِ
شفتاي تتحرّكان ذهابًا
وإيابًا إلى غزّة
مرورًا بدمشق
بدون أن أختصر المسافة
بين لساني والقطرة
الّتي تنزلق في حنجرتك.
(2)
التمعّن في الغبار
بعد مرورهم
لا ظلّ مألوفًا
ينتصب
في أعقابهم
تُرِك الباب مفتوحًا
في انتظار مفاتيح الأمس
اليوم لديّ حرب
كما في الأمس وكما العام 48
تُرِكَ الباب مفتوحًا
فتمرّ الدبّابات!
(3)
لماذا تركتِ غزّة وحيدة في عزلتها؟
أقول للقصيدة المتمرّدة
إذا لم يتغيّر شيء
منذ الشاعر وأبيه
اسمحي لي إذن أن أختفي
في ظلّ الصفحة.
*
مارك بوركو
Marc Porcu
فلسطين
أنتِ، يا طفلًا بلا وجه
أنتِ في قلب قصيدتي
لقد وجدناكِ في المنفى
مع حفنة من وطنك
كنتِ مجرّد منفيّ
يسترشد بالمواسم.
لقد وضعتُ في جوعكِ
أمل الغد
قوّة الحصّاد
على عتبة منزلك.
أنتِ، يا طفلًا بلا وجه
تحدّقين في الحجارة
ما تبقّى من القرية
تحت رياح القنابل.
على حافّة الصحراء
ماذا يمكنكِ أن تبني
عندما يكتب العالم
نهاية قصّتكِ.
أصغيتُ لمحمود درويش
هذا الشاعر
كان لديه وجهكِ
عندما قال:
“سُلِبْتُ كروم أجدادي
وأرضًا كنتُ أفلحها
أنا وجميع أولادي
ولم تتركْ لنا… ولكلّ أحفادي
سوى هذي الصخور
فهل ستأخذها
حكومتكم كما قيلَ؟
لقد توقّفتِ عن اللعب
في قلب قصيدتي
عندما اتّشحتِ بوجه
أخيكِ المأخوذ
إلى نهاية المدافع الرشّاشة.
على صوت شاحنة.
قصائدي لا تستطيع أن تفعل شيئًا
كي أقيكِ من الرصاص
أنفاسها ضعيفة للغاية
كي تهتف بذاكرتكِ.
لقد كسروا عظمكِ
أنتِ، يا طفلًا بلا وجه
لقد التقطتِ الحجارة
ورفعتِ بصركِ
وعندما ردّدتِ
كلمات درويش:
“حذاري… حذاري
من جوعي ومن غضبي”
كشفتِ وجهكِ في وجه العالم
لقد كان فجر وفاتكِ
ونهاية القصيدة.
*
فانسون كالفيه
Vincent Calvet
كلمات المرأة الفلسطينيّة العجوز
اعتقدتُ أنّني لن أرى البحر أبدًا
يا صغيرتي
يومًا ما توقّفتُ
عن الحلم وأصبحتُ جافّة
مثل عشب الصيف
هشّة مثل الأوراق
مثل فروع الكرمة
والأغصان في الموقد المحترق
المصحوب مع الأسف.
اعتقدتُ أنّني لن أراهم يرقصون أبدًا
أمواج من الفضّة
يا صغيرتي
القوارب الّتي تعود
محمّلة بالتوهّج
أو بالأسماك الذهبيّة
السفن الملوّنة
أنا المحاصرة بين هذه الجدران الأربعة
من الأسمنت، من الكراهية
والمحرومة من الأب وأرض الأجداد.
في أحد الأيّام توقّفتُ عن غناء النزهة
الّتي كانتْ تهمس بها
جدّتي في نور بيت لحم البهيّ
في الخريف وفي الحضور
لحياة بالإجماع
يا عزيزتي.
حُرِمَ قلبي منذ الصغر من هذه الطفولة
ومن حديقة عائليّة كاملة
أين أُريح أيّامي المجنونة؟
كأنّها صارتْ مثل قطعة حديد
صدئ.
هل تعلمين جميلتي
لو لم أرَ أو أسمع أو أعرف
أين الصالحون في هذا المربّع
الّذي يُسَمّى دولة إسرائيل.
هذا المجال المحبط
المليء بالشائعات الباردة
الّذي يغلق نفسه على كلّ شخص
لكنّني أعلم أنّه سيظلّ هذا الأمل الحيّ
أنّ أولئك الّذين هناك
أولئك الّذين لم يبيعوا روحهم
لدفن روحي تحت الخرسانة المسلّحة
أولئك الّذين لم يتنكّروا للإنسانيّة
الّتي نشترك فيها
ويقدرون على أن يمدّوا أيديهم للأطفال
تمامًا مثلكِ.
وحتّى الأذلّاء القدامى
والمعذّبين القدامى
مع أسيجتهم المعقّدة
يمكن أن يفتحوا لكِ الباب
عزيزتي الفتاة الصغيرة المعشوقة
حفيدتي
طفولتي العائدة
إلى نفسي الّتي حُرِمَتْ منها
ومن البيت والبحر
طوال هذي السنوات.
أولئك الّذين لمّا ينكرونا بعد
أولئك الّذين لمّا يمحونا بعد.
*
ستيفاني ديجولس
Stephanie Dujlos
قالتْ لويزا، جارتي في غزّة عام 2009: “الخروج من غزّة ليس مثل مغادرة أيّ مكان آخر، إنّه إحساس بالتمزّق؛ لأنّنا نفكّر في الأشخاص الّذين نحبّهم، ونقول لأنفسنا: قد يموتون”.
عندما غادرت غزّة نهاية عام 2009، حلمت ليلًا بأكثر الأحلام قوّة في حياتي، وقد دوّنتها في ملفّ، ثمّ فقدته في أحد هذه الأحلام، كانت بعض الفتيات الصغيرات من ورشة الرقص الّتي أشرفت عليها يرافقنني سيرًا على الأقدام، على طريق ترابيّ يؤدّي إلى حدود رفح. كانت بينهنّ الأصغر والأكثر نحافة؛ حنين. لا أتذكّر أسماء الأخريات، لكنّي أتذكّر أنّ إحداهنّ استدارت فجأة في الطريق، عندما كنّ يتّجهن شمالًا، وتوسّلَت إليّ أن أطلب من الله أن يوقِف “كلّ هذا”.
لقد أشرفت على ورش فنّيّة في كلّ مكان، من الشمال إلى الجنوب، لكن تَصادف أنّني كنت أذهب إلى مخيّم جباليا في أغلب الأحيان. كلّ الفتيات الحالمات الصغيرات كنّ من جباليا. كانت إحداهنّ قد فقدت خمس شقيقات في ليلة واحدة خلال حرب 2008-2009، بينما خرجت هي من تحت الأنقاض بصوت رجل أجشّ وخشن.
جباليا ليست أكثر من حقل من الخراب، لا أعرف كم من الفتيات الصغيرات والمراهقات والنساء، اللواتي عملت معهنّ هناك، ما زلن على قيد الحياة. لديّ دفاتر ملاحظاتي في مكان ما مع جميع هذه الأسماء…. لا أجرؤ على فتحها.
في غزّة خطرت لي فكرة ’مشروع‘ صغير: أردت أن أسأل الناس أين، ما زالوا، يرون الجمال؟ كنت سأعدّ قائمة بإجاباتهم في شكل لائحة. لا بدّ من أنّ الفكرة مستوحاة من جملة رامبو في «فصل في الجحيم»: “في إحدى الأماسيّ، أجلستُ الجمال على ركبتيّ[…] ولعَنتُه”. بدأت بسؤال أصدقائي، كتبت إجاباتهم على أوراق فقدتها لاحقًا. أذكر أنّ أحدهم كان قد أجاب: “النساء المسنّات في المخيّم، وهنّ جالسات على عتبة البيت، يمشّطن شعورهنّ”.
في غزّة، خطرت ببالي فكرة كتابة ثلاثة نصوص، عن ثلاث عائلات نجت من الغزو البرّيّ، وتعيش كما في حكاية قديمة، في المناطق الحدوديّة الّتي دمّرها بشكل كامل هذا الغزو في عام 2009. ولم أكن قد سجّلت ملاحظات، لم أكتب هذه النصوص قطّ. الكتابة عن غزّة سرعان ما بدت لي قاسية للغاية. ومع مرور الوقت، أصبحت ذاكرتي باهتة، وكادت تُمْحى. وفي الأسابيع الأخيرة، عادت إلى الظهور. المشاهد هناك سليمة تقريبًا، مثل أكياس صغيرة من الهواء والوضوح، مدفونةتحت صهارة من الركام المتفحّم، لكن الآن لم يعُد الوقت المناسب للتذكّر. لقد حان الوقت لسماع نداء الطفلة الصغيرة على الطريق الترابيّ، مطالبةً الله أن يوقف “كلّ هذا”.
شاعر وكاتب فلسطينيّ مقيم في باريس، أصدر عدّة مجموعات شعريّة تُرجمت إلى الفرنسيّة، آخرها “عناقات متأخّرة”. ينشر مقالاته في مجلّات ثقافيّة وأكاديميّة.
المصدر: عرب 48