عسكرة الأكاديميا الإسرائيليّة والعدائيّة تجاه الطلّاب العرب
قبل أيّام افتتحت الجامعات الإسرائيليّة أبوابها بعد تأجيلات متتالية نتيجة الحرب على قطاع غزّة، وسبق هذا الافتتاح مجهود جبّار قامت به هذه الجامعات والمؤسّسات في سبيل إثبات أنفسهم كجزء من المنظومة العسكريّة في إسرائيل، وكونهم جزءًا فاعلًا منها، وولاؤهم لها يفوق كلّ اعتبار، حتّى أصبح كبار الأكاديميّين الإسرائيليّين جزءًا فاعلًا، ويؤدون دورًا رياديًّا في التحريض الدمويّ وتعزيز الجوّ الانتقاميّ، سواء كان ذلك في ظهورهم في الاستديوهات التحريضيّة، أو من خلال مقالات “بحثيّة” دمويّة ينشرها بعض الأكاديميّين بكلّ اعتزاز وتفاخر.
ليست مؤسّسات أكاديمية مستقلّة وعلميّة صرف كما تتفاخر أمام العالم، بل عسكريّة أولا تلبّي نداء الحرب، وتكون جزءاً منها، حيث لا يخجل عدد من الأكاديميّين وأصحاب المناصب المرقومة في الجامعات الهامّة في إسرائيل من التفاخر باستمرار بدعمهم للحرب واستمرارها، وبل يحرّضون ويجدّدون الدعوات الانتقاميّة، ويساهمون إلى حد بعيد في تحشيد المجتمع الإسرائيليّ وتجييشه لصالح آلة الحرب الإسرائيليّة في غزّة.
أول ما بدأت هذه المؤسّسات حربًا شعواء على الطلّاب العرب الّذي يدرسون فيها، إذ باشرت بعد أيّام قليلة من السابع من أكتوبر بإرسال رسائل التهديد والوعيد للطلّاب العرب محذّرة بأنها ستحاسب كلّ من تسوّل له نفسه أن يقول أيّ كلمة أو موقف، ووضعت بقرار من رؤسائها، وإيعاز من وزير التعليم شخصيًّا الطلّاب العرب في خانة الاتّهام، وتعاونت مع جمعيّات اليمين الاستيطانيّ الفاعلة بالجامعات الّذين يراقبون الطلّاب العرب بكلّ تفاعل على وسائل التواصل الاجتماعيّ بتحويل أكثر من 160 طالبًا وطالبة عربيّة إلى لجان الطاعة كما يسمّونها، وهي الّتي كانت بغالبيّتها تحقيقات مخابراتيّة تهدف للإيقاع بالطلبة العرب وأسئلة شبيهة بتلك الّتي يسألها ضابط مخابرات في أيّ من الدول الدكتاتوريّة في العالم، ولكنّ هذه المرّة اختلف الدور، وكان المحقّق هو أكاديمي مع لقب علميّ متقدّم ووزن علميّ مرموق في إسرائيل، ولعلّه في العالم أيضًا.
هذه المؤسّسات الأكاديمية في إسرائيل الّتي استثمرت فيها إسرائيل الملايين من أجل “دمج” الطلّاب العرب ورفع نسبتهم فيها، وذلك لتحسين صورة إسرائيل بعد أن أحرجتها تقارير منظّمة التعاون الاقتصاديّ والتنمية (OECD)، فيما يخصّ الأقلّيّة العربيّة الّتي عانت من تمييز ممنهج على مدار عقود من الزمن، وهذا ما كان بموازاة جيل عربيّ فلسطينيّ في الداخل طالَب العلم لتحقيق ذاته والحصول على شهادة علميّة وأكاديمية لتمنحه إمكانيّة الاندماج في سوق العمل وتوفير على ظروف معيشيّة له ولمستقبله، وبين ليلة وضحاها تحوّلت المؤسّسات الأكاديمية في إسرائيل من متباهية بـ”دمج” العرب إلى متفاخرة بكونها “قامعة” للطلّاب العرب بصورة أوضع وشراسة غير معهودة.
وصل الأمر في جامعة حيفا الواقعة في شماليّ البلاد، والّتي تقارب فيها نسبة الطلّاب العرب إلى ال 50%، أن تكون ليس فقط “قامعة” لطلّابها كما كانت دومًا، بل لمحاضريها أيضًا، فتعاملت بطريقة فظّة ومستهجنة مع كبار باحثيها العرب لكونهم عبّروا عن موقف معارض لتحويل الطلّاب العرب للجان الطاعة، وموقف ضدّ الحرب، هذا التوبيخ لم يكن داخل المؤسّسة فقط، ولكن أصرّت الجامعة أن تنشره في كلّ وسائل الإعلام، وتتفاخر بأنها “توبّخ” المحاضرين العرب، وتحاسب الطلّاب العرب، ووصل الأمر بهذه المؤسّسة أن تؤدي دور المخبر، وتنقل أسماء الطلّاب- طلّابها للشرطة كما صرّح أحد رجالات الشرطة في محاكمات الطلّاب.
أما الجامعة العبريّة في القدس، سارعت بإرسال رسالة لإحدى محاضراتها البارزات، والتي لها وزن أكاديمي عالميّ ومواقف سياسيّة معهودة تجاه حقوق الشعب الفلسطينيّ ومناهضة سياسات الأبرتهايد والعنصريّة والفوقيّة اليهوديّة، فسارعت إدارة الجامعة بتوجيه رسالة لها بمستوى متدنّ غير معهود أن تخاطب فيه مؤسّسة أكاديمية أحد باحثيها إلا في إسرائيل في ظلّ هذا الجوّ الانتقاميّ والفاشي الّذي تعزّز منذ السابع من أكتوبر وحتّى يومنا هذا، هذا بالإضافة إلى العديد من المحاضرين اليهود المعارضين للجرائم المرتكبة في غزّة ومطلبهم بوقف إطلاق النار، حيث سارعت الجامعات بالتبرّؤ منهم، وأخذت تهاجمهم وبل تبيح دمهم، وتعطي الذريعة للطلّاب اليهود أن يحرّضوا ويلاحقوا محاضرين في الجامعات فقط لموقفهم الأخلاقيّ والإنسانيّ ضدّ الحرب على غزّة.
من يتجوّل في الجامعات الإسرائيليّة في الأسبوع الأوّل لافتتاح السنة الدراسيّة، يصعب عليه أن يميّز الفرق ما بين ثكنة عسكريّة وحرم أكاديمي، فالجميع يتجوّل بالسلاح الثقيل أو الطويل أو الخفيف بحرّيّة تامّة، ويدخل بعض المحاضرين للصفوف مدجّجين بالسلاح وبداية الدرس هي وضع السلاح على الطاولة؛ وبالتالي ينتقل إلى تمرير محاضرته والتفاخر بكونه أكاديميا “ليبراليًّا” كما يدعون.
تتيح الجامعات منذ سنوات أن تُحَوَّل إلى ثكن عسكريّة كمرآة للمجتمع العسكريّ في إسرائيل، وتقول إدارات الجامعات إن هذا جزء من ماهيّة المجتمع وشكله، ولا يمكن فعل أيّ شيء مع ذلك، هذا بالإضافة إلى تحويل كلّ المنح التعليميّة الّتي من المفترض أن توزّع على نحو متساو بين الطلّاب إلى منح للجنود المسرّحين، أو الّذين ما زالوا في أرض المعركة، والطلّاب العرب أصبحوا مادّة للتحريض والاستهداف ومصدر دخل للجامعات في أحسن الأحوال.
يعيش الطلّاب الفلسطينيّون الّذين يدرسون في الجامعات الإسرائيليّة ظروفًا استثنائيّة، أكثر تعقيدًا من أيّ وقت مضى، فالجامعات تعلن بشكل واضح عن تقليصها كلّ مساحة للعمل السياسيّ والثقافيّ فيها، وتستمرّ بعسكرة احرمتها لصالح الجيش، ويتباهون بولائهم لها، وهو ما يحتّم عليهم التعامل مع الطلّاب العرب كأعداء، وبالتّالي يواجه الطالب العربيّ بشكل دائم كونه متهمًا، حتّى تثبت إدانته سواء بالتعامل الرسميّ، أو من قبل زملائه في التعليم.
لطالما شكّل الطلّاب الفلسطينيّون في الجامعات الإسرائيليّة حالة من الوعي الوطنيّ، وتلاحموا مع نضالات الشعب الفلسطينيّ سواء عبر نشاطات سياسيّة في الجامعات أو بمواجهتهم المباشرة داخل المحاضرات ونقاشهم الصلب والمبدئيّ والواثق نفسه مع الآخر، سواء كان محاضرًا أو طالبًا، وبهذا شكّلت أحداث السابع من أكتوبر فرصة للانتقام من الطلّاب الفلسطينيّين ومحاولة ضرب إنجازات الحركة الطلّابيّة الّتي واكبت في السنوات الأخيرة كلّ موقف أو نقاش أو تعبير عن موقف سياسيّ كان.
لا شكّ في أننا كمجتمع فلسطينيّ في الداخل أمام ملاحقة كثيفة يراد منها القضاء على كلّ تنظّم سياسيّ فيه، كجزء من العدوان على عموم شعبنا في غزّة والضفّة والشتات، وبهذا تضعنا المؤسّسة الإسرائيليّة أمام امتحان هامّ ومفصليّ يكون فيه الطلّاب العرب في الجامعات الإسرائيليّة في مقدّمته، وعلى كاهلهم مسؤوليّة كبيرة لمواجهة سياسات الإسكات وكم الأفواه والملاحقة لكلّ صوت يعارض الحرب والدم، وهذه الجرائم المستمرّة منذ حوالي 90 يومًا.
الحركة الطلّابيّة ومجمل العمل الطلّابيّ في الداخل، وفي ظلّ هذه الظروف العدائيّة والمركبة يحتاج إلى مسؤوليّة كبيرة، ولكنّ المسؤوليّة لا يمكن أن تكون دون موقف أخلاقيّ ووطنيّ واضح دون طأطأة الرأس والقبول بهذه السياسات العدائيّة والانتقاميّة تجاه الطلبة العرب والإملاءات العنصريّة لكبح عملنا ودورنا السياسيّ كطلّاب عرب، أكثر ما نحتاجه الآن هو تعزيز دور الحركة الطلّابيّة الوطنيّة الجامعة ومأسسة المؤسّسات للعمل الطلّابيّ ليكون عنوانًا للطلّاب العرب والتحدّيات اليوميّة الّتي يعيشونها في المؤسّسات الإسرائيليّة، وهو ما بدأ ويجب أن يكون خيارًا استراتيجيًّا للجميع.
المصدر: عرب 48