البلدة القديمة بغزة… تاريخ لم يسلم من التدمير الإسرائيليّ
إلى جانب العدد الهائل من الضحايا الذين استشهدوا وأُصيبوا من جراء الحرب الإسرائيلية المتواصلة على قطاع غزة، خلّفت الهجمات دمارا واسعا في البنية التحتية، وطالت أيضا المعالم التاريخية والصروح الأثرية، وأبرزها تلك التي تقع في البلدة القديمة بمدينة غزة.
تضم البلدة بين جنباتها ممرات “سوق الزاوية” العتيقة التي تلوح في نهايتها مئذنة “المسجد العمري”، أكبر وأقدم جوامع القطاع، وبجوارهما “سوق القيسارية” التاريخي للذهب، ويحيط بكل ذلك طرقات تعود بعض حجارتها إلى فترة الحكم العثماني للبلاد.
وليس بعيدا عن هذه المعالم تقع كنيسة القديس برفيريوس، ويلاصقها “مسجد كاتب ولاية” اللذان ظلا لعقود طويلة رمزا للتسامح الديني بين المسلمين والمسيحيين في غزة.
كل هذه المباني كنت تحتاج إلى أقل من ساعة واحدة فقط لزيارتها والانتقال عبرها إلى عمق تاريخ غزة الضارب في القدم.
دمر الاحتلال كل شيء في غزة حتى معالمها التاريخية، والمدينة القديمة في غزة التي يزيد عمرها عن 2000 عام، ومن بين المعالم التي دمرها الجيش الإسرائيلي، المسجد العمري الكبير، وسوق الزاوية، وسوق الذهب، وكنيسة غزة المعمدانية، ومسجد كاتب ولاية، والحمام التركي “حمام السمرة” وغيرها الكثير… pic.twitter.com/6tvIp6cTJ1
— موقع عرب 48 (@arab48website) January 8, 2024
لكنك الآن فقدت هذه الفرصة فالآليات العسكرية الإسرائيلية حولت البلدة القديمة إلى أكوام من الحجارة والرماد، بعد أن اجتاحتها ضمن عملياتها البرية المتواصلة في القطاع منذ 27 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي.
مدخل بلدة غزة القديمة هو “ميدان فلسطين” كان قبل السابع من أكتوبر لا يخلو من الحياة، والمحلات التجارية فيه لا تغلق أبوابها حتى ساعة متأخرة قبيل منتصف الليل، ويتوسطه تمثال طائر “العنقاء” الذي يحلق من الرماد، وهو رمز لمدينة غزة.
اليوم تحول الميدان إلى ساحة مليئة بالدمار، وحجارة أرضيته القديمة دفنت أسفلها بفعل أعمال الحفر التي نفذتها الجرافات العسكرية الإسرائيلية لكل شارع وزقاق كانت تدخله.
سوق الزاوية
وبالاتجاه نحو الشرق من “ميدان فلسطين” المدمر سيكون أمامك “سوق الزاوية” أحد أشهر وأقدم أسواق مدينة غزة القديمة.
ويعتبر السوق امتدادا تاريخيا لـ”سوق القيسارية” الأثري، الذي يعود تأسيسه إلى العصر المملوكي ويعرف حاليا باسم “سوق الذهب”.
وينقسم السوق إلى عدد من الزوايا كل زاوية تختص ببيع نوع معين من المنتجات والسلع الغذائية، من بينها العطارة واللحوم والأسماك، والخضار والفاكهة وألعاب الأطفال والمنتجات الغذائية.
لكن هذا السوق لم يعد كذلك، فغالبية المحالات التجارية فيه تم تدميرها بالقصف أو بالحرق على يد القوات الإسرائيلية.
عند مدخل السوق يوجد متجر صغير لبيع ألعاب الأطفال وزينة الأعياد والمناسبات أحرق بالكامل وبقيت بعض الألعاب وقطع الزينة شاهدة على ما حدث.
وبعد خطوات صعبة عليك خلالها تخطي أكوام من الحجارة المدمرة بممرات السوق ستجد محلات البهارات والجبن والخضروات قد دمرت وأحرقت بالكامل، تفوح هناك رائحة الموت بفعل جثث عشرات القطط والكلاب الملقاة في زاويا السوق، والتي ماتت إما جوعا أو بفعل القصف الإسرائيلي.
لن تنجح في تخطي السوق لأنك ستواجه في المنتصف حفرة كبيرة خلفها صاروخ إسرائيلي استهدف المنطقة، لتعود أدراجك إلى طريق آخر انطلاقا من “ميدان فلسطين”.
سوق القيسارية
الاتجاه شرقا سيكون خيارك أيضا هذه المرة عبر شارع تنتشر على جانبه متاجر الملابس والأقمشة والأدوات المنزلية، وغالبيتها مدمرة إما كليا أو جزئيا، أو طالتها حرائق قذائف الدبابات.
قبل أن تصل إلى نهاية الطريق ستدخل يسارا إلى مدخل “سوق القيسارية” المخصص لبيع الذهب والذي يعود للعهد المملوكي.
يقع هذا السوق في الحي الإسلامي في البلدة القديمة، وقد بُني في القرن الرابع عشر في عهد “دولة المماليك”، ويضم السوق 44 متجرا: 21 في الجهة الشمالية و23 بالجهة الجنوبية.
عبق التاريخ هذا كان قائما في السوق لكن القذائف الإسرائيلية شوهته ودمرت غالبية محلاته، وبذلك فإن جولتك ستنتهي عند مدخل السوق إذ سيمنعك الدمار والخشية من انهيار سقف “القيسارية” من الدخول.
تاجر الذهب إياد حمدي بصل، كان يتفقد متجره المدمر في “القيسارية”، يقول: “المكان يعني لنا الكثير، هذه آثار تاريخية في بلدنا بالإضافة لكونها مكان عملنا ومصدر دخلنا”.
ويضيف بصل: “ارتباطنا بالمكان ليس ارتباطا اقتصاديا فقط بل تاريخيا، فهو يرجع إلى حقب قديمة، عشنا هنا وأجدادنا وأجداد أجدادنا منذ آلاف السنين”.
وقال: “ليس أمامنا الآن سوى صورة الدمار، متجري تحول إلى أنقاض كما ترون، لا أملك ما أقوله فالصورة تكفي”، يكمل الفلسطيني بصل.
المسجد العمري
وإلى جوار مدخل “القيسارية” كان المسجد العمري، أقدم وأكبر مساجد قطاع غزة، يفتح بوابته الكبيرة للمصلين لكن هذه البوابة أغلقتها الآن حجارتها المدمرة.
وفي بداية كانون الأول/ ديسمبر الماضي، قصفت الطائرات الإسرائيلية مئذنة المسجد وباحته الخلفية وجزءا كبيرا من مبناه.
ويُعدّ “العمري” الذي أُسس قبل أكثر من 1400 عام ثالث أكبر مسجد في فلسطين بعد “الأقصى” في القدس، و”أحمد باشا الجزار” في عكا، ويوازيه بالمساحة “جامع المحمودية” في يافا، وفق مصادر فلسطينية.
وتبلغ مساحة المسجد نحو 4100 متر مربع، أما مساحة فنائه فتصل إلى 1190 مترا مربعا، إذ يحمل المبنى نحو 38 عمودا من الرخام، تعكس جمال الفن المعماري للعصور المختلفة.
هذه الأعمدة الرخامية والفناء والمبني الرئيسي أصابتها جميعا القذائف والصواريخ الإسرائيلية، وبات جزء كبير منها مدمرا.
المسجد والكنيسة
ما فعلته الآليات الإسرائيلية ببلدة غزة القديمة لم ينته هنا، فالجانب الجنوبي من البلدة فيه معالم تاريخية إسلامية ومسيحية جرى تدميرها.
في المدخل الشمالي لحي الزيتون على الكتف الجنوبي للبلدة القديمة، كان هناك رمز للتعايش الإسلامي المسيحي في غزة؛ وهو “مسجد كاتب ولاية” الذي يشترك بجدار واحد مع كنيسة القديس “برفيريوس”.
الطائرات الحربية الإسرائيلية قصفت الكنيسة الأهم في غزة ودمرت أجزاء واسعة منها، فيما قصفت الدبابات المسجد لتوقع أضرارا بالغة فيه.
وتعد كنيسة القديس برفيريوس التي يطلق عليها أيضا اسم “كنيسة المقبرة” حيث تحيط بها مقبرة مسيحية، من أقدم كنائس العالم، وتعرف محليا باسم “كنيسة الروم الأرثوذكس”.
يعود تاريخ بناء الكنيسة للعام 425 ميلادي، قبل أن يتم تجديدها عام 1856، وتشملها لاحقا أعمال ترميم متلاحقة، آخرها عام 2020.
تتكون الكنيسة من بهو كبير مغطى بسقف وأقبية متقاطعة على شكل “جمالوني” (شبيه برأس المثلث)، وترتكز على دعامات حجرية وأربعة جدران بنيت من الحجر الرملي الصلب.
وللكنيسة التي سميت على اسم أسقف غزة السابق، القديس بورفيريوس، ثلاثة مداخل: واحد غربي وهو الرئيسي، ومدخل شمالي، إضافة إلى آخر جنوبي افتتح في السنوات الأخيرة ويؤدي إلى ردهة علوية افتتحت لاستقبال عدد أكبر من المصلين.
يعود الهيكل الأصلي لكنيسة القديس بورفيريوس إلى القرن الخامس ميلادي، فيما تم بناء الهيكل الحالي في القرن الثاني عشر.
وتتميز الكنيسة بجدران سميكة غنية بالنقوش والزخارف والأيقونات الدينية الشاهدة على مراحل تاريخية متعددة.
أما “كاتب ولاية” فيعتبر من المساجد الأثرية المهمة بغزة وتقدر مساحته بنحو 377 مترا مربعا، ويرجع تاريخ بنائه إلى حكم (الناصر محمد بن قلاوون) في ولايته الثالثة سنة (709- 741هـ/ 1341- 1309م)، ويدلل على ذلك اللوحة التأسيسية الموجودة أسفل المئذنة والتي كتب عليها “ابتغاءً لوجه الله تعالى في مستهل شهر ذي الحجة (725هـ 1325م) زمن السلطان (محمد بن قلاوون)”.
المصدر: عرب 48