الذراع الداخلية لسكرة القوة الإسرائيلية
تبدو إسرائيل منذ 7 أكتوبر، وكما في كل الحروب التي تشنّها، غارقة في سكرة قوة تؤجّجها ذراعان: خارجية متمثلة في الآلة العسكرية الحربية، وداخلية متمثلة في آلة الدعاية والإعلام. وبحسب ما يؤكّد أحد خبراء الإعلام الإسرائيليين من أصحاب النزعة الانتقادية، ترنو هذه الأخيرة لتحقيق هدفين رئيسيين: تضليل الرأي العام الإسرائيلي في كل ما يرتبط بما يحدث في قطاع غزّة من حرب تدمير شاملة وجرائم إبادة جماعية تطاول المدنيين.
والتأطير الفوري لأي تقرير بشأن قتل أبرياء في القطاع، كحادث تقع المسؤولية عنه على عاتق حركة حماس فقط، من خلال تكرار أزمة استخدام الحركةِ السكّانَ المدنيين دروعا بشرية. وأورد هذا الخبير اقتباسات شتّى على ألسنة إعلاميين يقرّون فيها بكل جلاء أن دورهم إبّان الحروب ليس نقل الحقيقة، وإنما رفع المعنويات.
ولا يُعدّ هذا السلوك نتاج الحرب الحالية فقط، بل كان ديدن معظم وسائل الإعلام الإسرائيلية في الحروب السابقة، لا سيما أثناء الحرب على لبنان عام 2006، وسلسلة الحروب على غزّة التي لم تتوقف منذ عام 2008.
وكنتُ قد حضرت ندوة في جامعة تل أبيب أواخر يوليو/ تموز 2007 تحت عنوان “حرب لبنان الثانية… الحساب الذاتي لوسائل الإعلام”، على هامش إطلاق تقرير خاص عنوانه “وسائل الإعلام الإسرائيلية في حرب لبنان الثانية”، أعدّه “مركز كيشف لحماية الديمقراطية في إسرائيل” وصدر بعد عام على انتهاء تلك الحرب في 2006 (أبرز النتائج التي خلُص إليها التقرير أن وسائل الإعلام الإسرائيلية بمعظمها كانت ممن “خاضوا الحرب حتى اللحظة الأخيرة”).
وفي سياق الندوة، قالت الصحافية عنات سراغوستي، من قناة التلفزة الإسرائيلية الثانية (قناة 12 حاليا)، والتي سبق أن عملت محرّرة في القناة نفسها، إن معظم الصحافيين الإسرائيليين آثروا خلال تلك الحرب أن يبقوا في المناطق التي يغمرها الضوء، وألا يبحثوا عن الخفايا الموجودة في العتمة. وفي قراءتها، استغلقت وسائل الإعلام الإسرائيلية على خطاب واحد هو الخطاب الحربيّ، ولم يكن لديها أدنى استعداد لسماع أصواتٍ أخرى تتضادّ مع هذا الخطاب، وخصوصا من الأصوات النسائية.
كما تميّز أداء وسائل الإعلام هذه بتغييب الجانب المدني للحرب، وعلى وجه الخصوص، الجانب المدني المتعلق بالطرف الآخر، اللبناني، حيث إن قصص المعاناة لدى السكان المدنيين اللبنانيين لم تجد لها حتى موطئ قدم على الشاشة الصغيرة، وكذلك ضمن تقارير الصحافة المكتوبة والمسموعة.
وكُشف النقاب خلال الندوة عن وثيقة داخلية أرسلت إلى العاملين في صحيفة معاريف، دعت إلى دعم الجيش، والوقوف العنيد إلى جانب الدولة، ولجم النقد ما دامت الحرب مستمرّة.
وتعترف الوثيقة بأن ذلك هو، بمفهوم معيّن، بمثابة خيانة مهمات الصحافة، ولكنها، في الوقت عينه، تؤكد ضرورة فعل ذلك، لأنه “ينبغي أن نأخذ في الحسبان الاعتبار الوطني، ولأننا قرّرنا أن نكون في حالة هذه الحرب جزءا من الدولة، ومن واجبنا أن نرجئ الخلاف والنقد، ولسنا بحاجة لأن نخجل أو نعتذر عن أننا مؤيدون للجيش والحكومة ونوفر لهما الغطاء”.
وتبيّن، بالاعتماد على التقرير، أن مراسلي وسائل الإعلام الإسرائيلية المشمولة في البحث جلبوا، على مدار أيام تلك الحرب، مادّة إخبارية وإعلامية، تتعلق بكل محاور المعارك التي تعرّضت للنقد الشديد، بعد أن وضعت الحرب أوزارها، كما انعكس ذلك في تقرير لجنة التحقيق الإسرائيلية الرسمية التي تقصّت وقائعها لجنة فينوغراد، غير أن هذه المواد جرى تهميشها من قلم التحرير.
تنسحب هذه الملاحظة على أداء وسائل الإعلام الإسرائيلية في الحرب الحالية، التي تهمّش دلالاتٍ كثيرة شحنتها وقائع الحرب، ويردّدها بعض المحللين، ومنها دلالة عدم الاستهانة بالقدرات والمقدرات التي تمتلكها المقاومة الفلسطينية، ودلالة تغيير مسار الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وغيرهما مما يلزم العودة إليها لأهميتها الفائقة.
المصدر: عرب 48