فقر السياسة وفائض الجوع ..!
في بورصة الموت بالأمس بلغ سعر كيس الدقيق في المنطقة الشمالية لقطاع غزة ألف دولار…! من يصدق ؟ بالتأكيد لا أحد … ولكن هذه هي حقيقة الحرب الوحشية وحقيقة ما يحدث في تلك المنطقة، وحقيقة موازين القوى في عالم لم يستطع أن يفرض على إسرائيل وقف تجويع شعب، وأولهم الرئيس الأميركي الذي يناشد منذ أسابيع للسماح بإدخال المساعدات ليرد عليه وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش بوقف شحنة دقيق أميركية لغزة في ميناء أسدود.
يتضح المشروع الإسرائيلي المعد لغزة متخذاً من السابع من أكتوبر مبرر تنفيذه، لكن المثير هنا أن الدولة العظمى والاتحاد الأوروبي الضعيف والدول العربية والإسلامية ومحكمة العدل الدولية كل هؤلاء أقل كثيراً من إلزام الدولة التي تقوم بإبادة غزة بإيصال الغذاء لمن يتضورون حد الموت، فهناك باتوا يصرخون كفراً بكل هؤلاء.
القضاء على غزة، هذا ما يتضح من حرب دخلت شهرها الخامس استخدمت فيها إسرائيل كل ما لديها من قوة لتحويلها إلى خرابة تستحيل على الحياة بعد أن استهدفت كل مقوماتها، طالبت سكان شمالها بالرحيل جنوباً بهدف تفريغه، لكنها اكتشفت أن هناك من يعاند فتحكم عليه بالموت جوعاً.
من العبث النقاش بأن إسرائيل تستهدف حركة حماس وحدها، فكل ما حدث في غزة كان كافياً للاستنتاج بأن الأمر أبعد كثيراً، ولماذا لا تنفذ كل مشاريعها وسط عالم شديد الهشاشة أو شديد اللامعيارية ومصاب بعطب في أخلاقه السياسية أو سياسته الأخلاقية لا فرق عندما تنهار القيم ويصاب الجميع بلوثة، فلم تشهد البشرية عرياً بهذا الشكل جاءت غزة لتنزع ورقة توتها … ملعونة هي غزة ولكنها كاشفة.
صحيح أن غزة تُباد، وصحيح أن غزة تعرضت لضربة لن تشفى منها لعقود قادمة، وصحيح أنها تعرف أن عليها أن تدفع ثمن أمانة التاريخ، لكنها لم تتوقع هذا المستوى من الخذلان من كل الأصدقاء فأعداؤها تعرفهم دولة دولة وفرداً فرداً، لكنها كانت دوماً تطلب أن تنجو من أصدقائها الذين باتوا متفرجين يطالبون بوقف إطلاق النار بأدب شديد بينما يخرج الإسرائيلي لسانه لكل العرب والمسلمين.
قال صديقي الغاضب: «بِتُ أخجل من عروبتي الهزيلة» فالحوثي من بعيد يقطع الطريق محاصراً إسرائيل يحاول أن يفعل بها كما تفعل بغزة من حصار، بينما تجتهد دول عربية لخلق طريق بديل لفك الحصار عنها فيما غزة تموت جوعاً، دون أن تخضع الأمر لمقايضة تشترط فيها إدخال مساعدات للقطاع بالمقابل. كيف يمكن فهم ذلك بعد أن قضت الناس على علف الحيوانات ؟
في إطار صراعها مع حماس التي نزعت وجهها تقوم إسرائيل بإبادة الشعب في غزة، المنطقة التي كان أبناؤها الذين حكموها مغامرين حد الجنون الذي فتح لها كل بوابات جهنم دفعة، لكن هناك إرثاً ثورياً طويلاً كتب على غزة أن تدفع فاتورة الدم دون أن تنتظر شراكة أحد، فقد احتكرت التضحية وحدها رغم فداحة الكلفة دون أن تنظر خلفها تلك هي عادتها في ممارسة السياسة.
تبدو غزة مثل خاصرة الكون. حين تتحرك تلك البقعة الصغيرة فإنها تحدث صخباً في هذا العالم وتقلب أولوياته ومن التجاهل الكلي للقضية وتأجيلها كما قال الرئيس الأميركي في بداية ولايته إلى البحث عن حلول عاجلة وآلية الدولة «بصرف النظر هنا عن تاريخ الخداع الأميركي الطويل».
لكن الحركة السياسية الكبيرة التي تفرضها غزة بدمها لا تقل عن واقع القتال في مدنها.
هكذا هي السياسة، فالكل بات يبحث عن حل أمام عناد إسرائيلي جامح لا يفكر سوى باستمرار الحرب واقتحام رفح رافضاً لأي خطط سياسية أو مجرد الحديث عن حل ودولتين، فيما كل الطبقة السياسية في إسرائيل تعلن انتفاضة الرفض.
تجتمع العواصم التي لا حول لها ولا قوة أمام سطوة الإسرائيلي وقوته الجامحة، وتجتهد بالبحث عن أفق السياسة رغم قلة حيلتها بإدخال المساعدات ووهن حضورها أمام سكان غزة الذين يموتون قتلاً وجوعاً وخذلاناً، فيما يجتهد الإسرائيلي بتمرير ما تبقى من وقت للإدارة الأميركية التي تحاول أن تمسك عصا اللحظة من طرفيها بانتهازية كبيرة لن تمكنها من النجاة بعد أن تورطت في دم غزة تحاول إرضاء الجانبين، إذ تدعم إسرائيل في حربها بكل ما تمتلك من إمكانيات بشكل عملي وعلى الجانب الآخر تدير نقاشاً نظرياً على شكل دعم بالكلام للفلسطينيين دون أن تلوح حتى بممكنات قوتها القادرة على فرض رؤيتها.
وما بين نقاش العواصم التي تعاني من فائض الوقت وبين مواطن في غزة يعاني من فائض الموت وفائض الجوع يبدو المشهد متناقضاً حد الحزن، وتغيب عنه أبرز متغيرات الإقليم أولها أن إسرائيل التي تلقت ضربات أمنية وعسكرية وأخلاقية أصبحت أكثر ضعفاً وأن الدول العربية التي تناقش رؤية أميركية «وليست عربية» لا تستخدم ممكناتها في سياق اللحظة لصناعة سياسة، وهذا ما يجعل حديث العواصم أقرب للدردشات السياسية أو التحاقاً بموجة أميركية عابرة ستخفت قريباً لتعود العواصم لسكونها. لكن المواطن الغزي لن يعود كذلك.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر