على قيد الوحدة
اليوم هو العاشر من أيلول للعام ٢٠١٨م
فتح النافذة على مصراعيها، بدا النهار الخريفي دافئاً نسبياً وقد تخللته نسمات باردة ومنعشة تهب لماماً وهو طقس مناسب لنزهة ولكنه قد عزم على الذهاب إلى المكتبة، حيث اعتاد أن يأوي هرباً من وحدته حين تشتد وطأتها ليتماهى مع الكثير ممن يشبهونه، كان قد اعتبر القراءة حرفته والكتب أدواته لمزاولتها، مخلوقات ورقية لاحصر لها تصطف أعلى الرفوف الخشبية وتخبئ داخلها شعوراً شاسعاً بالوحدة حتى وهي محاطة ببعضها البعض، ثمة شعور جمعي بالوحدة يدركه جيداً كما يدرك أن الكُتاب يتشاركون بطريقه ما وحدتهم ويتحدون عبر نصوصهم التي تخلق عالمهم الخاص في مقاومتها.
يخرج من المبنى رقم ٨٥٧٢ في حي الربيع معتمراً قبعة بيضاء بدوائر ذهبية ومترتدياً ثوباً من الصوف يحملهما فوق جسد ضئيل ويسير بهما على قدمين محشورتين في حذاء ضيق نحو الطريق التي تشطر المدينة إلى شقين وفي غضون دقائق يصل إلى المكتبة.
اعتاد أن يقوده حدسه نحو رف بعينه وبإعمال أدق لحدسه سيضع سبابته على كعب كتاب ما ينتابه حياله شعور حميمي، ربما قادته خيالاته لمحاكاة بورخيس في المكتبة الوطنية في بيونيس ايرس وقد درج على تمييز الكتب من خلال تمرير أصابعه على كعوبها.
قاده حدسه نحو رف بعينه وسلط وقبي عينيه نحو كتاب الفضول لألبرتو مانغويل، ولوهلة شرد بعيداً، كان ثمة مايجذبه نحو عالمه المتخيل، ولكن رائحة الكتب تعيده عنوة إلى الواقع.
التقط الكتاب مترقباً ماستكون الجملة الأولى وأي أثر ستحدثه، وما أن فتحه حتى سقطت «فاصلة كتاب» أنبأت بأنه قد قُرأ من قبل، ما استرعى انتباهه فقلب صفحاته حتى وجد على هوامش صفحاته عدداً من الملاحظات دونت بوضوح وجلاء تنبئ بأن كاتبها تعمد أن يقرأها أحدهم.
الأربعاء ٧ كانون الثاني ٢٠١٧
لست مستاءً حيال هذا الفراغ الذي يلفني ولكني أريد أن اخترق الاختلاف المطلق، ولاوجود لطريقة أخرى لأعبر دوائر العزلة سوى الكتابة.
الخميس ٨ كانون الثاني ٢٠١٧
لقد اتصلت بالبؤس منذ ولدت، عرائي الروحي ظل يتزايد، وها أنا ذا وحيداً يدق قلبي رهبة وفرحاً كلما خُيل إلي أن هناك من سيقرأ كلماتي.
الجمعة ٩ كانون الثاني ٢٠١٧
لم يكن ثمة مايفوق البؤس الذي اعتراني حين عادت عيناي بعد أن جالتا أرجاء المكتبة ثم ألفتيا وقد تيقنتا من زوال أي احتمال لتبديد الوحدة، بدا بريقهما وقد خفت فجأة أشعاراً على إخفاق يضاف إلى ماسبقه.
السبت ١٠ كانون الثاني ٢٠١٧
أظن أني مكتئب.
الأحد ١١ كانون الثاني ٢٠١٧
كان صباحاً بهيجاً استيقظت على صوت زخات المطر وهي تقرع أفاريز النوافذ لقد حمل إلي رائحة طفولتي، تلك الآتية من شتاء القرية، حيث تتضوع الأزقة بالابتهالات الخشنة، فيما تتمد عرانيس الذرة مغطيةً الحقول برؤوسها الشقراء الجزعة من نزق عاصفة.
… لا أعلم ماهو اليوم، لابأس فالأيام متشابهه بالنسبة إلي.
الإثنين ١٢ كانون الثاني ٢٠١٧
تحت سماء تلتحف طبقة سميكة من الغيوم، طرقات تتضوع بأريج الأوزون يتجول في أرجائها بثقة وإصرار، من الطبيعي الاعتقاد بأن تساقط المطر وشيك وأن المكان سيعبق قريبا برائحة البتريكور أو عطر الأرض، هذا الظن ينبثق من رغبة خالصة بصباح ممطر ونسيم بارد ولكن بمضي الغيمات وسطوح الشمس وتلاشي الأريج تتضاءل فرص تحققه لنكتشف أن مانعتقده محض ظن، هذا هو ما أشعر به حيال الآخرين.
الإثنين ١٢ كانون الثاني ٢٠١٧
أياً كنت، ستقرأ هذه السطور وربما انتابك الفضول حيالي، يعتقد الكثيرون أني أعاني اضطراباً وأن مزاجي معقد وأني أحيط نفسي بأسيجة حادة، ربما كانوا محقين، لكني أعتقد أن كل ما هنالك أنني أعاني الوحدة، وآمل أن أحضى بصديق وربما كنت تأمل ذلك أيضا، فإن كنت كذلك فتكرم بمراسلتي.
اسمي أحمد وأسكن في المبنى رقم ٨٥٧٢ / حي الربيع.