حوار مع د.جوني منصور حول كتابه “غزة حجر الزاوية”
في كتابه “غزة حجر الزاوية” الصادر عن “المؤسسة العربية للدراسات والنشر” في بيروت، “يُضيء د. جوني منصور على توجُّهات سياسية متباينة حول غزّة، ويحاور أفكارًا وطروحات مختلفة، تُشغل فكر وسلوك حكومات وسياسيّين ومفكّرين وشعوب، بأسلوب يأخذ بعين الاعتبار أهمّية الجوانب التاريخية المرافقة للقضية الفلسطينية منذ قرن ونيّف”، كما يشير الكاتب الفلسطيني عادل سالم، في كلمة الغلاف.
تغطية متواصلة على قناة موقع “عرب 48” في “تليغرام”
من جهته، يقول الناقد والأستاذ الجامعي جورج كعيدي في مراجعته للكتاب التي نشرت في “الضفة الثالثة”، إن “منصور يمعن في التفاصيل، وهذه ميزة جليّة في كتابه، فهو راصد دقيق للوقائع والتقارير والآراء والتحليلات، وتسعفه معرفته اللغة العبرية التي تسهّل عليه متابعة الإعلام الإسرائيلي المقروء والمرئيّ في شكل خاص، على قاعدة اعرف عدوّك بلغته ولسانه وآليات عمله وتفكيره وتصريحات مسؤوليه”.
وفي تقديمه للكتاب، يقول المؤرخ إيلان بابيه، “كتبَ هذا الكتاب مؤرخ ذو خبرة كبيرة سجّل بدقة الأدلة والشهادات وتقارير الصحف ومقالات الرأي ومصادر أخرى ودمجها في رواية واضحة سهلة المنال، وارتكز فيها على معرفته باللغتين العربية والعبرية التي منحته منظورًا فريدًا للمصادر على جانبي الانقسام”.
ويضيف بابيه أنه من الصعب جدًا، ونحن قريبون من أحداث 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، أن نحصل على صورة كاملة لما حدث بعد ذلك، وبينما سارعت إسرائيل إلى نشر روايتها للأحداث، سرعان ما تبيّن أنّ عددًا لا بأس به من ادّعاءاتها لا أساس له من الصحة، مشيرا إلى أن بعض أحداث ما أصبح يُعرف بعملية “طوفان الأقصى” سيبقى غامضًا لبعض الوقت، قبل أن تتكشّف الحقيقة كاملة.
وبشأن ردّ الفعل الإسرائيلي والانتقام من عملية حماس، يرى بابيه أنّ “الصورة أكثر وضوحًا: إبادة جماعية كانت تنفّذ وتبثّ يوميًا إلى الملايين من الناس على شاشاتهم”، ولكنه يستدرك قائلا: “هنا أيضًا علينا أن ننتظر بعض الوقت حتى ندرك الحجم الكامل للكارثة الإنسانية ومستوى الدمار الذي حلّ بغزة”.
ولكنه يؤكد أنه على الرغم من هذه الصور غير المكتملة، من المهمّ للغاية تجميع واستيعاب ما نعرفه بالفعل، لأن بعض ما يمكننا الوصول إليه الآن قد لا يكون من السهل الوصول إليه لاحقًا، والتفاصيل كثيرة إلى درجة أننا إذا انتظرنا طويلًا قد نفوّت أجزاءً مهمة من اللغز الذي يحاول الكتاب إكماله.
وعن الكتاب يقول إنه المحاولة الأولى لتجميع وتسجيل وتقديم ما نعرفه حتى هذه اللحظة من الزمن”؛ وعن غزة يقول بابيه إن “معظم الناس الذين يعيشون في غزّة هم لاجئون من التطهير العرقي الذي حدث عام 1948: الجيل الأول، والثاني، والآن الجيل الثالث من اللاجئين. خلال التطهير العرقي عام 1948 أنشأت إسرائيل ‘قطاع غزّة‘. لم يكن هناك قطاع غزّة قبل عام 1948. كانت غزّة مدينة كوزموبوليتية عالمية تقع على طريق البحر (Via Maris) الواصل بين مصر وتركيا، وإن إسرائيل تستخدم اليوم هجوم 7 أكتوبر كذريعة لمواصلة سياسات الإبادة الجماعية في قطاع غزّة…”.
لإلقاء المزيد من الضوء على موضوع الكتاب أجرينا هذا الحوار مع مؤلفه *د. جوني منصور.
“عرب 48“: لماذا “غزة حجر الزاوية” وهل هو تأريخ أم توثيق؟
منصور: الكتاب هو في واقع الأمر متابعات لمجريات الأحداث بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وخصوصا المتعلقة بالحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وتداعياتها على الساحات المختلفة والنقاش الدائر حول هذه الحرب.
القسم الأول من الكتاب يعرض للأحداث التي جرت في السابع من أكتوبر مع بعض التمهيد، علما بأن هدفي لم يكن إجراء عرض تاريخي لأن ذلك سابق لأوانه، إنما عملية تفاعل مع الأحداث، وأنا أبين أن عملية التفاعل مع الأحداث هي جزء لا يتجزأ من تراكمات تاريخية سيتم استخدامها مستقبلا في التأريخ.
القسم الثاني من الكتاب هو عبارة عن مجموعة من المشاهدات والشهادات لشخصيات وأشخاص عاديين من داخل غزة، كتبوا عما يحدث لهم في الأيام الأولى للحرب، وكذلك شهادات لشخصيات سياسية أو فنية على غرار مؤسس فرقة “بينك فلويد”، روجر ووترز، المناصر والداعم للفلسطينيين، وغيره ممن عبروا عن مواقف من خلال شهادات قدموها ونشرت على مواقع ومنصات مختلفة.
أما القسم الثالث والذي يستحوذ على أكثر من نصف الكتاب، فإنه يعرض ويناقش ما كتبه العديد من الصحافيين والسياسيين والأكاديميين الفلسطينيين والعرب والأجانب عن الحرب، حيث قيض لي أن أطلع على ما يقارب من الألف مقال حتى نهاية شهر آذار/ مارس الماضي، وقد اخترت المقالات بطريقة التسلسل المفاهيمي والمصطلحات؛ فمثلا عند الحديث عن “الإبادة الجماعية” أنا أتوجه للقانون الدولي، وستستغرب أن أحد واضعي تعريف “الإبادة الجماعية” هو يهودي ناجي من المحرقة النازية.
“عرب 48“: لا غرابة، ولكنها مفارقة أن من تعرضوا لإبادة جماعية هم من يمارسون اليوم أبشع إبادة جماعية ضد شعب آخر وعلى مرأى ومسمع من العالم؛ ولكن عودة للمصطلحات، فلكل حرب قاموسها اللغوي والحرب على غزة أنتجت مجموعة كبيرة من المصطلحات الخاصة بها…
منصور: في هذا الجزء أعرض للعديد من هذه المصطلحات في المجالات العسكرية والسياسية والأمنية وأحاول تفكيكها واختبار مدى مصداقيتها، على غرار “المناطق الآمنة” وهل هي آمنة فعلا، كما أناقش النصوص التي نشرت عبر المنصات المختلفة وكل ذلك في سبيل تقديم صورة كاملة قدر الإمكان للوضع القائم والمتدحرج للحرب على غزة حتى نهاية آذار/ مارس من العام الجاري، والتي تشمل نصف عام من الحرب.
“عرب 48“: الكتاب – كما فهمنا من المراجعات التي نشرت عنه ومن تقديم إيلان بابيه له – لا يتوخى التأريخ للحرب لكنه لا يكتفي بتوثيقها؟
منصور: هو ليس تأريخا نرجع به إلى الخلف من مسافة زمنية، وليس مجرد توثيق للأحداث، بل تفاعل معها ومناقشتها، فأنا على سبيل المثال، لا أكتفي بنقل مقولة الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيرش، بأن “السابع من أكتوبر لم يأت من فراغ”، بل أعود إلى الوراء وأتحدث عن الحصار المفروض على غزة منذ عام 2005 وعن سياسة التجويع والسيطرة على المعابر والأجواء والمياه الإقليمية وعن الاحتلال الإسرائيلي.
الكتاب يحول المقولات والمصطلحات التي أنتجتها الحرب إلى مواضيع نقاش، فهو يعرض ما كتبه عبد الحميد صيام وهو باحث ومحاضر عمل سابقا في الأمم المتحدة، كتب سلسلة مقالات عن المحكمة الدولية، ثم أناقش توقيتها ولماذا الآن؟ وأين هي أسنانها؟ ولماذا لم تأمر بوقف الحرب حتى الان؟ الأمر ينسحب أيضا على موقف الدول العربية المتخاذل وغيرها من النقاشات الجارية بناء على الحدث والتوثيق التاريخي.
“عرب 48“: الكتاب توقف عند القضايا التي فجرتها الحرب بكل ما يتعلق بالقضية الفلسطينية والحقوق الوطنية التاريخية والقانونية للشعب الفلسطيني؟
منصور: هناك تركيز بشكل كبير على قضية النزوح والتهجير والتطهير العرقي ببعدها الحاضر والتاريخي، وأستحضر في هذا السياق قصتي الشخصية المتعلقة بتهجير عائلتي من جهة والدي ومن جهة والدتي أسوة بكل العائلات الفلسطينية التي تشردت وخسرت وطنها، ورغم أن ما حدث خلال الحرب على غزة هو أضعاف أضعاف ما حدث في نكبة عام 1948، ولكنه استمرار لها وينبثق عن نفس الفكر الذي يقود المشروع الصهيوني.
ما يجري اليوم في غزة هو استمرار للتطهير العرقي الذي حدث في نكبة 48 (هذا المصطلح الحديث نسبيا الذي طرحه زميلي إيلان بابيه، الذي قدم للكتاب، في أعقاب الحرب التي جرت في البلقان في تسعينيات القرن الماضي ومطلع الألفية الثالثة، وهو مصطلح ينطبق تماما على ما جرى وما زال يجري في فلسطين) هو تطهير عرقي أعقبته إبادة جماعية أو إبادة جماعية بهدف التطهير العرقي.
“عرب 48“: الكتاب تحدث ببعض التفصيل عن عملية “طوفان الأقصى” التي نفذتها حماس في السابع من أكتوبر وما أحدثته من مفاجأة وصدمة لدى الجيش والاستخبارات في إسرائيل؟
منصور: تتبعت الخلفيات التاريخية لتشكل “طوفان الأقصى” منذ عملية فك الارتباط من جانب واحد عن غزة عام 2005 وحالة الحصار المفروض على القطاع؛ تحدثت عن حماس وعن السنوار والضيف لأصل إلى عملية أسر الجنود وكل ما حصل في قاعدة “رعيم” وما قام به الجيش الإسرائيلي من إرسال طائرات وقصف المنطقة.
أردت أن أضع مستندا تاريخيا موثقا بأيدي الدارسين والباحثين للمستقبل، ودرست الموضوع كحدث متدحرج وصولا إلى الرد الإسرائيلي بإعلان الحرب على قطاع غزة، وفي سياق الحرب على غزة خصصت مقاطع تفصيلية للحرب على المستشفيات التي شنتها إسرائيل بشكل غير مسبوق في تاريخ الحروب.
“عرب 48“: لقد كسرت الحرب على المستشفيات الفلسطينية كافة قواعد وأخلاقيات الحروب باستهدافها للمستشفيات بشكل مباشر؟
منصور: هذا يعني أنه في أي حرب قادمة في أي منطقة أخرى من العالم ستكون حرب على المستشفيات لأن العالم لم يستطع وقفها في غزة، سيكون استهداف للمدارس وأماكن النزوح والمنظمات الإنسانية، مثلما حدث مع “الأونروا” التي تمثل هدفا لإسرائيل منذ عام 2017 ويجري استهدافها لغرض التخلص من قضية اللاجئين الفلسطينيين.
“عرب 48“: الكتاب عرض في جزئه الثاني مجموعة شهادات لفلسطينيين عايشوا الحرب من غزة وخارجها؟
منصور: الشهادات شملت فلسطينيين وغير فلسطينيين نشرت على المواقع الإخبارية ومنصات التواصل الاجتماعي، مثلا أيهم السهلي، يعود بشهادته إلى التاريخ إلى ذاكرة النكبة التي تحتل حياة وروح الفلسطينيين، بكل ما تحمله من نزوح وطرد وتهجير ولجوء أينما أقاموا وأينما حلوا.
أخذت أيضا شهادات لجنود احتياط إسرائيليين شاركوا في الحرب ببدايتها ثم انسحبوا وكتبوا آراءً معارضة للحرب نفسها، لكنهم لا يعطون أي تبرير لعملية السابع من أكتوبر؛ جلبت شهادة لجندي احتياط من لواء “غولاني” يدعى نير كوهين من كيبوتس “ألماغور” وهو ينتمي لمنظمة “يكسرون الصمت”، تطرق فيها إلى تصريح وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموترتش، الذي دعا إلى محو حوارة عن الوجود، وهو نفسه الذي يدعو اليوم إلى الحكم بالإعدام على مليوني فلسطيني جوعا.
“عرب 48“: الكتاب وثق ستة أشهر من الحرب وها هي ستة أشهر أخرى تقترب على الانتهاء ولا أحد يستطيع وقف حرب الإبادة التي كشفت بشكل سافر عن طبيعة إسرائيل ودورها في المنطقة؟
منصور: لقد رأينا كيف أن إسرائيل تنسج رواية كاذبة لاستعمالها مظلة لحربها العدوانية، فيما يمنحها الرئيس الأميركي الحق بالدفاع عن نفسها، وكيف بدأت مباشرة بعد عملية السابع من أكتوبر عمليات الدعم والإسناد العسكرية الأميركية والبريطانية وغيرها من الدول الغربية، وهي في ذات الوقت الذي تشير إلى عجز إسرائيل في الدفاع عن نفسها أمام مقاومة الفلسطينيين، فإنها تعكس خوف هذه الدول الاستعمارية من انهيار مشروعها الكولونيالي الذي يهدف إلى تمزيق وتفكيك وتفتيت المنطقة العربية، والذي صرفت عليه خلال مئة عام 530 مليار دولار.
*جوني منصور: مؤرخ وباحث وناشط سياسي فلسطيني مقيم في حيفا. له العديد من الكتب والدراسات التاريخية والسياسية، منها “الاستيطان الإسرائيلي”، “المؤسسة العسكرية في إسرائيل”، “مسافة بين دولتين”، “القاموس التاريخي لفلسطين” بالشراكة مع إيلان بابيه.
المصدر: عرب 48