ردّ «حزب الله» ومعادلة الردع الجديدة في الإقليم!
على المستوى العسكري والميداني لا يمكنني تقييم حقيقة ما أدّت إليه الضربة التي وجّهها “حزب الله” في إطار ردّه على اغتيال القائد العسكري الأوّل بالجنوب اللبناني فؤاد شكر، والذي مثّل “أي هذا الاغتيال” ضربة كبيرة للحزب في إطار سلسلة طويلة من الاغتيالات النوعية لقيادات الحزب العسكرية، وذات الأهمية الميدانية الكبيرة والخاصة.
لكن، وبقدر ما يستطيع أيّ متابع ومراقب أن يلاحظه فإنّ الحزب، على ما يبدو، لم يقم بعملية مباغتة على الإطلاق، وكان معروفاً في الساعات الـ24 التي سبقت الضربة، بل وكان معلناً أنّ الضربة باتت وشيكة، وأنّها باتت مسألة ساعات أو أيّام قليلة فقط.
المباغتة أنّ الضربة قد تمّت بالضبط في، وأثناء انتظارها، وهذا يشكّل برأيي أكبر نجاح لها، وهذا بالضبط هو عنصر المفاجأة فيها.
وسواء اعترفت دولة الاحتلال علنياً بهذه المسألة أم لا، إلّا أنّ أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية ستتوقّف كثيراً عند هذه الحقيقة، وسيطول توقّفها لأسباب أخرى، ربما سنأتي عليها في معالجات قادمة قريباً.
في اليومين السابقين لردّ الحزب كان واضحاً لكل متابع أنّ تركيز العمليات العسكرية، أو إعادة تركيزه على “ميرون” العسكرية، وعلى القواعد الشبيهة بها كان يعني حتماً أنّ الضربة تقترب، وأنّها أصبحت واردة في كل لحظة، وكانت دولة الاحتلال قد فهمت وتأكّدت من ذلك.
ما سمته الدولة العبرية الضربة الاستباقية قد تكون فعلاً قد أثّرت على حجم ونتائج هذه الضربة، ولكنها لم تتمكن من منعها، ولم تتمكّن من وصول الضربة إلى تحقيق نجاح في استهداف منطقة حسّاسة على ما تبدو عليه الأمور حتى الآن، وفي كون أنّها تقع في منطقة الوسط، وربما في المنطقة الممتدة بين تل أبيب الكبرى، وضواحي حيفا الجنوبية.
استخدم الحزب تكتيك “الإعماء” على مرحلتين:
الأولى، في العمليات العسكرية في اليومين السابقين على الضربة.
والثانية في استخدام كميات كبيرة من الصواريخ المتزامنة الإطلاق، ومن المسيّرات التي شاغلت وسائل الدفاع الجوّي لوصول صواريخ، أو مسيّرات خاصة إلى الهدف المحدّد، وهو يشبه إلى حد بعيد التكتيك الذي استخدمه الإيرانيون في ضربة نيسان.
ثبت بالملموس أنّ الحشود الأميركية لا طاقة، ولا إمكانية لديها لمساعدة دولة الاحتلال، أو بمعنى آخر ليس هناك من أيّ تأثير يذكر لهذه الحشود على الجبهة اللبنانية، ولم تستفد دولة الاحتلال منها في ردع الحزب، أو في التأثير على قراره، والسبب معروف، وهو أنّ المسافة لا تسمح للدفاعات الجوّية الأميركية بالتدخّل.
وفي هذه المسألة تكمن نقطة ضعف أخرى في أيّ مواجهة كبرى، أو أكبر بين الحزب ودولة الاحتلال.
ليس واضحاً بعد فيما إذا كان تأكيد المقاومة في لبنان على اعتبارها لهذه الضربة “المرحلة الأولى من الردّ” هو مجرّد سياق للحرب النفسية، أو فعلاً مسألة مقصودة تماماً.
أُرجّح الافتراض الثاني، وأظّنه هو بالذات ما تهدف له المقاومة في لبنان، وهو جزء من التغيّرات التي أدخلتها في حساباتها لتغيير معادلة الردع في الإقليم كلّه، وبالتنسيق الكامل مع باقي أطراف “محور المقاومة”.
وفي ظنّي، أيضاً، أنّ المرحلة الجديدة من استنزاف دولة الاحتلال قد بدأت فعلاً، وهي مرحلة نوعية جديدة أصعب عليها من المراحل السابقة كلّها في هذه الحرب الطويلة.
والذي يشي بأنّها أصبحت تعي وتدرك بعمق معالم هذه المرحلة النوعية الجديدة، وأخطارها على حالة الاستنزاف الكبيرة والجديدة هو ما أعلنته، وما أبلغت به بعض الأطراف في العالم، وفي الإقليم من أنّها مستعدة للتوقّف هنا.. إذا “رضي الحزب” عن ردّه واعتبره كافياً على حادثة اغتيال شكر!
ماذا يعني هذا الإبلاغ؟
هذا الإبلاغ هو محاولة “أقل من متوسّطة الذكاء” بأنّ دولة الاحتلال “أحبطت” هجوم الحزب، أو أنّ حجم الضربة لم يكن مؤثّراً، أو لم يكن مؤثّراً بصورةٍ خاصة، وهي لذلك مستعدة للوقوف هنا”، والتذاكي هنا أكبر مما يمكن التغطية عليه.
كما أنّ هذا الإبلاغ هو دعوة لهذه الأطراف لـ”التوسّط” للتوقف عند هذا الحدّ خوفاً من الانزلاق إلى حربٍ أكبر، وهو ما يعني أنّ دولة الاحتلال هي من تخشى هذا الانزلاق، ويكاد المريب هنا يقول خذوني!
وهذا الأمر بحدّ ذاته يعني أنّ دولة الاحتلال أصبحت تسلّم بأنّ ما يقوم به الحزب على مستوى الإسناد، وبنفس درجة ووتيرة ما كانت عليه الأمور قبل رد الحزب لم يعد هو المشكلة، وأنّها مستعدة للتعايش معه ــ أي مع الإسناد والوتيرة والدرجة ــ على ألا يتطوّر إلى ما هو أبعد وأعمق وأكبر وأخطر.
وفي هذا يكمن الوجه الأوّل لتغيّر معادلة الردع في الإقليم، ولأنّ دلالات هذا كلّه هي دلالات بعيدة الأثر والمعنى والمغزى.
تريد المقاومة، و”المحور” كلّه، طالما أنّنا في المرحلة الأولى من الردّ، وطالما أنّ إيران ستردّ في الأيام القادمة، وطالما أنّ الردّ لن يكون شكلياً أو استعراضياً، وإنما سيكون قوياً، وربما مدوّياً، أيضاً، فإنّ دولة الاحتلال ستبقى تقف على رجلٍ واحدة لأجلٍ غير مسمّى، وبعد الردّ الإيراني، أو قبله ــ لا نعرف على وجه الدقّة ــ سيأتي الردّ الحوثي في اليمن، وربما قبله أو بعده ــ وهنا لا نعرف بعد، أيضاً ــ الردّ من قبل المقاومة الإسلامية في العراق، فإنّ حالة دولة الاحتلال ستكون، وستظلّ إلى فترة طويلة قادمة في وضع الاستنفار التام، والتأهُّب الكامل، وفي حالة استنزاف للموارد العسكرية والأمنية، والاستنزاف الاقتصادي الكبير كما ألمح محافظ بنك الدولة العبرية في الأيام القليلة الماضية، والذي أكّد فيه أنّ الوضع الاقتصادي سيستطيع التعايش مع حالته السيئة لفترة معينة، لكنه لن يتمكّن طويلاً من مثل هذا التعايش إذا استمرت الأمور على هذه الشاكلة، أو إذا دخلت الحرب إلى مراحل جديدة، أكبر وأعمق مما هي عليه الآن.
أقصد أنّ المرحلة الجديدة هي مرحلة نوعية جديدة من الاستنزاف، على كلّ الصُّعد، ومن دون أفق، ومفتوحة، وقد تنزلق إلى حرب أكبر، والمجتمع الإسرائيلي عليه أن يغادر مرحلة “الأمن”، وأن يتعايش ــ إذا استطاع ــ مع حرب استنزاف طويلة سيودع فيها وخلالها كلّ ما سبق من شعور بالقوّة، ومن زهوّ وعجرفة، ومن رخاء العيش ورغده مرّة وإلى غير رجعة.
إمّا النزف المتواصل أو الحرب الطاحنة، وإمّا العيش في ظلّ الخوف والرُّعب، وإمّا الهلع من الحرب المدمّرة!
الحلّ الوحيد الذي بات أمام “شلّة المغامرين” في دولة الاحتلال إمّا المغامرة والمقامرة بكلّ شيء أو إنهاء الحرب الدموية والإجرامية على قطاع غزّة، وإنجاز الصفقة بأسرع ما يمكن علّهم يتمكنون من إنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل انفلات “شلّة المغامرين” نحو الحماقة الكبرى، وربما الأخيرة.
على ما يبدو فإنّ إستراتيجية “محور المقاومة” قد تمكّنت من جرّ دولة الاحتلال إلى منطقة الكمين الذي نصبه لها.. الكمين الذي اكتشفته دولة الاحتلال، وبات معروفاً لأميركا ولكلّ “الغرب”، ولكلّ الإقليم، وعليها، وعلى أعوانها من كلّ أنواع الأعوان أن يقرّروا ماذا هم فاعلون؟!
قُلنا ونُعيد: قتل عشرات آلاف الفلسطينيين، وتدمير حياتهم سينفع عُتاة التطرُّف والعنصرية في الإجابة عن أسئلة الأيديولوجيا، ولكنّه لا ينفع في الإجابة عن أسئلة السياسة ومعادلات الصراع.. وإلى اللقاء في المقال الجديد حول هذه المسألة بالذات.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر