استطلاعات الرأي سلاح استراتيجي خطير!
تذكرتُ مركزا إعلاميا في غزة حاول أن ينفذ استطلاعا للرأي في زمن الانتخابات التشريعية الفلسطينية العام 2006، فعهد أحدُ مسؤولي وسائل الإعلام إلى أحد الموظفين ممن ظن أنه قادر على تنفيذ استطلاع الرأي بحكم العلاقة الشخصية، وليس الكفاءة العلمية، عهد إليه أن يتولى استطلاع رأي في الانتخابات التشريعية، كان سؤال الاستطلاع المركزي هو: لمن ستدلي بصوتك في صندوق الانتخابات، لـ»فتح» أم « حماس »؟ فصمم الاستبانة الخاصة بطريقته الخاطئة الخاصة، ثم طبعها ثم أعلن عنها، ثم وزعها على معارفه في القطاعات المختلفة ممن يماثلونه في الانتماء الحزبي والمهني، مع العلم أن كل المعارضين امتنعوا عن تعبئة نموذج الاستطلاع، ثم عهد إلى طاقم غير مختص بتوزيعها، وكان يظن أنه مكلف فقط بتصميمها وطباعتها وتوزيعها على أبناء السبيل والمعارف، وكان يعطي هؤلاء الكمية التي يرغبون في ملئها بلا معرفة لعدد العينة النهائي، ونسبة الخطأ فيها!
المهم أنه جمع تلك الاستطلاعات، ثم وضع نتائجه الاجتهادية النهائية في وقت قصير، ثم أحضر نتائجه ليبشر مسؤوليه بفوز حركة فتح، كنتُ بمحض الصدفة جالسا عند أحد مسؤوليه، كان سعيدا جدا وهو يبشر بأن الفائز بالضربة القاضية هو حركة فتح، ستفوز بنسبة 75%!
سألته عن الطريقة التي أُسَست عليها عينات استطلاعات الرأي، هل كانت العينات عشوائية، أم حصصية، أم طبقية، وعدد العينات، وطريقة توزيعها في المجتمع الفلسطيني، ونسبة الخطأ فيها، ابتلع ابتسامته الأولى وتردد كثيرا، ثم ابتسم باضطراب قائلا: العينات هي جماهير حركة فتح والفصائل! ولما سألته: هل المشاركون في الانتخابات سيكونون هم فقط أبناء حركة فتح؟ ابتسم مرة أخرى ابتسامة باهتة، خشيت أن تتحول إلى لكمة في الوجه!
أما القصة الثانية التي أعرفها أيضا، أن أحد مقاولي استطلاعات الرأي، ممن يرتزقون من ورائها، استأجر مكتبا خاصا، وكلف مجموعة من الشباب والشابات لتعبئة استمارات استطلاعات الرأي المطلوبة من المانحين، مع العلم أن معظم استطلاعات الرأي كان موضوعها، الصندوق الأسود في مجتمعنا مثل، قتل النساء على خلفية تهمة الشرف، وقضايا البطالة والفقر وتحديد النسل، وقضايا سياسية عديدة أعدها مسؤولو جهات الدعم الخارجي بحجة أنها للدراسة، وهي في الحقيقة معلومات مطلوبة لجهات التمويل.
كان مقاول مركز الدراسات يعطي كل شاب وفتاة عشرة استطلاعات رأي ويكافئهم بثلاثة دولارات على الاستطلاع الواحد بشرط أن يعيدوه معبأ خلال يومين، بدون أن يتأكد من كفاءة المسؤول عن تعبئة العينات المقصودة، ذات يوم سألته وأنا أشاهد أكوام الاستبانات الجاهزة لإرسالها بالبريد السريع، قلت له: يمكن أن يقوم كل فرد بتعبئة العشرة مرة واحدة في بيته من أفراد أسرته بدون أن يوزعها على العينات، ابتسم ساخرا من كلمة العينات قال: المهم أنهم يعبئونها، ثم أضاف المهم عندي هو مساعدة عدد كبير من طلاب وطالبات الجامعات كي يحصلوا على مصروفهم الشخصي!
إن معظم استطلاعات الرأي الموجهة والممولة من الخارج هدفها الرئيس تضليل الرأي العام وقيادة الجماهير وتسييرها بخطط تجارية وسياسية نفعية تصب في جيب ممولي هذه المراكز، ولعل أبرز مخاطرها أيضا إحباط كثيرين عن المشاركة في الانتخابات العامة، لأن أكثر استطلاعات الرأي تستخلص النتائج الموجهة غير الدقيقة قبل بدء الانتخابات، ما يدفع كثيرين إلى عدم المشاركة في هذه الانتخابات، لأنهم سيقولون، ما دامت النتائج ستكون على تلك الشاكلة، إذاً، لا فائدة من المشاركة فيها!
إن استطلاعات الرأي في عالم اليوم هي علوم استراتيجية دخلت في إطار الاستخبارات فائقة الخطورة، تقودها شركات كبيرة في دول كبيرة، لتؤدي دورين متناقضين، الأول هو إعطاء الممولين والمنظمين لهذه الاستطلاعات معلومات صحيحة ودقيقة عن الرأي العام، توجهاته، رغباته، ليتمكنوا من إيجاد الطريقة الملائمة لقيادته وغزوه، أما الدور الثاني فهو دور تضليل الشعوب المغلوب على أمرها بنتائج زائفة لتصبح سوقا لمنتجات دول السيطرة، وهذا هو النوع السائد في مجتمعاتنا للأسف!
للعلم فقط، فإن مركز جورج غالوب الأميركي العالمي لاستطلاعات الرأي المؤسس العام 1935 هو أحد أهم ركائز المعلومات، لأنه يقدم استشاراته لصانعي القرارات الأميركيين، وهذا ينطبق أيضا على إسرائيل لأنها استفادت من تجارب العالم في هذا السياق، ومنحت الحرية لتأسيس هذه المراكز لخدمة أهدافها، ومن أبرزها مركز «داحاف» لاستطلاعات الرأي، وهو المركز المواظب على إعطاء المسؤولين معلومات حديثة عن توجهات الرأي العام ليس في إسرائيل فقط، بل في العالم أجمع!
أدركت معظم دول العالم أهمية استطلاعات الرأي، لذا فإنها استقطبت الكفاءات ومنحتهم المكافآت، وأتاحت لهم حرية العمل، واعتبرت مراكز استطلاعات الرأي داخلة في أمنها الوطني، وداخلة أيضا في أمنها الخارجي، فهي صناعة مستقبلية تماثل صناعة السلاح في سريتها!
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر