حول عمليّة معبر الكرامة…
تعبير “تمّ تحييده” أو “تحييدهم”، لم يكن مستخدمًا في السابق، كان يقال “قُتل خلال تبادل إطلاق النار، أو تمّ قتلهم”، الطرف العربيّ، يستعمل تعبير استشهد واستشهدوا.
كانوا في الماضي يستخدمون عبارة “سقط” قتيلًا، أو سقط شهيدًا، وصاروا يقولون ارتقى شهيدًا، لأنّ تعبير السقوط لا يلائم الشهيد، كذلك فإنّ تعبير سقط في المعركة ليس تعبيرًا عربيًّا في الأصل. كانوا يقولون استشهد أو قتل في المعركة، ولم يستعلموا تعبير سقط.
التحييد يوحي بأنّه لم يكن هناك قصد للقتل، وإنّما فقط لوقف قدرته على الإيذاء، ومن هنا يبدو أنّ فاعل فعل التحييد ليس قاتلًا، لأنّه لا يقصد القتل بهدف القتل، علمًا أنّهم يمنعون إسعاف المصابين، ويتركونهم ينزفون حتّى الموت، ولو كانوا من المدنيّين أو الصحفيّين.
في المقابل، نرى أنّ القتلى من الجنود في عمليّات يبادر لها الاحتلال توصف بأنّها قتل(רצח) وهذا التوصيف يقصد به أنّ القاتل جاء عامدًا متعمّدًا للقتل، لأنّه قاتل سفّاح، وبلا سياق، وبلا سبب أو دافع على أرض الواقع.
قال نتنياهو بعد عمليّة جسر الكرامة الّتي نفّذها الشابّ الأردنيّ ابن عشيرة الحويطات ماهر الجازي الحويطات، بأنّنا “محاطون بأيديولوجيا قاتلة يقودها محور الشرّ بقيادة إيران”.
هكذا فإنّ نتنياهو يريد نزع عمليّة معبر الكرامة عن سياقها العامّ والتاريخيّ، وما يجري في قطاع غزّة ونسبها أيديولوجيًّا إلى قتل وشرّ، ومحور تقوده إيران.
نتنياهو معتاد على فصل كلّ حدث عن سياقه، وهذا بالضرورة، لأنّ الحديث عن السياق التاريخيّ يوصل إلى جذور المشكلة، ورفض الاعتراف بحقوق الآخر، فمن يطلق رصاصة على جرّافة أو دبّابة أو جنديّ احتلال هو قاتل بالجينات وليس مقاومًا، نتنياهو يزيح جرائم الاحتلال جانبًا كأنّها غير موجودة، ويخاطب الشعب في إسرائيل ومن يسمعه من العالم كما يخاطب بعض الأميركان الصهاينة، الّذين يرون في إسرائيل المتنوّرة الديمقراطيّة ضحيّة للمتوحّشين العرب والمسلمين البدائيّين.
نتنياهو ينسب العمليّة في جسر الكرامة إلى أيديولوجيا القتل، أي أنّ الشابّ الأردنيّ ماهر ذياب حسين الجازي، خطر في باله فجأة قتل إسرائيليّين كي يشبع لديه غريزة القتل، الّتي ولدت معه ومع عشيرته ومع شعبه وأمّته.
في هذه المقولة نكران لما قام ويقوم به النظام الأردنيّ، في خدمة الهدوء على الحدود الأردنيّة، النظام الّذي حافظ على علاقات طبيعيّة مع الاحتلال، رغم المطالب الشعبيّة الّتي تكرّرت من خلال مظاهرات أمام السفارة الإسرائيليّة في عمّان، بقطع العلاقة الدبلوماسيّة مع إسرائيل، رغم أنّ دولًا أجنبيّة عديدة فعلت هذا احتجاجًا على حرب الإبادة.
مقولة نتنياهو لم تستثن النظام الأردنيّ ولا النظام المصريّ ولا سلطة رام اللّه ولا دول التطبيع الأخرى من أيديولوجيّة القتل الّتي يزعم وجودها.
عندما احتلّت إسرائيل الضفّة الغربيّة والقدس عام 1967 حيث كانت تحت سيطرة أردنيّة، كانت إيران بقيادة الشاه محمّد رضا بهلوي صديقة وحليفة لإسرائيل، وكانت الشركات والمخابرات الإسرائيليّة تعمل وتسرح وتمرح في إيران، حتّى ثورة الخميني في العام (1978).
وكان الاستيطان في الضفّة الغربيّة ومصادرة الأرض، قد بدأت منذ أواخر عام 1967، وما زالت مستمرّة حتّى يومنا، وكلّ هذا قبل ولادة “محور الشرّ الإيرانيّ”! فقد كان هناك محور مخرّبين وقتلة، كانت المقاومة الفلسطينيّة، وكانت حرب الاستنزاف مع مصر وسوريا، ومعركة الكرامة مع الأردنّ، ثمّ مع القوّات المشتركة اللبنانيّة الفلسطينيّة، وكانت انتفاضات حجارة وإطارات مشتعلة، وكان هناك جرائم احتلال.
كانت مصر قد وقعت معاهدة سلام مع إسرائيل عام 1979، وما زالت متمسّكة بها، رغم الأهوال الإجراميّة الّتي مارسها ويمارسها الاحتلال. كذلك فقد وقعت منظّمة التحرير اتّفاقيّة أوسلو عام 1993، والأردنّ اتّفاقيّة وادي عربة عام 1995.
بقي النظامان الأردنيّ والمصريّ على علاقة طبيعيّة مع الاحتلال، تخلّلها بين حين وآخر نقد خجول، ولكنّه لم يكن حازمًا أبدًا، ولم يعكس حقيقة مشاعر الشعبين الأردنيّ والمصريّ تجاه جرائم الاحتلال، خصوصًا حرب الإبادة الحاليّة.
مقولة نتنياهو هي الّتي تحمل فكرة الكراهية للآخر، فهو محاط بدولتين أساسيّتين تعاونتا معه إلى آخر الحدود، إضافة للسلطة الفلسطينيّة الّتي ترجو الاحتلال رجاء بأن يقبل التعاون معها، وليس أن يستعملها كأداة قمع لشعبها.
في الحقيقة أنّ الاحتلال بدعم أميركيّ نجح منذ أحد عشر شهرًا في حجب دعم الشعوب العربيّة، إذا ما استثنينا المقاومة اللبنانيّة والحوثيّين، بل وحالت الأنظمة حتّى دون الدعم المعنويّ، بمعنى أنّ الأنظمة نجحت في احتواء غضب الشعوب بشتّى الطرق، مباشرة وغير مباشرة، مثل الإيهام بالقيام بعمل بطوليّ من خلال إلقاء مساعدات في المظلّات على شمال قطاع غزّة بالتنسيق مع الاحتلال، ومن جهة أخرى التحريض الإعلاميّ ضدّ المقاومة وتحميلها المسؤوليّة عن جرائم وفظائع الاحتلال.
في الحقيقة إنّ ما حدث على معبر الكرامة، مثّل وجدان أكثريّة الشعب الأردنيّ الرافض بقوّة لما يقترفه الاحتلال، والّذي يشعر بإهانة قوميّة ودينيّة إزاء ما يجري، ولو أتيحت الفرصة للشعوب، لرأى نتنياهو الملايين يهبّون لنصرة إخوانهم وجيرانهم المستضعفين.
ما يؤكّد هذا، الاحتفالات العفويّة الّتي انطلقت في ساحات المدن الأردنيّة، من معان إلى عمّان إلى الرمثا وغيرها، فقد عمّت الفرحة الأردن كلّه باستثناء قلّة نادرة، ليس رغبة في القتل وسكب الدماء، ولا احتفاء ب”الشرّ الّذي تقوده إيران”، بل لأنّ جرائم الاحتلال وخوضه في دماء حوالي مئتي ألف فلسطينيّ بين شهيد وجريح، منها حوالي عشرين ألف طفل، فاقت أيّ قدرة على التعامي والتجاهل وإدارة الظهر.
نعم، هنالك أنظمة محيدة، ولكن لا يمكن تحييد مشاعر الشعوب العربيّة تجاه أشقّائهم المظلومين، ولا تجاه مقدّساتهم وتاريخهم المهدّد بالمحو والتدمير.
قادة الاحتلال يدركون هذا، فهم ليسوا أغبياء، ويتعاونون مع الأنظمة لامتصاص نقمة الشعوب، ويقدّمون لها النصائح والاستشارات، وها هم يتحدّثون ومنذ الأمس عن تبادل الاتّصالات لتسليم جثمان الشهيد ماهر الجازي، لم يأمر نتنياهو وأجهزته الأمنيّة باحتجاز الجثمان كما يفعلون مع جثّامين الفلسطينيّين، وذلك لاحتواء أثر العمليّة بسرعة، وإلقائها إلى غياهب النسيان، كي لا يكون لها إسقاطاتها على الشباب الأردنيّ وغيره من الشباب العربيّ كلّه.
المصدر: عرب 48