غزّة قبيل النكبة وبعدها في مذكّرات سليم الزعنون (4)
حين اندلعت واشتدّت أحداث النكبة في مطلع صيف عام 1948، تطوّع تلاميذ مدرسة الشافعيّ الغزيّة، ومن بينهم سليم الزعنون الّذي كان ما يزال تلميذًا في ثانويّتها بالخروج إلى شاطئ بحر غزّة لاستقبال اللاجئين القادمين يافا إلى غزّة عبر البحر…
لاجئون فلسطينيّون في الفالوجة عام 1948 (Getty)
“كانت جدّتي تُعاني أزمة صدريّة تشتدّ عليها عند قيام الطائرات بالتحويم، وكانت المدافع المصريّة تنطلق لمحاولة إصابتها أو إبعادها، فكانت تدعو: يا ربّ أسكت المدافع، وعندما نقول لها المدافع لنا يا جدّتي، تقول: لا أخاف من الطائرات، ولكنّ ما يفزعني صوت المدافع”.
يقول سليم ديب الزعنون في حاشية إحدى صفحات مذكّراته عن أيّام النكبة في مدينته غزّة، ودخول الجيش المصريّ لها، وإلى لواء الجنوب لتخليصها من أيدي الصهاينة في حينه.
ليست مذكّرات سليم الزعنون (أبو الأديب) بعنوان “السيرة والمسيرة”، الصادرة بطبعتها الأولى عن دار “الأهليّة للنشر والتوزيع” سنة 2013، سيرة في غزّة، بقدر ما هي في تاريخ فتح والحركة الوطنيّة الفلسطينيّة ودورها في العواصم العربيّة وفلسطين منذ خمسينيّات القرن الماضي. ومع ذلك، فلغزّة قسط وافر من صفحات سيرة كاتبها، بحكم مولده ومنشأه في غزّة المدينة قبل أن يغادرها وعائلته للمنفى.
إلى أسرة غزيّة الأصل، امتهنت التجارة في حارة الزيتون من المدينة ولد سليم الزعنون في مطلع ثلاثينيّات القرن الماضي، عمل والده ديب الزعنون وكيلًا لشركة “سنجر” المختصّة بصناعة وتوريد ماكينات الخياطة الّتي كان فرعها فلسطينيّ الأساس في مدينة يافا، فكانت هذه الأخيرة، أوّل مدينة يصحبه أبوه معه إليها من غزّة. لم تترك الأسرة غزّة مرّة، إلّا في الحرب العالميّة الأولى، حين هجر الغزيّون مدينتهم بعد تدميرها، فنزل أبو سليم قرية المسمية شماليّ غزّة، إلى أن انتهت الحرب، وعادوا إلى مدينتهم. و”في غزّة كنّا لا نعرف اليهود” يقول سليم الزعنون عن مدينته، لأنّ يهودها العرب التاريخيّين فيها، قد غادرها آخر من تبقّى منهم في أواخر العشرينيّات مع أحداث البراق في فلسطين.
قبيل النكبة
في كتاب الشيخ خليل الغزالي بمسجد الشمعة في حارة الزيتون، تعلّم صاحب المذكّرات فكّ الحروف الأولى، قبل أن يلتحق في أواسط الأربعينيّات بمدرسة “الشافعيّ” أشهر مدارس غزّة الثانويّة قبيل النكبة وبعدها، في حياة مدرسيّة يضجّ جيل تلاميذها بنظم الشعر وإلقائه، تمامًا مثلما كانت مقاهي غزّة تعجّ مساء بروّادها من الغزيّين والأهالي المولعين بسماع الحكايات والسير الشعبيّة مثل: أبو زيد والزير وبني هلال، الّتي كانت على ألسنة حكواتيّة غزّة والعريش المصريّة. وممّا يذكّره أبو الأديب، أنّ لدى أهالي غزّة انشداد إلى سماع السير الشعبيّة إلى حدّ اصطفافهم مع وضدّ، لا بل واقتتالهم في المقاهي وشجّ رؤوس بعضهم بعضًا أحيانًا.
حين اندلعت واشتدّت أحداث النكبة في مطلع صيف عام 1948، تطوّع تلاميذ مدرسة الشافعيّ الغزيّة، ومن بينهم سليم الزعنون الّذي كان ما يزال تلميذًا في ثانويّتها بالخروج إلى شاطئ بحر غزّة لاستقبال اللاجئين القادمين يافا إلى غزّة عبر البحر. كان من بين الأطفال النازحين مع ذويهم من يافا صلاح خلف (أبو إياد) الّذي أصبح لاحقًا أحد أبرز قيادات حركة فتح الّذي اغتالته إسرائيل. “كنّا نحمل الأطفال من السفن إلى الشاطئ، وننقلهم مع أهاليهم إلى مدارس مدينة غزّة ومساجدها الّتي صارت مأوى لهم”. وكذلك قيام تلاميذ المدرسة بجمع الخبز من بيوت أهالي المدينة وتقديمه للنازحين اللاجئين إليها على ما يتذكّر سليم الزعنون في مشهد من أحداث ذلك العام في مدينته.
كما تطوّع بعض طلّاب مدارس غزّة وقتها في أعمال حفر الخنادق حول “تلّ المنطار” أشهر تلال غزّة في تاريخها ارتفاعًا وقدسيّة بالنسبة لأهالي المدينة عبر تاريخها. كان لتلّ المنطار موسمًا سنويًّا يقصده الغزيّون وفلّاحو القرى المحيطة في المدينة في موقعه شرقها. كما كان أوّل ما يلوذ به المدافعون عن المدينة للدفاع عنها على مدار تاريخها العسكريّ، لأنّه أوّل ما كانت تقع عليه أعين غزّاتها ومحتلّيها من أجل إحكامهم السيطرة على غزّة.
دخول المصريّين
دخل الجيش المصريّ غزّة قادمًا من سيناء في أواسط أيّار/مايو 1948، وعن تلك الأيّام في ظلّ وجود المصريّين يتحدّث الزعنون في مذكّراته، حيث التحقت بالجيش المصريّ مجموعات مقاتلة من حركة الإخوان المسلمين المصريّة الّتي دفع بها حسن البنّا للدفاع عن فلسطين. وعن معارك النكبة في لواء الجنوب الّتي خاضها المصريّون ومجموعات الإخوان وكذلك المقاتلون الفلسطينيّون من سكّان مدينة غزّة يتحدّث صاحب المذكّرات، في دير سنيد – محسوم إيرز لاحقًا – حيث القرية الّتي دارت فيها أشهر معارك الدفاع عنها مع المنظّمات الصهيونيّة في ذلك العام. وكذلك في الفالوجة وحصار الجيش المصريّ فيها، ودور كلّ من جمال عبد الناصر وسيّد طه (الضبع الأسود) في الفالوجة.
بتقدير صاحب المذكّرات، فإنّ القوّات المصريّة الّتي دخلت اللواء الجنوبيّ لفلسطين، قد تجاوزت مستوطنات الصهاينة فيه متقدّمة إلى الشمال، الأمر الّذي حول هذه المستوطنات إلى ألغام خلف الجيش المصريّ، ممّا أوقع في صفوفه خسائر كبيرة أثّرت في مصير لواء غزّة ومصيره. كانت الجيش المصريّ رغم بطولة مجنّديه واستبسالهم في قتال الفالوجة، يعاني خسائر وحصار فرضته العصابات الصهيونيّة عليه، وذلك في الوقت الّذي كان يحتشد فيه الغزيّون والنازحون من القرى المجاورة في أواخر العام نفسه في متنزّه غزّة للاحتفال بانتصارات لم تحدث. بالنسبة لسليم الزعنون، كان أكبر خطأ ارتكبه المصريّون في أواخر عام 1948 ومطلع العام الّذي تلاه بعد دخولهم غزّة بأنّهم سحبوا وجمعوا السلاح من أيدي مجاهدي المدينة، وكان ذلك أحد أسباب ضياع ريف مدينة غزّة وسقوطه بأيدي الصهاينة.
اختلفت الروايات في المصادر، وكتب المذكّرات عن السبب وراء سحب المصريّين لسلاح الغزيّين وجمعه منهم، بينما صاحب المذكّرات يردّ ذلك إلى الفوضى وأعمال السلب والنهب الّتي عمّت غزّة منذ نهاية عام 1948، خصوصًا مع تدفّق حركة النزوح واللجوء إلى المدينة، الأمر الّذي دفع بالمصريّين إلى الضرب بيد من حديد لفرض الأمن والاستقرار بحسب ما يقول أبو الأديب.
بعد النكبة
التحق سليم الزعنون بعد النكبة بصفوف الإخوان المسلمين في القطاع خلال أحداث النكبة، حيث لم يقبل الإخوان عضويّته لصغر سنّه كما يقول وقتها، وبعد النكبة حلّت السلطات المصريّة حركة الإخوان في مصر وقطاع غزّة كذلك، فكان البديل الّذي بادر إليه أحد أعيان عائلة الشوّا في المدينة إقامة نادي جمعيّة “التوحيد” الّتي كان لها كبير أثر في تنظيم حركة الشباب الغزيّين المقرّبين من خطّ الإخوان. كما نظّمت الجمعيّة ذهاب كثيرين من الطلّاب الغزيّين للتعليم في الجامعات المصريّة، ومن بينهم صاحب المذكّرات، وفي إطار الخطّ الإخوانيّ نشط طلّاب غزّة في الجامعات المصريّة في القاهرة، ومن بينهم الرئيس الشهيد الراحل ياسر عرفات والشهيد صلاح خلف (أبو إياد)، وقد عاين سليم الزعنون ذلك النشاط، وانتظم فيه حين كان طالبًا بكلّيّة الحقوق في جامعة فؤاد الأوّل – جامعة القاهرة لاحقًا – في مطلع الخمسينيّات. وذلك بما يبيّن للقارئ الشكل الّذي انبثقت فيه حركة فتح الفلسطينيّة من عباءة الإخوان المسلمين، أو لنقل، علاقة منشأ حركة فتح بتنظيم الإخوان في مصر وقطاع غزّة بحسب شهادة (أبو الأديب) في حينه.
تخرّج سليم الزعنون من كلّيّة الحقوق، وعاد إلى مدينته غزّة سنة 1955، وقد رفضت سلطات الحكم المصريّ في القطاع تعيينه في وظيفة بالنيابة العامّة؛ بسبب نشاطه الطلّابيّ السابق مع الحركة الكلابيّة الفلسطينيّة في الجامعات المصريّة. الأمر الّذي دفعه باتّجاه أن يصبح مدرّسًا للّغة العربيّة في إحدى مدارس اللاجئين التابعة لوكالة غوث اللاجئين في القطاع. وهذا حال كثيرين بالمناسبة، من طلّاب قطاع غزّة الّذين أنهوا تعليمهم في الجامعات المصريّة، وعادوا إلى القطاع ليلتحقوا بسلك التعليم في مدارس.مخيّمات القطاع، نظرًا لحاجتها الماسّة للمعلّمين وقتها.
كما يتذكّر سليم الزعنون في مذكّراته، أحداث منتصف عقد الخمسينيّات في القطاع في ظلّ الحكم المصريّ، ونشأة المقاومة الشعبيّة فيه على أثر العدوان الثلاثيّ على مصر واحتلال إسرائيل لقطاع غزّة سنة 1956، والّتي برأيه كان لجمعيّة التوحيد ذات التوجّه الإخوانيّ، وقوى وطنيّة أخرى، دور في تأسيس المقاومة الشعبيّة في غزّة. كان للمقاومة الشعبيّة الغزيّة كبير دور في مواجهة جيش احتلال القطاع وقتها، سواء في توزيع المنشورات الرافضة والمحرّضة على جيش الاحتلال في القطاع، أو مقاطعة البضائع الإسرائيليّة لا بل ومحاربة النقد الإسرائيليّ بجلب عملة إسرائيليّة مزيّفة من مصر إلى القطاع من أجل ضرب نقد الاحتلال كما يروي صاحب المذكّرات، فضلًا عن العمل الفدائيّ، ومنه ملاحقة المتعاونين مع جيش الاحتلال في القطاع، وقد أشار صاحب المذكّرات إلى أسماء ممّن اعتبروا عملاء في القطاع جرت تصفيته في حينه.
كان للمقاومة الشعبيّة في غزّة وقتها، الفضل في إعادة الحكم العربيّ على القطاع بعد خروج جيش الاحتلال من القطاع في مطلع آذار/مارس 1957 بعد انتهاء العدوان الثلاثيّ على مصر وغزّة، إذ أرادت الأمم المتّحدة في حينه إدخال قوّات دوليّة لإدارة القطاع لولا أن هبّت غزّة على بكرة أبيها بأحيائها ومخيّماتها رفضًا لمحاولة تدويل القطاع، ممّا أرغمها على القبول بعودة المصريّين لحكم القطاع. كان الشهيد “محمّد شرف” الّذي أرداه رصاص أحد جنود القوّات الدوليّة، حين صعد شرف إلى سارية سرايا مدينة غزّة محاولًا تعليق العلمين الفلسطينيّ والمصريّ عليها يوم هبة الغزيّين، بدمه كتب تاريخ رفض تدويل القطاع وعودة الحكم العروبيّ عليه في حينه. وفي الوقت الّذي كان يعود فيه نظام سلطات الحكم المصريّ في القطاع، كان سليم الزعنون (أبو الأديب) يستعدّ وعائلته لمغادرة غزّة وقطاعها، في رحلة ستطول في المنافي والعمل الوطنيّ في صفوف حركة فتح في الخارج، قبل أن يعود إلى مدينته غزّة مجرّد زائر في زيارة خاطفة أواسط التسعينيّات.
المصدر: عرب 48