من وعد بلفور 1917 حتى انتفاضة البراق 1929 (32/1)
ظلّ الفلسطينيون طوال عشرات السنين، ومنذ بداية الاستيطان الصهيوني في بلادهم في نهايات القرن التاسع عشر، ورغم النكسات المتكررة لنضالهم من أجل وقف هذا الزحف على أراضيهم ومصادر معيشتهم، ورغم تسليح العصابات الصهيونية وإنشائها العشرات، بل المئات، من المستعمرات في طول البلاد وعرضها، ظلوا يعتقدون بأن هناك فسحة من الأمل، بل قل فرصة ستأتيهم عاجلًا أم آجلًا لدرء الخطر المحدق بهم، وبناء مشروعهم الوطني، والذي من شأنه أن يقضي على أطماع الصهيونية في بناء وطن قومي لليهود في أرض فلسطين، على حساب شعبها العربي وطموحاته السياسية والوطنية.
كافح الفلسطينيون بكل ما استطاعوا من قوّة لدرء الخطر الصهيوني، والتخلص من الاحتلال البريطاني، وكلما انتفضوا أو ثاروا، كلما خسروا في النهاية بسبب بريطانيا التي كانت تعمل على قدم وساق من أجل تثبيت أقدام اليهود والحركة الصهيونية في فلسطين، رغم بعض الاختلافات أحيانًا في وجهات النظر بينها وبين حلفائها اليهود. من جهة أخرى، كان ضعف القيادة الفلسطينية وعدم قدرتها على التحكم في الأمور، وارتباطها الكلي بمحيطها العربي، الذي كان هزيلًا وضعيفًا ومحتلًا بدوره، ولذلك كان يميل في أغلب الأحيان إلى تصديق أن بريطانيا حيادية في الصراع العربي الصهيوني على أرض فلسطين، ما أدى في الكثير من الأحيان إلى إقناع القيادة الفلسطينية للتنازل أو للتوقف عن فعل ثوري معين، بهدف إعطاء بريطانيا فرصة من أجل إيجاد حلّ للصراع الدائر، كما كان عند إنهاء الإضراب الفلسطيني الشامل عام ١٩٣٦ الذي استمر لمدة ستة أشهر كاملة.
في النهاية، وعندما كانت هناك حاجة إلى سياسة عربية قادرة على منع اتخاذ قرار في الأمم المتحدة عام ١٩٤٧، يقسم فلسطين بين العرب واليهود، فشل العرب فشلًا ذريعًا في إقناع الدول المختلفة بأن تقسيم البلاد، بحدّ ذاته، هو قرار جائر بحق أصحاب الأرض الأصليين، والذين يتوقون إلى حق تقرير مصيرهم وإنشاء دولتهم المستقلة. ليس هذا فقط، بل إن اقتراح التقسيم وبصيغته المعلنة، كان يميل إلى صالح اليهود. فلو فرضنا مثلًا أن اليهود يستحقون جزءا من فلسطين، فكيف لهم أن يأخذوا حصة أكبر من حصة الأكثرية، ولماذا يضمن القرار حق المستعمرات مهما كان حجمها صغيرًا، في الاستمرار، ولو أنها كانت تحدث تغييرًا في الحدود بين الدولتين المقترحتين، رغم أنها حديثة، ويمكن أن ينقل سكانها إلى مدن أخرى في نطاق الدولة اليهودية.
فشل العرب، وخسر الفلسطينيون خسارة كبيرة، بحيث أن نضالهم خلال سنين طويلة ضد الدولة اليهودية قد باء بالفشل، بينما أصبحت المطالب الصهيونية بعد هذا القرار أمرًا شرعيًا من الناحية الدولية، وعلى العالم أن يضمن تنفيذ قراره، مما يعد النصر الأكبر لليهود في طريق إنشاء كيانهم المزعوم.
الطريق إلى قرار التقسيم الذي صدر عام ١٩٤٧، استمر على مدى ثلاثين عامًا بعد صدور وعد بلفور عام ١٩١٧، وكانت هذه الطريق محفوفة بتضحيات جمة قدمها الشعب الفلسطيني في ثوراته وانتفاضاته، في مواجهة مؤامرة كبيرة تمثلت في لجان عديدة ومتعددة، وكتب بريطانية بيضاء تضمنت سياسة بريطانيا المحتلّة في إدارتها وانتدابها لفلسطين، وكانت توصيات وقرارات كل هذه المؤتمرات واللجان الخاصّة ليست في صالح العرب، حتى الوصول إلى لجنة “اليونسكوب” وهي اللجنة الخاصة التي أوكلتها الهيئة العامة للأمم المتحدة، إلى فحص الأوضاع في فلسطين، ومن ثم تقديم اقتراح لحلّ من شأنه أن يرضي الطرفين المتنازعين على الأرض: العرب واليهود، ويعطي تصورًا للوضع المستقبلي الذي يجب أن يكون، بما يشمل الموقف من الانتداب البريطاني في فلسطين، والذي كان قد توجه بشكل رسمي إلى الأمم المتحدة من أجل البث في شأن هذه البلاد، التي أصبح من الصعب عليه أن يستمر في احتلالها بدون أن يأخذ “بركة الطريق” من المنظمة الدولية حديثة العهد.
هذه السلسلة تستعرض أحداث الثلاثين عامًا من وعد بلفور حتى قرار التقسيم، حيث تمر بعجالة أحيانًا عن بعض الأحداث، وتسهب في سرد أحداث أخرى، وفي النهاية تستعرض مطوّلًا عمل اللجنة الخاصة للأمم المتحدة التي اقترحت قرار التقسيم (اليونسكوب)، وذلك لأهمية عملها وعدم الخوض بتفاصيله من قبل في الكتابات العربية.
وعد بلفور ١٩١٧
تضمنت رسالة وزيرة الخارجية البريطاني آرثر جيمس بلفور إلى البارون وولتر روتشيلد البريطاني اليهودي الصهيوني، المؤرخة بتاريخ ٢ تشرين الثاني/ نوفمبر عام ١٩١٧، ١١٧ كلمة فقط، ولكنها حوت في داخلها وعدًا صريحًا من الإمبراطورية البريطانية، إلى اليهود الصهاينة (كما جاء في الرسالة نفسها)، بإقامة وطن قومي لليهود، وذلك عن طريق تسهيل ذلك بكل قوتها، شرط أن لا يضر ذلك بحقوق المواطنين غير اليهود في فلسطين (حسب نص الرسالة). وأكد بلفور في تصريحه أن الأمر كان قد عرض على الحكومة، وتمت موافقتها عليه.
تم النشر عن هذا الوعد أو التصريح بعد أسبوع واحد من إصداره، أي في ٩ تشرين الثاني/ نوفمبر ١٩١٧، في جريدة “جويش كرونيكل” الصادرة في لندن، وذلك بعد يومين فقط من دخول قوات اللنبي إلى غزة، وقبل أن تحتل بريطانيا باقي فلسطين، لأنها، أي بريطانيا، كانت قد شعرت بالنجاح في حملتها، فقامت بتقديم وعد إلى اليهود بالسيطرة على أراضي شعب آخر، أي حسب تعبير الصهيوني “آرثر كيسلر”، أن تصريح بلفور هو وعد شعب بصورة رسمية، لشعب آخر بإعطائه أرض شعب ثالث. لكن الشعب الثالث، صاحب الأرض الأصلي، ليس له وجود حسب رسالة بلفور، فهو يذكر في رسالته المواطنين غير اليهود وليس الشعب الفلسطيني الذي كان يشكل أكثر من ٩٤٪ من السكان، أما اليهود فوصفهم بالشعب، وهو بذلك يتبنى بالمطلق شعارات الصهيونية بضرورة إنشاء وطن قومي لشعب بلا أرض على أرض بلا شعب.
لا عجب في ما ذكر، إذ إن بلفور نفسه، كان قد تطرق إلى الصهيونية في مذكرة يتناول فيها “التصريح البريطاني الفرنسي” والذي صدر في شهر تشرين الثاني / نوفمبر ١٩١٨، وتضمن وعدًا للشعوب العربية في سورية وفلسطين والعراق، بأن هدفهم هو إقامة حكومات وإدارات محلية تستقي شرعيتها من سكان هذه الدول. كتب بلفور: “لقد أخذت القوى العظمى الأربعة على عاتقها نير الالتزام تجاه الصهيونية، مهما كانت جيدة أو سيئة، ولكنها مزروعة عميقًا في تقاليد أجيال، وجذورها متجذرة في حاجات الحاضر وآمال المستقبل، وهي أعمق من الرغبات والأحكام القديمة لل ٧٠٠ ألف عربي، الذين يعيشون في هذه الأرض العتيقة. لا أعرف كيف يمكن لهذا الالتزام أن يتماشى مع التصريح البريطاني الفرنسي”. كذلك كان بلفور يعرّف نفسه على أنه صهيوني متحمس.
لا شكّ أن اقتناعه بالمشروع الصهيوني فقط، لم يكن ليقنع الحكومة البريطانية بضرورة الموافقة على تصريحه، بل إنها المصلحة الكولونيالية في منطقة الشرق الأوسط، وموقع فلسطين الاستراتيجي بالنسبة للمستعمرات البريطانية، وضرورة وجود دولة يهودية فيها تكون لها علاقات خاصة مع بريطانيا العظمى، كما جاء في الوثيقة التي قدمها الوزير البريطاني اليهودي “هربرت صموئيل” للحكومة البريطانية عام ١٩١٤.
نضال عربي ضد وعد بلفور
لم يتحرك الفلسطينيون للتعبير عن رفضهم لوعد بلفور حالًا بعد صدوره، إذ إن أنباءه كانت قد وصلت فلسطين متأخرة، بسبب إغلاق الصحف بسبب الحرب العالميّة الأولى، وحظر المحتل البريطاني أي نشر عن التصريح لمدة عامين. ناهيك عن الوضع المتردي في فلسطين بعد الحرب، بسبب النقص الحاد في الغذاء، وبسبب تأثيرات الحرب الكبيرة. ولكن سرعان ما تغيرت الأمور وبدأ الفلسطينيون في تنظيم أنفسهم في جمعيات عربية، تقوم بنشاطات من أجل التوعية من خطر الحركة الصهيونية، ومن ثم نظمت الجمعيات مظاهرات معادية للصهيونية في أكثر من مرة في القدس وبحضور عشرات الآلاف. وفي الرابع من نيسان / أبريل ١٩٢٠، وخلال احتفالات موسم النبي موسى، انطلقت مظاهرة ضخمة في القدس، تبعتها صدامات مع اليهود استمرت لمدة أربعة أيام. وكان سبب الصدامات هو تحرش العصابات الصهيونية التي نظمها “زئيف جابوتنسكي” بالمتظاهرين. كانت هذه انتفاضة العرب الأولى ضد الصهيونية ومشروع وعد بلفور، في يسمى انتفاضة موسم النبي موسى أو انتفاضة ١٩٢٠، وسقط فيها قتلى وجرحى من الطرفين العربي واليهودي، حيث قتل ٥ من اليهود و ٤ من العرب، وجرح أكثر من ٢٠٠ يهودي و ٢٣ عربيًا.
وصلت أنباء هذه الانتفاضة إلى مؤتمر “سان ريمو” للسلام، الذي قرر أن يمنح بريطانيا الحق في انتداب فلسطين، بدل أن يرفض سياساتها التي تتماشى مع روح وعد بلفور، لكن أحداثًا أخرى جرت قبل أن يصادق مجلس عصبة الأمم على نظام الانتداب في فلسطين.
في يافا، وفي بداية أيار / مايو ١٩٢١، انطلقت انتفاضة أخرى أكبر وأشد، واستمرت لأكثر من أسبوع، وقد اختلفت هذه الانتفاضة عن سابقتها، بأنها لم تقتصر على مدينة يافا فقط، بل تجاوزتها إلى أماكن أخرى في فلسطين، وراح ضحيتها ٤٨ شهيدًا فلسطينيًا، وحوالي ٤٧ قتيلًا بريطانيًا وصهيونيًا.
من ناحية أخرى، نظمت مجموعات عربية مسلحة هجمات على مستعمرات صهيونية تقع شمال سهل الحولة، وهي المطلة و”كفار چلعادي” و”تل حاي” و”حمّارة”، مما أدّى إلى تصفية الاستيطان اليهودي في شمالي سهل الحولة، ولو إلى حين، حيث أخليت جميع هذه المستعمرات حتى آذار / مارس ١٩٢٠، بعد معركة في مستعمرة “تل حاي” أدت إلى إخلاء المستعمرة نفسها و”كفار چلعادي”، بعد أن كانت المستوطنتان “حمارة” والمطلة قد سقطتا في شهر كانون الثاني / يناير ١٩٢٠.
الكتاب الأبيض وصك الانتداب البريطاني ١٩٢٢
بعد أحداث وانتفاضة يافا، قامت بريطانيا بتعيين لجنة ملكية لتقصي حقائق ما جرى في انتفاضة يافا، برئاسة “السير توماس هايكرافت”، ونشرت اللجنة تقريرها في حزيران / يونيو ١٩٢١، وعلى إثر ذلك قام “وينستون تشرتشل” وزير المستعمرات البريطاني بإصدار الكتاب الأبيض الأول في ٢٤ حزيران / يونيو ١٩٢٢، والذي حاول فيه أن يشرعن ما تضمنه وعد بلفور بشأن إقامة الوطن اليهودي، مع تحفظات من السرعة والطريقة التي تنتهجها الصهيونية من أجل تنفيذ هذا الوعد، حيث إن الكتاب الأبيض كان قد اعتبر أن إقامة الوطن اليهودي حسب وعد بلفور، لا يعني تحويل فلسطين إلى يهودية بالكامل، أو فرض الجنسية اليهودية على أهالي فلسطين، بل جعل فلسطين مركزًا دينيًا وقوميًا للشعب اليهودي، عن طريق تلقي المساعدات من يهود العالم. وأشار الكتاب إلى أن وجود اليهود في فلسطين هو حق وليس منّة من أحد، وهذا الوجود يستند إلى صلة تاريخية قديمة.
أما بخصوص الهجرة، فقد أقر الكتاب بضرورة استمرارها، لأنها الضمانة الأساسية لإقامة الوطن اليهودي، ولكن بوتيرة لا تجعل “المهاجرين عالة على أهالي فلسطين عمومًا، وعدم حرمان أي فئة من السكان الحاليين من أشغالها”، كما جاء في نص الكتاب الأبيض.
كان وينستون تشرشل في ذلك الحين من المتحمسين لفكرة إقامة الوطن القومي اليهودي، وكان يعتبر نفسه من الضامنين الرئيسيين لتنفيذ وعد بريطانيا عام ١٩١٧.
بعد إصدار الكتاب الأبيض الأول بشهر واحد، صادق مجلس عصبة الأمم على صك الانتداب البريطاني على فلسطين، والذي كان قد أعلن مشروعه بتاريخ ٦ تموز / يوليو ١٩٢١، وصودق عليه نهائيًا في ٢٤ تموز / يوليو ١٩٢٢، وكان هذا الصكّ منحازًا بشكل كبير إلى إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، بل إن وعد بلفور كان مذكورًا في مقدمته بصفته قاعدة مهمة من أجل تحقيق المطلب الصهيونية في أرض فلسطين، و”اعتراف بالصلة التاريخية التي تربط الشعب اليهودي بفلسطين، وبالأسباب التي تبعث على إعادة إنشاء وطنهم القومي في تلك البلاد”، كما جاء في النص. كما أن المادة الرابعة تعترف “بوكالة يهودية ملائمة كهيئة عمومية لإسداء المشورة إلى إدارة فلسطين”. وتتحدث المادة السابعة عن تسهيل اكتساب الجنسية الفلسطينية لليهود، وتشير المادة الحادية عشرة إلى إمكانية الاتفاق مع الوكالة اليهودية على “إنشاء أو تسيير الأشغال والمصالح والمنافع العمومية، وترقية مرافق البلاد الطبيعية… الخ”. أما المادة الثانية والعشرون، فتقر بأن العبرية هي لغة رسمية في فلسطين بالإضافة إلى العربية والإنجليزية.
لا عجب في وجود هذه البنود التي تضمنها صك الانتداب، إذ إن “حاييم فايتسمان”، الشخصية الصهيونية الأبرز في بريطانيا، كان قد بذل جهودًا كبيرة، مقابل حكومة بريطانيا ومجلس العموم، من أجل التوصل إلى نصّ يتوافق مع المطامح الصهيونية وروح وعد بلفور. وهذا ما كان إذ أقر نص صك الانتداب في مجلس العموم البريطاني عام ١٩١٩، أي قبل أن يوكل مؤتمر “سان ريمو” لبريطانيا انتداب فلسطين.
ليس هذا فحسب، بل إن بريطانيا كانت قد عينت “السير هربرت صموئيل” ليصبح المندوب السامي الأول على أرض فلسطين، وكان هذا وزيرًا سابقًا في حكومات بريطانية، وكان يهوديًا صهيونيًا، ومن المبادرين من أجل إصدار تصريح بلفور. على إثر تعيينه مندوبًا على فلسطين، تم إطلاق سراح معتقلي انتفاضة النبي موسى عام ١٩٢٠.
يمكن هنا اعتبار صك الانتداب بأنه وضع الأسس لإقامة حكومة صهيونية داخل حكومة الانتداب، انطلاقًا من وحي وعد بلفور، ومن أجل أن تقوم هذه الحكومة بتنفيذ الوعد عمليًا على أرض الواقع.
اليهود يثبتون أقدامهم والعرب يحتجون (١٩٢٢ – ١٩٢٩)
كانت الفترة التي امتدت من إعلان صكّ الانتداب، وانفجار الغضب الفلسطيني في أحداث ١٩٢٩، تتسم بالهدوء النسبي الذي يسبق العاصفة، إذ إن مجموع الأحداث في هذه الفترة كانت تؤدي بشكل محتوم إلى التصادم بين الشعب الفلسطيني الذي يعاني الأمرين من بريطانيا من جهة، ومن حليفتها الحركة الصهيونية من جهة أخرى.
ففي هذه الفترة تضاعف عدد اليهود في فلسطين من ٨٣ ألف يهودي عام ١٩٢٢ إلى ١٦٤ ألف يهودي عام ١٩٢٩. وتجدر الإشارة هنا أنه خلال الفترة من عام ١٩٢٥ حتى منتصف عام ١٩٢٨، كانت أعداد اليهود الذي يتركون فلسطين أكثر من أعداد من يهاجرون إليها، بحيث أصبح عددهم ثلاثة أضعاف ما كان عليه في أعقاب نهاية الحرب الكونية الأولى.
كذلك، تضاعفت مساحة الأراضي التي يسيطر عليها اليهود في فلسطين، من ٤٢٠ ألف دونم عام ١٩١٨، إلى حوالي المليون دونم عام ١٩٢٨، وكانت تزداد بشكل دائم. أما المستوطنات اليهودية، فقد زاد عددها من ٧١ مستوطنة عام ١٩٢٢ (تملك ٥٩ ألف دونم)، إلى ٩٦ مستوطنة عام ١٩٢٧ (تملك ٩٠٣ ألف دونم).
هذا التوسع كان على حساب فلاحين عرب عاشوا في قرى صغيرة، وتم تهجيرهم بشكل تام داخل حدود فلسطين، على إثر اقتناء الأراضي التي فتحوها من عائلات إقطاعية من خارج فلسطين، كعائلة سرسق اللبنانية، والتي باعت ٨٠ ألف دونم من مرج ابن عامر للمنظمات الصهيونية.
ومع إقامة المستعمرات الصهيونية، أنشأت الحركة الصهيونية قوات عسكرية ضاربة، بادعاء الدفاع عن الاستيطان، وكان البدء بتأسيس حركة الحراس في مستعمرة “شجرة” في بدايات القرن العشرين، وتطورت هذه لتصبح قوة “الهجاناة” التي تأسست تحت مظلة “الهستدروت”، وكانت هذه بالأساس قوة هجومية من أجل السيطرة على الأرض الفلسطينية؛ ومن ثم حمايتها من أصحابها الأصليين.
خلال هذه الفترة أيضًا، أصبحت نقابة العمال الصهيونية، “الهستدروت”، أداة العامل اليهودي في تنفيذ السياسة الصهيونية في السيطرة على أماكن العمل، مما أدى إلى توسيع الهوة بين العمال العرب واليهود، بسبب توفير فرص أكبر للعمال اليهود من العمال العرب، ناهيك عن أن اليهود حصلوا على امتيازات من سلطة الانتداب لإنشاء شركة الكهرباء في فلسطين، وإقامة مصانع أخرى في حيفا (مصنع نيشر ومصنع شيمن) والبحر الميت (مصنع البوتاس) وغيرها، مما ضمن أماكن عمل إضافية للعمال اليهود، وساهم في دعم اقتصاد مستعمراتهم الناشئة. كما أن الحكومة قامت بإعطاء تسهيلات وتغيير في أنظمة الضرائب الجمركية من أجل دعم المصانع اليهودية، كرفع الضريبة الجمركية على الإسمنت المستورد بأربعة أضعاف ونصف، من أجل مصنع الإسمنت اليهودي “نيشر”. ووضعت ضرائب باهظة على الزيوت المستوردة من أجل مصنع الزيوت اليهودي”شيمن”، بينما أعفت السمسم المستورد، والذي يحتاجه هذا المصنع من الضرائب، وذلك من أجل ضرب أسعار السمسم الذي يزرعه الفلاحون العرب.
أما الحركة القومية العربية، وفي مواجهة الفعل الصهيوني على الأرض، ورغم أنها كانت واعية تمامًا لخطره المحدق، فقد كانت فضفاضة تنظيميًا وأيديولوجيا، واكتفت في تلك الفترة بتنظيم المؤتمرات، وإجراء المفاوضات مع سلطات الانتداب، بل إنها كانت تهادن بريطانيا وتتقرب لها، ظنًا منها أنها ستخلف الوعود التي أعطتها للصهيونية، نتيجة للعمل السياسي الدؤوب الذي يقوم به القوميون العرب ورجالات الدين من أجل ثني هذه، أي بريطانيا، عن دعم الحركة الصهيونية وإيقاف الهجرة والاستيطان اليهودي. وكذلك لم تعمد الحركة الوطنية الفلسطينية على إقامة تنظيمات وطنية فاعلة من شأنها قيادة الجماهير التي يزداد غضبها يوماً بعد يوم، نتيجة لتوسع وتنامي القوة الصهيونية، المدعومة من الحكومة البريطانية والموعودة بإنشاء وطنها القومي على حساب الإنسان الفلسطيني. واستمر الغضب في التعاظم حتى حدوث الانفجار في نهايات شهر آب / أغسطس ١٩٢٩.
المصدر: عرب 48