مقبرة المهاجرين إلى شواطئ أوروبا الباردة
في عمليّة إنقاذ من قارب مطّاطيّ مفرغ من الهواء في وسط البحر المتوسّط، قال ناجون إنّ نحو 50 شخصًا من الّذين غادروا ليبيا معهم لقوا حتفهم أثناء الرحلة، حسبما ذكرت منظّمة الإغاثة الإنسانيّة SOS. ورصدت السفينة “أوشن فايكنج” القارب المطّاطيّ، وعلى متنه 25 شخصًا، كان اثنان منهم فاقدين للوعي وتمّ إجلاؤهم من قبل الجيش الإيطاليّ للعلاج. أمّا الأشخاص الثلاثة والعشرون الآخرون في حالة خطيرة، فقد أصيبوا بالإرهاق والجفاف وحروق بسبب الوقود على متن القارب.
وقال فرانشيسكو كريزو، المتحدّث باسم منظّمة SOS Méditerranée، إنّ الناجين كانوا جميعًا رجالًا، 12 منهم قاصرين واثنين لم يبلغا سنّ المراهقة بعد، وهم من مواطني السنغال ومالي وغامبيا. وقال كريزو إنّ الناجين أصيبوا بصدمة نفسيّة، ولم يتمكّنوا من تقديم رواية كاملة لما حدث أثناء الرحلة. وكثيرًا ما تعتمد المنظّمات الإنسانيّة على روايات الناجين لتحديد عدد الوفيات والمفقودين في البحر “الّذين يفترض أنّهم لقوا حتفهم”.
وحسب المنظّمة الدوليّة للهجرة التابعة للأمم المتّحدة، لقي 227 شخصًا حتفهم على طول الطريق المحفوف بالمخاطر في وسط البحر الأبيض المتوسّط هذا العام حتّى مارس/آذار، دون احتساب الأشخاص الجدد الّذين تمّ الإبلاغ عن فقدهم ويفترض أنّهم لقوا حتفهم.
ووصل إجماليّ عدد الأشخاص الّذين وصلوا إلى إيطاليا عبر هذا الطريق خلال هذه الفترة إلى 19562 شخصًا. وقال الناجون إنّ القارب غادر مدينة الزاوية الليبيّة، وعلى متنه 75 شخصًا، بما في ذلك نساء وطفل صغير على الأقلّ. وتعطّل المحرّك بعد وقت قصير من المغادرة، ووجدوا أنفسهم في عرض البحر.
المتوسّط مقبرة المهاجرين
عندما سافرت رئيسة الوزراء الإيطاليّة جورجيا ميلوني ووزير داخليّتها ماتيو بيانتيدوسي إلى ليبيا تمّوز/يوليو الفائت للمشاركة في منتدى الهجرة في عبر البحر الأبيض المتوسّط في طرابلس، تمنّت منظّمة البحث والإنقاذ غير الحكوميّة “سي ووتش” لهم “الحظّ السيّئ”. وفي منشور على موقع إكس، قالت المنظّمة إنّ التعاون الليبيّ الإيطاليّ “المتشائم” في مجال مراقبة الحدود من شأنه أن يزيد من وفيات الأشخاص أثناء محاولاتهم قطع البحر الأبيض المتوسّط نحو أوروبا.
لم تترك ميلوني تلك التعليقات بدون ردّ، فندّدت بمنظّمة “سي ووتش” لعدم التحدّث ضدّ المهرّبين الّذين ألقت عليهم اللوم في وفاة الآلاف من الناس في البحر الأبيض المتوسّط، وقالت إنّها سافرت إلى ليبيا “لوقف الاتّجار بالبشر والهجرة غير الشرعيّة والوفيات في البحر”.
الموقف بالغ التعقيد، إذ تسلّط تلك التصريحات المتبادلة بين ميلوني ومنظّمة “سي ووتش” الضوء على الموقف المتوتّر باستمرار بيّن للمسؤولين الأوروبّيّين والمنقذين البحريّين المدنيّين، ومن الواضح أنّ وجودهم في البحر الأبيض المتوسّط لا يزال قضيّة سياسيّة متشابكة، على الرغم من عقد كامل من عمليّات الإنقاذ الناجحة والفاشلة.
صادف في آب/أغسطس الماضي مرور 10 سنوات منذ دخلت أوّل منظّمة إنقاذ غير حكوميّة إلى وسط البحر الأبيض المتوسّط بحثًا عن قوارب المهاجرين المنكوبة، وخلال العقد الماضي، تطوّرت شبكة كبيرة من الجهات الفاعلة التضامنيّة في وسط البحر الأبيض المتوسّط، تتألّف من حوالي عشرين منظّمة ومجموعة معنيّة بالمهاجرين عبر المتوسّط.
وتعدّ منظّمة “ألارم فون” Alarm Phone، من أهمّ المنظّمات العاملة في مجال إنقاذ المهاجرين، إلى جانب العديد من المنظّمات غير الحكوميّة الّتي تعمل في مجال الإنقاذ، وتعدّ “ألارم فون” خطًّا ساخنًا للطوارئ أطلقته مجموعة من النشطاء في عام 2014، وساعد حتّى الآن أكثر من 7 آلاف قارب مرّت بمحن مختلفة في المتوسّط، وفي عام 2017 انضمّت طائرات مدنيّة إلى “الأسطول المدنيّ” لمراقبة البحر من الأعلى وتوجيه سفن الإنقاذ إلى القوارب المنكوبة، وفي عام 2019 نشأ تحالف من عدّة جهات مدنيّة يعرف باسم “مركز تنسيق الإنقاذ البحريّ المدنيّ” للردّ على فشل مراكز تنسيق الإنقاذ البحريّ الّتي تديرها الدول المطلّة على البحر الأبيض المتوسّط في تنسيق عمليّات إنقاذ قوارب المهاجرين بشكل فعّال وحسب القوانين البحريّة.
المآسي لا تتوقّف في المتوسّط. في نيسان/أبريل 2015، مثلًا، لقي أكثر من 900 مهاجر حتفهم عندما غرق القارب الّذي كان يحملهم إلى إيطاليا، وبالطبع سارع الساسة والخبراء من مختلف أنحاء أوروبا إلى تقديم تحليلاتهم لأسباب هذا الحدث المأساويّ. في معظم الحالات، تمّ دفع قضيّة عدم الاستقرار الجيوسياسيّ في ليبيا وسورية إلى الواجهة باعتباره السبب، وتمّ اقتراح مجموعة من سياسات الهجرة لمنع وفاة مهاجرين آخرين في البحر الأبيض المتوسّط. وبعد اجتماعات ومفاوضات، وافق الاتّحاد الأوروبّيّ على خطّة عمل من عشر نقاط بشأن الهجرة لمعالجة الوضع العاجل في البحر الأبيض المتوسّط. ويتألّف هذا في المقام الأوّل من تنفيذ تدابير السيطرة على الهجرة، مثل تعزيز العمليّات المشتركة في البحر الأبيض المتوسّط، أو العمليّات العسكريّة لتدمير القوارب الّتي يستخدمها المهرّبون، وتركّز الخطّة على منطقتين جغرافيّتين، ليبيا والبحر الأبيض المتوسّط، ومع ذلك، فقد أغفلت التحليلات المقدّمة عنصرين رئيسيّين لفهم الأسباب الجذريّة للمآسي واقتراح حلول فعّالة ودائمة.
كلّ الاهتمام كان موجّهًا نحو أبواب أوروبا الجنوبيّة المطلّة على البحر الأبيض المتوسّط دون مراعاة العوامل “الجذريّة” الّتي تدفع المهاجرين إلى الفرار أو مغادرة بلدانهم الأصليّة. لم يتمّ تسليط الضوء على طول الرحلة أو العقبات الخطيرة والمميتة أحيانًا كثيرة، الّتي يواجهها المهاجرون أثناءها موسم الهجرة. ما قام ويقوم بعمله الاتّحاد الأوروبّيّ في تعامله مع “النهر” البشريّ المأساويّ الكبير، والّذي يصبّ فيه عدّة من الروافد من بلدان في أفريقيا والشرق الأوسط هو ترك منبع النهر والتركيز على مجرى النهر لمنع تدفّقه في جهود منيت بالفشل لقوّة النهر وكمّيّة التدفّق.
تعدّ سنوات 2013 و2014 و2015 من أكبر السنوات الّتي شهدت هجرات عبر المتوسّط. وبحسب تحليل نشره “معهد برشلونة للدراسات الدوليّة” CIDOB تحت عنوان “المآسي في البحر الأبيض المتوسّط: تحليل الأسباب والبحث عن الحلول من الجذور إلى القوارب”، فإنّ إنّ أيّ مقاربة جيّدة وفعّالة لا بدّ أن ترتكز على جذور المشكلة، وليس فقط على سوريا وليبيا والبحر الأبيض المتوسّط. وبالرغم من أنّ هذه المناطق الثلاث تمّ تحديدها باعتبارها النقاط الجيوإستراتيجيّة الرئيسيّة للمشكلة، إلّا أنّ قلّة قليلة من المراقبين لاحظوا أنّ أغلب المهاجرين ينحدرون في واقع الأمر من بلدان ومناطق أخرى على المناطق الثلاث الرئيسيّة. في عام 2014، مثلًا، وصل أكثر من 170 ألف مهاجر إلى إيطاليا عن طريق البحر، منهم 41.941 مواطن سوريّ، في حين احتلّ المهاجرون الإريتريون المرتّبة الثانية من حيث العدد 33.451. وفي عام 2014، كان هناك انخفاض كبير في عدد المهاجرين من مالي 9.314، ونيجيريا 8.570، وفلسطين 6.024، والصومال 5.644 من الّذين وصلوا إلى إيطاليا عن طريق البحر، ولكنّ الاتّحاد الأوروبّيّ لم يسع إلى إيجاد تفسير لهذا الانخفاض.
وعلاوة على ذلك، انعكس الاتّجاه من كانون الثاني/ يناير إلى نيسان/ أبريل 2015، حيث وصل عدد أكبر من الإريتريين 3248، والصوماليّين 2566، والنيجيريّين 1991 إلى الساحل الإيطاليّ مقارنة بالسوريّين 1596، وفي الواقع، لا يحتلّ المهاجرون الليبيّون مرتبة بين الجنسيّات العشر الأولى الّتي وصلت إلى إيطاليا عن طريق البحر في عام 2014.
صعود اليمين إلى سدّة الحكم
في آب/أغسطس الماضي، احتجزت حكومة جورجيا ميلوني الإيطاليّة سفينة إنقاذ إنسانيّة للمرّة الثالثة والعشرين، حيث تكثّف إيطاليا حملتها على الهجرة غير النظاميّة عبر البحر الأبيض المتوسّط. واتّهمت منظّمة أطبّاء بلا حدود إدارة ميلونيّ باتّخاذ “قرار تعسّفيّ وغير إنسانيّ” بعد احتجاز سفينة البحث والإنقاذ المدنيّة التابعة لها، جيو بارنتس، في ميناء ساليرنو بالقرب من نابولي.
السلطات الإيطاليّة أمرت باحتجاز السفينة لمدّة 60 يومًا، وهي واحدة من أكبر عمليّات الاحتجاز في حملة استمرّت 18 شهرًا ضدّ السفن الإنسانيّة العاملة في البحر الأبيض المتوسّط، مساء الاثنين بعد أن أنزلت سفينة “جيو بارنتس” 191 مهاجرًا تمّ إنقاذهم في الميناء. واتّهمت روما سفينة “جيو بارنتس” بتعريض الأرواح للخطر والفشل في تقديم معلومات سريعة للسلطات الإيطاليّة خلال عمليّة إنقاذ ليليّة في وسط البحر الأبيض المتوسّط.
وقالت المنظّمة إنّها “لم يكن لديها خيار” سوى تنفيذ عمليّة الإنقاذ. وكان حزب ميلوني اليمينيّ المتشدّد “إخوان إيطاليا” يروّج لنجاحها في الحدّ من تدفّقات المهاجرين غير النظاميّين، بعد انخفاض حادّ في عدد الأشخاص الّذين يصلون إلى الشواطئ الإيطاليّة.
ولكنّ منظّمات إنسانيّة مثل “أطبّاء بلا حدود” و”أوكسفام إيطاليا” و”إس أو إس” الإنسانيّة اتّهمت روما بـ”عرقلة أنشطة البحث والإنقاذ المدنيّة بشكل منهجيّ”، وهو ما تقول إنّه يتسبّب الآن في خسائر بشريّة، وقد قدّمت هذه المنظّمات شكاوى رسميّة إلى بروكسل منذ أكثر من عام، مطالبة المفوّضيّة الأوروبّيّة بتحديد ما إذا كانت قواعد روما متوافقة مع قانون الاتّحاد الأوروبّيّ والقانون الدوليّ، ولا تزال بروكسل تقيم تلك الادّعاءات. وقال خوان ماتياس جيل، الّذي يقود عمليّات البحث والإنقاذ في البحر الأبيض المتوسّط الّتي تقوم بها أطبّاء بلا حدود: “إنّهم يبيعون هذا للرأي العامّ على أنّه نجاح، ولكنّ الثمن هو الموت وانتهاكات حقوق الإنسان الشديدة”.
وفي تقرير لصحيفة فاينانشيال تايمز، قال فلافيو دي جياكومو، المتحدّث الرسميّ باسم المنظّمة الدوليّة للهجرة “لا يزال نظام الدوريّات البحريّة الأوروبّيّ غير كاف. هذا العام، أصبح البحر الأبيض المتوسّط، من حيث النسبة المئويّة، أكثر خطورة من العام الماضي”. وقالت المنظّمة الدوليّة للهجرة إنّ 13763 مهاجرًا آخر يسعون إلى الوصول إلى أوروبا قد تمّ بالفعل اعتراضهم وإعادتهم إلى ليبيا، حيث يواجهون عادة السجن وانتهاكات حقوق الإنسان، حسب التقرير.
وبحسب المنظّمة الدوليّة للهجرة IOM، فقد ما لا يقلّ عن 1027 مهاجرًا في وسط البحر الأبيض المتوسّط هذا العام، مع تأكيد وفاة 424 شخصًا واختفاء 603 آخرين. ويشمل ذلك حوالي 70 شخصًا، معظمهم من سوريا وإيران والعراق، الّذين لقوا حتفهم في حطام سفينة كبيرة على بعد 120 ميلًا من الساحل الجنوبيّ لإيطاليا في أواخر حزيران/ يونيو.
وبحسب منظّمة “إس أو إس”، خسرت السفن المحتجزة ما مجموعه 480 يومًا في البحر لتنفيذ مهامّ الإنقاذ منذ بداية عام 2023، دون احتساب الاحتجاز الأخير لسفينة جيو بارنتس، وهي الثالثة لها. وفي الوقت نفسه، غالبًا ما يتمّ توجيه السفن الّتي تنقذ المهاجرين إلى موانئ إيطاليّة بعيدة لإنزال الركّاب، ممّا يؤدّي إلى إطالة رحلاتهم وتقليل وقتهم في الدوريّات.
بدورها، قالت منظّمة أطبّاء بلا حدود إنّها ستطعن في “الاحتجاز غير القانونيّ” لسفينتها في المحكمة، ولكن عادة لا يتمّ الاستماع إلى مثل هذه القضايا إلّا بعد أشهر من إطلاق سراح القوارب. وقال رئيس بعثة أطبّاء بلا حدود، خوان ماتياس جيل “الحكومة تعلم جيّدًا أنّ سرعة العدالة أبطأ بكثير من الإجراء الإداريّ. نحن نخسر المال، وكلّ هذا الوقت الّذي نقضيه في الموانئ لن يعود أبدًا”. في هذه الأثناء، قال طاقم سفينة “إم في لويز ميشيل”، سفينة البحث والإنقاذ الّتي يموّلها بانكسي، إنّهم أنقذوا 229 شخصًا من سبعة قوارب كانت في محنة في البحر الأبيض المتوسّط، بعد إطلاق سراحهم في 7 آب/أغسطس من احتجازهم الأخير لمدّة 20 يومًا.
بعد وقت قصير من تولّيها السلطة في أواخر عام 2022، أصدرت حكومة ميلوني قواعد جديدة صارمة للحدّ من قدرة المنظّمات الإنسانيّة على إنقاذ المهاجرين المعرّضين لخطر الغرق، وحذّرت من أنّ السفن الّتي تفشل في الالتزام بالبروتوكولات التقييديّة سيتمّ حجزها. ومنذ ذلك الحين، احتجزت السلطات 10 قوارب بحث وإنقاذ إنسانيّة تديرها منظّمات مختلفة، بما في ذلك واحدة يموّلها فنّان الشارع “بانكسي”، لفترات تتراوح بين 20 إلى 60 يومًا. وتمّ احتجاز بعض القوارب أكثر من مرّة.
وفي تقرير على موقع هيئة الإذاعة البريطانيّة “بي بي سي” قال شهود عيان إنّ خفر السواحل اليونانيّ تسبّب في وفاة العشرات من المهاجرين في البحر الأبيض المتوسّط على مدى ثلاث سنوات، بما في ذلك تسعة تمّ إلقاؤهم بشكل متعمّد في الماء. ووجد تحليل “بي بي سي” أنّ التسعة هم من بين أكثر من 40 شخصًا يزعم أنّهم لقوا حتفهم نتيجة إجبارهم على الخروج من المياه الإقليميّة اليونانيّة، أو إعادتهم إلى البحر بعد الوصول إلى الجزر اليونانيّة. بدوره، قال خفر السواحل اليونانيّ أنّه يرفض بشدّة جميع الاتّهامات بالأنشطة غير القانونيّة.
في تقرير “بي بي سي”، تمّ عرض لقطات لـ 12 شخصًا يتمّ تحميلهم في قارب خفر السواحل اليونانيّ، ثمّ التخلّي عنهم على زورق صغير. وبحسب ضابط كبير سابق في خفر السواحل اليونانيّ، عندما نهض من كرسيّه، وما زال الميكروفون قيد التشغيل، قال إنّه “غير قانونيّ بشكل واضح” و “جريمة دوليّة”. ولطالما اتّهمت الحكومة اليونانيّة بالإعادة القسريّة للمهاجرين نحو تركيّا الّتي عبّروا منها، وهو أمر غير قانونيّ بموجب القانون الدوليّ.
وحسب عدّة مقابلات أجرتها هيئة الإذاعة البريطانيّة يقول أحد المهاجرين إنّه، كمثل جميع الأشخاص الّذين تمّت مقابلتهم، كان يخطّط للتسجيل في الأراضي اليونانيّة كطالب لجوء. وقال “كنّا قد رسونا للتوّ، وجاءت الشرطة من الخلف. كان هناك شرطيّان يرتديان ملابس سوداء، وثلاثة بملابس مدنيّة. كانوا ملثّمين، ولم يكن بإمكاننا رؤية سوى أعينهم”. وأضاف أنّه مع مهاجرين اثنين آخرين، أحدهما من الكاميرون والآخر من ساحل العاج، نقلوا إلى قارب خفر السواحل اليونانيّ، حيث اتّخذت الأحداث منعطفًا مرعبًا، حسب التقرير.
“بدأوا بالكاميرونيّ. ألقوه في الماء. قال الرجل الإيفواري: “أنقذوني، لا أريد أن أموت” ثمّ في النهاية لم يبق فوق الماء سوى يده، وجسده تحته. “نزلت يده ببطء تحت الماء، وغمرته المياه”. ويقول المهاجر الّذي تمّت مقابلته أنّ خاطفيه ضربوه. “كانت اللكمات تنهال على رأسي. كان الأمر وكأنّهم يضربون حيوانًا”. ثمّ قال إنّهم دفعوه أيضًا إلى الماء دون سترة نجاة. تمكّن من السباحة إلى الشاطئ، لكنّ جثّتي الاثنين الآخرين، سيدي كيتا وديدييه مارسيال، تمّ انتشالهما على الساحل التركيّ. ويطالب محامو الناجي من السلطات اليونانيّة فتح قضيّة قتل مزدوجة.
وتعدّ اليونان من المداخل الرئيسيّة للمهاجرين عبر المتوسّط إلى أوروبا. في العام الماضي وحده، بلغ عدد الوافدين عن طريق البحر إلى أوروبا أكثر من 263 ألفًا، استقبلت اليونان أكثر من 41 ألفًا منهم، ما يعادل 16%. ووقعت تركيّا اتّفاقًا مع الاتّحاد الأوروبّيّ في عام 2016 لمنع المهاجرين واللاجئين من العبور إلى اليونان، لكنّها قالت في عام 2020 إنّها لم تعد قادرة على فرضه.
وفيات المتوسّط بالأرقام
في عام 2023، قدّر عدد المهاجرين الّذين لقوا حتفهم أثناء عبور البحر الأبيض المتوسّط بنحو 3105 مهاجر. وبحلول تشرين الأوّل/ أكتوبر 2024، سجّلت 1620 حالة وفاة. ومع ذلك، حسب موقع الاحصائات “ستاتيستيكا” Statistica.com، لا يمكن التأكّد من العدد الدقيق للوفيات المسجّلة في البحر الأبيض المتوسّط.
وبحسب موريس ستيرل، الباحث في معهد أبحاث الهجرة والدراسات الثقافيّة في جامعة أوسنابروك في ألمانيا، تظلّ منظّمات الإنقاذ غير الحكوميّة تشكّل مشكلة أيضًا بالنسبة للدول الأعضاء في الاتّحاد الأوروبّيّ؛ لأنّها حاسمة في الكشف عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان الّتي تتورّط فيها جهات فاعلة من الاتّحاد الأوروبّيّ وحلفائه في شمال إفريقيا. وبفضل هذا الوجود غير المرغوب فيه فقط، أصبحت حالات لا حصر لها من عدم مساعدة قوارب المهاجرين وكذلك ممارسات الإعادة القسريّة العنيفة أو حتّى القاتلة، وأصبحت تتمّ تلك الممارسات معروفة بشكل علنيّ واضح للجميع، خاصّة مع صعود اليمين في أوروبا. وبالتّالي، تظلّ منظّمات الإنقاذ غير الحكوميّة شوكة في خاصرة حكومات ومؤسّسات الاتّحاد الأوروبّيّ؛ لأنّها تكشف ما يسعى إلى إخفائه: الجرائم المنهجيّة الّتي ترتكبها أوروبا على الحدود.
حتّى اليوم تظلّ الهجرة مشكلة سياسيّة للعديد من الدول الأعضاء في الاتّحاد الأوروبّيّ. بالطبع، يرجع هذا إلى جهود الإنقاذ الّتي لا هوادة فيها، والّتي أدّت إلى إنقاذ المهاجرين وإيصالهم إلى شواطئ الأمان في أوروبا في واحدة من أكبر طرق الهجرة مأساويّة في القرن العشرين. من يقطع الصحارى والبحار، ويعرض حياته وعائلته أحيانًا للموت لم يغادر إلّا مجبرًا، فكان ركوب البحر بالنسبة لهم المحاولة الأخيرة للحصول على العيش الكريم. أولئك الأشخاص، وصل عددهم إلى أكثر من 2.5 مليون شخص في العشر سنوات الماضية، ولكن كان يفضّل صنّاع السياسات والسياسيّين في الاتّحاد الأوروبّيّ أن يتمّ اعتراضهم وإعادتهم إلى أماكن مغادرتهم، حتّى على حساب سجنهم في معسكرات التعذيب!
المصدر: عرب 48