لعب دور السفّاح والضحيّة!
ما حدث في أمستردام قبل وخلال وبعد مباراة كرة القدم بين مكابي تلّ أبيب وفريق أياكس الهولنديّ، كان صورة مصغّرة لما تمارسه حكومة الاحتلال في الواقع، فقد جاء ردّ فعل مئات من العرب المغاربة على نحو خاصّ، وبعض العرب والأتراك على استفزازات جمهور مكابي تلّ أبيب، الّذي ضرب كلّ قواعد الأدب والروح الرياضيّة الّتي يفترض أن يتحلّى بها الضيوف في أيّ بلد كان.
هتافات تتغنّى بإبادة أطفال قطاع غزّة، “لا مدارس في غزّة؛ لأنّه لا يوجد أطفال”، و”الموت للعرب”، إضافة إلى تمزيق أعلام فلسطينيّة معلّقة على بعض المنازل، وهذا يعني ببساطة اعتداء على حرمة البيوت، وعلى حرّيّة ساكنيها، ومن ثمّ التصفيق والهتاف لهذا، ثمّ عدم احترام الوقوف دقيقة حداد على ضحايا الفيضانات في إسبانيا قبل بدء المباراة، تصرّف غوغائي قلّما تشهد مثله مدرّجات كرة القدم في العالم كلّه، حيث أنّ الوقوف دقيقة صمت على ضحايا كارثة طبيعيّة يوحّد بين الشعوب والأمم.
ردّ الشبّان المغاربة على الاستفزاز، وتحوّل الغوغاء خلال دقائق إلى مساكين ينتحبون، ويطلبون السماح بل وراح بعضهم يهتف “فلسطين حرّة”، خوفًا من المزيد من الصفعات والركلات.
لا نتمنّى مثل هذا الموقف لأحد، لا لعربيّ ولا ليهوديّ، ولا لغيرهم، فهو موقف مخيف بالفعل، ولكنّ البعض يسبّب هذا لنفسه بغروره وهمجيّته.
فورًا تلقّفت سلطات الاحتلال الإسرائيليّ تصوير ما حدث بأنّه لاساميّة، وكراهية لليهود، ووصفته بليلة كريستال جديدة مثل تلك الّتي حدثت في أوروبا، وراحوا يتحدّثون عن الأيّام المظلمة في تاريخ أوروبا، ويقصدون فيها الحقبة النازيّة والمحرقة اليهوديّة. وصاحب هذا تحريض سافر ضدّ العرب والمسلمين الّذين “يهدّدون قيم الحرّيّة في أوروبا والعالم الحرّ”.
لتوضيح الصورة، فإنّ ليلة الكريستال وقعت في ليلتي التاسع والعاشر من تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1938، حيث قامت قوّات الشرطة والأمن الألمانيّ بتحريض من النازيّين الّذين كانوا في سدّة الحكم تحت قيادة أدولف هتلر بالهجوم على بيوت ومتاجر ومؤسّسات اليهود في ألمانيا والنمسا، دمّر الغوغاء خلالها حوالي 7000 منشأة مدنيّة مملوكة لليهود من مدارس ومستشفيات ومحلّات تجاريّة، وحوالي 1000 كنيس، وقتل فيها 91 يهوديًّا، واعتقل عشرات الآلاف منهم.
لا أعرف بأيّة مشاعر وأيّ فكر يمكن تشبيه ما حدث في أمستردام، بليلة البلّور في ألمانيا النازيّة!
طبعًا لا يوجد أيّ تشابه لا من بعيد ولا من قريب، ولا في الخلفيّة الّتي وقع فيها الحدث، اللهمّ إلّا حرب الإبادة الّتي تدور في قطاع غزّة وفي لبنان. ونتنياهو ليس غبيًّا، فهو يعرف أنّه لا يوجد أيّ تشابه، ولكنّها فرصة يجب أن يستغلّها.
خلفيّة الحدث هنا هي استفزاز جمهور كرة قدم ورد عليه، على خلفيّة حرب إبادة تقوم بها دولة الاحتلال منذ أربعمئة يوم.
لم يأت التشبيه كخطأ من المفروض أن يستفزّ ضحايا النازيّة قبل غيرهم، بل هو جزء من الحرب الإعلاميّة، فقادة الاحتلال يريدون مواصلة بثّ دور الضحايا المدافعين عن أنفسهم، وأنّهم ليسوا هم الّذين يقومون بدور الإبادة والإجرام!
يريد قادة الاحتلال على رأسهم بيبي نتنياهو لعب دورين متناقضين، دور السفّاح المجرم الّذي لا يخشى عواقب أفعاله بما في ذلك محكمة العدل الدوليّة وغيرها، ويتباهى بأعداد القتلى الّتي يحقّقها في كلّ يوم بغضّ النظر عما إذا ما كان الضحايا أطفالًا أو نساء أو مسلّحين أو مدنيّين، ويتباهى بمسح عشرات آلاف البنايات في فلسطين، ومسح قرى كاملة في لبنان، بل إن صحفياً إسرائيلياً (كوشماروف) يتباهى بتفجير مبنى في جنوب لبنان، ما يشير إلى المستوى المنحطّ الّذي بلغه الإعلام والصحافة في إسرائيل، ويصوّر الجنود فيديوهات راقصة مع نسف مبان مدنيّة، جامعات، ومعسكرات خيام ومستشفيات.
يرقصون وهم يلقون على قطاع غزّة من المتفجّرات أكثر ممّا أسقطته ألمانيا النازيّة على لندن، وأكثر ممّا أسقطه الحلفاء على برلين في الحرب العالميّة الثانية.
يريدون لعب دور الوحوش الجبابرة الّذين لا شفقة ولا رحمة في قلوبهم كي يرهبوا الفلسطينيّين والعرب، ولكنّهم في الوقت نفسه يريدون أن يلعبوا دور المساكين المستضعفين الّذين تعرّضوا لمجزرة في أمستردام. يبدو أنّ قادة حرب الإبادة الّذين باتت تلوح فوق رؤوسهم محكمة لاهاي، يحاولون الظهور مرّة أخرى كضحايا للاساميّة وكراهية اليهود، ويطالبون العالم وأوروبا بأن يستيقظوا من خطر المسلمين والعرب، في الوقت الّذي يمارسون هم بالفعل جرائم حرب وإبادة أمام أعين وأسماع العالم كلّه، بتواطؤ وشراكة أميركيّة ألمانيّة، طبعًا ولا ننسى فضل وإسهامات بعض العرب في حربهم هذه.
المصدر: عرب 48